لولا التقوى

|

حسين يونس

يُزعجني تفلسف بعض أفراد المجتمع العربي كالسياسيين والوزراء ومديري المنشئات ورجال الأعمال والأموال وغيرهم من أصحاب المناصب الكبيرة النافذة الذين يُعتبرون من الطبقة المرموقة أو حتى الطبقة البرجوازية – الوسطى – التي تجد في نفسها القدرة على العبور إلى الطبقة الأعلى، فالإنزعاج يكمن في قيام المذكورين أعلاه بإزدراء طبقات المجتمع الأخرى والتحقير منها والتقليل من شأنها، وذلك لأنهم يرون في أنفسهم الذكاء والدهاء والشأن الأعلى بخلاف طبقات المجتمع الأخرى، مع العلم أن الطبقات الأخرى تحوي في داخلها عدداً أكبر من المفكرين والأكاديميين حملة الشهادات العُـليا والمثقفين. شيء غريب شغل فكري وتفكرت فيه مليَّاً وأدى بي إلى التساؤل: هل أصحاب الطبقة المرموقة هم الأفضل حقاً؟ هل هم على درجة عالية من الذكاء والدهاء؟ أم في الأمر شيءٌ آخر لا أدركه؟

في الحقيقة، قادتني الصدفة المحضة للتعرض لبعض حالات النجاح المزعوم في الوطن العربي، ووجدت للأسف أن نجاحاتهم كانت عبارة عن إحتيالات رخيصة لا تحتاج لأكثر من إتقان التملق والنفاق والرشوة، وإنتهاك المحرمات وبناء المعوقات أمام الآخرين والرقص على جثثهم والخوض في أعراضهم. حرفة رقيعة أتقنها الكثير ممن يدَّعون النجاح والذكاء والتميَّـز – إلا من رحم ربي – والأنكى من ذلك أنك عندما تجالسهم في غرف الإجتماعات المغلقة، تُدرك مدى جهلهم وقلة خبرتهم وضعف مهاراتهم الإدارية، وتتساءل بعدها: كيف تمكنت هذه الشرذمة من الوصول لمثل تلك المناصب المهمة والحساسة؟ من هو الأخرق الذي منحهم الضوء الأخضر للعبور والإرتقاء حتى أصبحوا من أهل الحلِّ والعقد؟

في الحقيقة هذا شيء وارد حتى في مجتمعات العالم الغربي المتقدمة، هو ليس محصوراً فقط في مجتمعات الوطن العربي، ولكن وجوده العربي يصل إلى درجة عالية من القبح، وأجمل ما سمعت في حق هذه الشرذمة، هو ما قاله أمير المؤمنين الفاروق “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه وأرضاه الذي قال: ( لولا التقوى لكنت أدهى العرب )، أي لولا مخافة الله والورع للعبنا بالدنيا كلها ولأرينا العالم منا العجب العجاب، لولا حب الحلال وكراهية الحرام لما تمكن منا أحد، لولا الرغبة في الوفاق ونبذ الفتنة لاعتلينا أعلى المناصب كما اعتلاها بنو إسرائيل وهم شرذمة حقيرة لا تزيد عن 13 مليون نسمة تحكم العالم وتسيطر عليه بعقيدة (فرِّق تَسُد)، لولا رسالة الإسلام التكليفية ومبادئها الطاهرة النقية والتي تأمرنا برعاية المجتمعات بما فيها المسلم والكافر لأذقنا العالم ويلات الذل كما تفعل الولايات المتحدة في المسلمين والعالم كله من مبدأ (عكِّر الماء تصطاد السمك)، لولا تقوى الله التي قيدتني وخوفي منه ومن يوم الحساب… لكنت أدهى العرب وأذكاهم وأمكرهم، رضي الله عن الفاروق، نطق بخير الكلام وأدلى بخير بلاغة.

ولكنه قال أيضاً رضي الله عنه ( لست بالخِب ولا الخِب يخدعني )، صحيح أني لست بداهية… ليس لأني لا أملك العقل والدهاء… بل لأني مقـيَّـد بتقوى الله، ولكن الداهية لا يستطيع خداعي. ومن المهم لفت أنظار القراء الأعزاء أن هذا التقييد على المسلم واجب وليس إختياري، لابد من إدراك أن هنالك معادلات تحكمنا، فليس من المقبول في شرعنا أن نعيش بمبدأ (الغاية تُبرر الوسيلة).

فالقضية لا تحتاج إلى كثير من الذكاء حتى تسيطر على الآخرين أو تتصدرهم، القضية تحتاج فقط إلى الخيانة والأنانية والكذب وسرقة جهود الآخرين، عندما يتكلم السياسيون تجدهم يُخرجون كلاماً ركيكاً مستخفِّين بشعوبهم، ساخرين من عقولهم، واهمين أنهم قادرون على الإستمرار في الكذب على مجتمعاتهم بدهائهم العالي المنقطع النظير، شيء غريب. ألا يعلم هؤلاء السياسيون أنَّ شعوبهم أذكى منهم وأنهم مدركون لمدى سخافتهم وكذبهم، ولكن ما باليد حيلة، فالشعوب العربية ذات الحكومات البوليسية لا تستطيع حتى أن تزفر أنفاسها باعتراض خاطف، فإن كان هذا هو الذكاء والدهاء والتميَّـز… فأنا عاجز عن التعليق!

