يتمتع العرب منذ ما يزيد عن 200 عام تقريباً بإنجازات الأمم الأخرى والتي تشمل المجالات العلمية والفكرية، بل حتى شملت مجالات الحياة اليومية من مأكل ومشرب وملبس. وتطورت عملية الإعتماد على جهود عقول العالم حتى أصبحت عادة سلبية متأصلة في حياة العرب يصعب التخلص منها، ومن المعلوم أن من أصعب ما يمكن أن يواجهه الإنسان هو تغيير عادات معينة لدى شعبٍ ما أو حتى تغييرها على مستوى عائلة صغيرة، هذا أمرٌ شاق وإحتمالية فشله قد تصل إلى 90% في معظم الأحيان.
ولكن ما نحن بصدده اليوم هو طرح قضية الإستهلاك العربي على المستوى الثقافي، فالمراقبون لأحداث القرن الثامن عشر والتاسع عشر وإلى يومنا هذا، يدركون مدى تفاقم مشلكة الإستهلاك الغير مبرر لدى العرب وإعتمادهم على الغرب بشكل أساسي، فمن عز الأندلس وأستاذية العالم إلى خمولٍ وإتكاليةٍ يفوقان التصور، كانت الدنيا تحت أقدامنا، والآن أصبحت أقدام الدنيا فوق رءوسنا، يقول الله تعالى في مُحكم التنزيل: { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } آل عمران من الآية 140.
وبغبائنا أصبحت الدولة لغيرنا، ومنذ ذلك الحين أصبح العرب يتنافسون على إرسال أبنائهم إلى الجامعات الغربية ليس فقط لتفوقها، بل لأنهم يرغبون في أن يتعلم أبناؤهم العادات الحميدة وطرق التفكير المتطورة النابعة من الإيجابية الشاملة، كما أصبحت الدول تنتدب مبتعثيها إلى الخارج لتعلم مهاراتٍ شتى بما فيها السياسية والعسكرية، وخير شاهدٍ على ذلك ما قام به الوالي المصري “محمد على باشا” عام 1826م بإرسال مبتعثين مصريين إلى فرنسا، حيث تميَّـز في هذه البعثة الإمام المفكر والأديب “رفاعة الطهطاوي” الذي كان له دوره الكبير في مسيرة نهضة الحياة الفكرية والتعليمية في مصر، ومازالت دولنا العربية تبتعث مواطنيها إلى الخارج حتى يومنا هذا.
لاحظ مثلاً المنشئات المتميزة والرائدة في الوطن العربي، يقوم على إدارتها رؤساء أجانب ليسوا من العرب، وإن كانوا عرباً، فمن المستحيل أن يكونوا من خريجي الجامعات العربية، ستجد جميعهم من خريجي جامعات أمريكا الشمالية وبريطانيا، لأن المدير العربي الحاصل على تعليمه من جامعة عربية لا يصلح لإدارة كشك عدا عن أن يُدير منشئاة! وذلك لأن الإدارة تتطلب مهارات وعادات إيجابية، فكر نيِّـر متفتح، عقل متطور غير راكد، وهذا كله لا تستطيع أن تجده في المجتمعات العربية أو في دور التعليم العربية.
ومن جهةٍ أخرى، يشعر المثقف العربي صاحب المشروع النهضوي بإحباط إزاء التجاوب الضعيف لما يؤلِّف ويبتكر، شيء مؤلم يدعو إلى إضعاف الهمَّـة لدى المثقفين الذين يضطرون بدورهم للبحث عن مجتمعات مثقفة واعية خارج الوطن العربي من أجل تبادل الخواطر والأفكار. هنالك تقصير كبير في تحويل ما نقرأ إلى واقع حقيقي، فلو أخذنا على سبيل المثال الموسوعة العلمية للدكتور “عبدالوهاب المسيري” المعنونة بإسم “اليهود واليهودية والصهيونية”، أتساءل يا ترى، كم من زعيم عربي وإسلامي قد قرأ الموسوعة بتأنٍ ورتب نظرته لإسرائيل بناءً على نظرة المسيري الأكاديمية؟ أيٌّ منهم حوَّل الموسوعة إلى إستراتيجيات وسياسات وخطط عمل؟ لا أحد! في الوقت الذي تعتمد فيه الولايات المتحدة على منظريها وأكاديميها 100% أمثال “نعوم تشموسكي” و“نوح فيلدمان” و” توماس فريدمان” وغيرهم من الأكاديميين، تباً كم هو شئٌ محبط، ولكني في الحقيقة أشك في قدرة السياسيين العرب على فهم موسوعة الدكتور المسيري إن قرءوها!
ومما يزيد فجوة اليأس في نفسك ويجعلك في سقمٍ دائم، وجود طبقة تدَّعي الثقافة والمعرفة وتحب أن تستمع لأفكارك وكتاباتك المتميزة، بل تجد أبدانهم تقشعر وعيونهم تذرف إعجاباً بما تقول، ولكنك بالنسبة إليهم لا تتعدى إسطوانة جميلة يرغبون بالإستماع إليها وقت ما يشاءون، وليتهم يطبقون ما يسمعون منك أو حتى ما يقرءون من غيرك.
أعجبني تعليق قرأته في مدونة “رءوف شبايك” في نفس السياق، يذم فيه تعليقات وصلته من تلك الفئة المستهلكة للثقافة دون فائدة فيقول: ( أما أطرف الرسائل والتعليقات فهي تلك التي تطلب المزيد من قصص النجاح، ما يجعلني أشعر وكأني مطرب في حانة، وعلي الاجتهاد في الإطراب وإلا فالويل والثبور. صراحة أشعر بالرثاء لهذه الطلبات، فهؤلاء أظنهم يريدون المزيد لكي تدمع العين وتزفر الأنف وتتحسر القلوب، ثم تطلب المزيد، ولأولئك أقول: قل لي ماذا فعلت بما قرأته بالفعل من قصص قبل أن تطلب المزيد؟ )، ويذكرني هذا التعليق بموقف رواه عطاء عن فتى كان يختلف – يتردد – إلى أم المؤمنين عائشة، فيسألها وتحدثه، فجاءها ذات يوم يسألها ( فقالت: يا بني هل عملت بعد بما سمعت مني؟ فقال: لا والله يا أماه، فقالت: يا بني فبما تستكثر من حجج الله علينا وعليك ).
إستهلاك ثقافي مستمر وطلب متزايد دون فائدة، فلو نظرنا إلى مسألة تأليف الكتب، لوجدنا أنَّ المكتبة العربية تحوي بداخلها ما يزيد عن 80% من مؤلفات كتب مترجمة إلى العربية أو مخطوطات قديمة طبعت حديثاً، و20% فقط مؤلفات عربية، وهذا بحد ذاته يُشكل مشكلة للثقافة العربية ونتاجها الفكري، فالمطلع على المترجمات الوافدة يجد أنها لا تناسبنا نحن العرب ولا تناسب ثقافتنا وواقعنا الحقيقي الذي نعيشه، فهي خلقت وألِّفت للمجتمع الغربي، وهذا ما يجب أن تراعيه المكتبات العربية في جمع وترجمة كل ما يصدر في الخارج، بالإضافة إلى رداءة الترجمة التجارية وركاكتها التي لا تعكس فهماً حقيقياً لثقافة اللغة التي ألِّف بها الكتاب، كما يجب على الكُتَّاب العرب مراعاة هذه المسألة في عدم الإعتماد تماماً على المؤلفات الأجنبية في تأليف كتبهم، فطريقة القص واللصق فشلت فشلاً ذريعاً، الكثير من المشاكل العربية لا تستطيع الكتب الوافدة حلها.
فلو أخذنا على سبيل المثال فشل إدارة المشروعات في الوطن العربي، ستجد أنَّ السبب يكمن في إعتمادها بشكل أساسي على الكتب والمناهج المترجمة، فالكثير منها بلا فائدة ولا يصلح للتطبيق في مجتمعاتنا العربية، لابد من أن تؤلَّف كتب في إدارة المشروعات تُراعي الثقافة العربية وقيمها، إضافةً إلى الأنماط الفكرية المتأصلة في منطقتنا. وخذ أيضاً مثال الحميات الغذائية المستوردة، أستطيع الجزم بفشلها بالكلية في مجتمعاتنا العربية، لأنها صممت لأناس مختلفين عنَّا تماماً في طريقة الأكل والشرب والبنية الجسدية والثقافة الغذائية، بل الإختلاف يشمل حتى أنواع الطعام، فأنت تجد حمية تخفيف الوزن تشمل قائمة طعام وأنواع من الفواكة والخضراوات غير موجودة أصلاً في بلادنا العربية، وأكثر من ذلك فإنَّ توزيع السعرات الحرارية على الوجبات غير متناسق مع الدول الحارة مثل دولنا في الشرق الأوسط، فيبدأ المواطن العربي المسكين في تطبيق الحمية الغربية التي لا تناسبه على الإطلاق، وبعدها يشعر بالوهن والضعف حيث لا يتمكن من تأدية عمله بسلام، فيكسر الحمية ويعود إلى طعامه الإعتيادي بشراهةٍ أسوأ من السابق، وهذا تقصير كبير من الأطباء العرب وخبراء التغذية الذين يستوردون كل شيء على حاله دون أن يكلفوا أنفسهم بدراستها وإبتكار ما هو مناسب لمنطقتنا.
بمعنى آخر، نحن بحاجة إلى عرب متخصصين ومجتهدين، فلابد من أن نفقه مسألة البيئة والعادات والتقاليد والثقافات، وهذا مع الأسف لا يهتم به أحد مع أنه في صميم ديننا الحنيف، وخير مثال على ذلك ما قام به الإمام “الشافعي” رحمه الله عندما هاجر من بغداد إلى مصر، واختلف عليه المكان، فأصدر نسخة جديدة من كتابه المسمى بالـ “الأم” يضم فتاوى تلائم ما شاهده وعاصره في مصر. وهذا مبدأ مهم ذكره الدكتور “إبراهيم المنيف” في كتابه “إستراتيجية الإدارة اليابانية” والذي يطرح فيه كيفية بناء اليابانيين لإستراتيجيتهم الإدارية بما يُلائم مناخهم وبيئتهم وإحتياجاتهم بعيداً تماماً عن التقليد الأعمى للغرب، مع العلم أن مبادئ الإدارة الأمريكية كان لها الدور الأكبر في نهضة الإدارة اليابانية الحديثة، ولكن اليابانيين كانوا أكثر فقهاً من العرب، فطوعوا علم الإدارة وطوروه بما يناسبهم ويلائمهم حتى أصبحوا متميزين في ذلك المجال.
أمتنا العربية بحاجة لكل جهد عقلٍ وساعدٍ وقلم، البعض يقول أن الحياة أصبحت صعبة ولا نجد أي وقت لكي نجتهد في تأليف أو إختراع شيءٍ ما، عدا عن أن نطبق ما نسمع أو نقرأ، وأنا أقول إلى متى هذه الحال؟ لماذا العالم كله يجد وقتاً للقراءة والعمل، ونحن لا نستطيع حتى أن نطبق ما نشاهده في التلفاز من برامج مفيدة؟
وختاماً، أذكِّر القراء الأعزاء بما ذكرته سابقاً في مقالة “وقفات مع رجل المشروع” حين خلصت إلى نقطة مهمة قلت فيها: ( إجعل لنفسك مشروعاً في الحياة، وإن لم تستطع، شارك من حولك في مشروعاتهم )، فلا ينبغي لك أن تكون مجرد جزء خامل ضمن منظومة لا تستطيع إضافة أي زيادة مفيدة عليها حتى ولو كانت طفيفة.
بلا ريب، وهناك أيضاً تقليد أعمى لكل ما يأتي من الغرب وتحديداً في ميادين وسائل الإعلام. وإذ أشعر بانزعاج كبير لكيفية البرامج الترفزيونية المأخوذة من الغرب، حيث أنه تم نسخها وبثها نسخة طبق الأصل لما هي عليه في الغرب دون أدنى مراعاة لمحتواها إذا كانت تطابق مجتمعنا أم لا. إذا أخذنا قدرات الغرب التقنية في صنع البرامج التلفزيونية، فلا بأس في ذلك، ولكن نحن نقوم بتقليد أعمى للشكل والمضمون، ومثالاً على ذلك البرامج الحوارية والفيديو كليب. أنا متلهف جداً لرؤية إعلام مُخرَج بأصالة من المسلمون وللمسلمين ذو جودة عالية لتجعل الغرب يرى ضرورة إعتماد مفهوم أصيل، أنا أطأطأ رأسي وأهزها إنزعاجاً عندما أرى الفيديو كليب العربي والذي لا يمثل أي شيء من واقعنا الحقيقي، نجاح وسائل إعلامنا – مثلاً – سيحدث فقط إذا إنطلق من واقعنا سواء كان إعلاماً ترفيهياً أو إعلاماً ثقافياً كالبرامج الحوارية والتي تطرح مشكلاتنا وتعالجها، واسمحوا لي أن أضيف أن الجودة في الإعلام العربي متدنية وسيئة للغاية والتي تظهر تصنعاً مبالغاً فيه حيث أنه لا وجود للحقيقة والطبيعة التلقائية والتي هي مفتاح النجاح. لقد إستخدمت الإعلام العربي كمثال لدعم ما كتب في المقال عن كيفية الإعتماد على الغرب والإستهلاك المتكرر والعنيف والذي لا يظهر القيمة الحقيقية لنا كمسلمين.