ولتقريب الصورة أكثر للقارئ بقياسها على قطاع الأعمال مثلاً، فقد أستطيع أن أحظى بأي مشروع لمنشأتي التي أعمل بها إن لم يضعوا عليَّ أي قيود شرعية أو أخلاقية، بمعنى آخر المسألة لا تحتاج إلى ذكاء أو دهاء، خَطّط فقط كيف ستوصل الرشاوي من المال النقد وتذاكر السفر حول العالم والهدايا الثمينة إلى صانعي القرار لدى الزبائن والعملاء، وإجتمع معهم في الظلام، والفوز سيكون حليفك وحدك بكل تأكيد. فقضية التنازل عن الضمير والمبادئ من أجل الوصول إلى أعلى المناصب ليس شيئاً صعباً ولا ذكاءاً ولا حنكةً كما ذكرت آنفاً، ولكن الذكاء الحقيقي هو أن تفوز بتلك العطاءات والمشروعات وأنت مُقيد بالتقوى والقيود الشرعية، هنا المهارة والحذاقه، هنا الأمر يتطلب إحترافية عالية وتخطيطاً إستراتيجياً مُتقَناً مع إدراك تام لما يدور حولك في السوق.

وأختم بقصة حقيقية، كنت مُطَّلعاً على أحداثها لأكثر من عشرين عاماً، حيث تعرفت على شخص في فترة مراهقتي وقد كنت أحسبهُ من الأذكياء والعباقرة، فقد كان متخصصاً في مجال الإقتصاد وإستثمار الأموال، وكان يدَّعي أنه من أهل الذكر والتقوى، وأن جميع من عَمِلَ معهم يُصَّرحون له بإستمرار أنهم لا يستطيعون الإستغناء عنه ولا عن خدماته، والجميع من حوله صدقوا ذلك. وبدأ حياته بتسويق هذه الدعاية التي ذاع صيتها على مستوى الحكومة في بلده، وأصبح يُدعى إلى بعض اللقاءات المرئية على شاشة التلفاز لكي يُدلي بدلوه في السياسات الإقتصادية التي تخص البنوك على وجه الخصوص والدولة عموماً، وإستمر في حياته على نفس الوتيرة إلى أن كشفه الله سبحانه وتعالى بسبب خلاف عائلي أدى به إلى فضيحة مُذلِّة كشفت كل أموره القديمة والحديثة، الخاصة منها والعامة. فعلى المستوى المهني إتضح أنه ليس على هذا القدر من الذكاء والحنكة، وأنه قد حَظِيَ بفرص العمل في منشئات عدة بواسطة علاقات والده وعائلته، أضف إلى ذلك أنه قد طُرد من أغلب المنشئات التي عمل بها بسبب إستخدامه لطرق ملتوية في العمل وسوء تعامله مع زملائه، والنتيجة الآن أنه عاجز عن الإستمرار في كذبته التي روَّجها لنفسه في بداية حياته وأصبح منبوذاً لا يقبله أحد، مع العلم أن من زملائه في الدراسة الجامعية من أقرَّ بأنه كان هكذا منذ نعومة أظفاره.

 

3 رأي حول “لولا التقوى”

  1. أشكر تعليق “فلوفار البشيتي”.

    ولكني أود أن أنوه إلى أن الطبقة البرجوازية هي الطبقة الوسطى في المجتمع وليست الطبقا العليا، ومعنى البرجوازية يُخطئ في معناها معظم الناطقون باللغة العربية.

    لعلك قصدت الطبقة العليا في تعليقك وليست الوسطى.

    رد
  2. عفوا احب ان اعطي ملاحظه هامه.
    الفرق بين الطبقه المرموقه والطبقه البرجوازيه .
    1-الطبقه المرموقه البعيده عن العين نرمقها من بعيد لانحتاج نطيل النظر اليهم .هذه الطبقه ترمزالى علو المناصب مع الثقافه والعلم ضروري جدا لهم طبعا اضافه الى حفظ الاسرارفي شؤون الدوله او الشركات او المؤسسات الكبرى وهذه المناصب لاتدوم طويلا الا لمن خشي ربه وعمل عملا صالحا.وهن يتسلل بينهم ذات النفوس الضعيفه اللذين يؤولوا للسقوط مهما طال عملهم لان عملهم لايكون يرضي الله سبحانه وتعالى .
    2-الطبقه البرجوازيه سهل النظر اليها لانها تزغلل النظر في الاول اليهاوهنا يكمن عمل الشيطان الرجيم .
    انها ليست برجوازيه راقيه لمعظم الناس في ايامنا هذه بل هي برجوازيه ساقطه الى ابعد الحدود بعيده عن العلم والثقافه بل تقاس بالمال.
    عندهم فقر بالعاطفه ليحوطوا افراد استرهم من الضياع والفشل الذريع وهم لا يعلمون النهايه تلك هي المصيبه الكبرى .
    هم في نظرهم هي المباهاه بتغير السيارات بشكل دائم والاقامه في قصور وفلل وشقق فخمه التي تحتوي بين حوائطهاعلى فشل ذريع وفسق فظيع مع الاسراف في الاموال في معصية الله سبحانه وتعالى .
    اما من رحمه الله الذي كان يعيش في اتقاء الله في اعماله وتصرفاته فيغدق الله عليهم زياده في النعيم .
    اخي الكريم موضوعك جميل جدا مهما كتبنا لانوفيه حقه لاننا نعيش فيه وجزاك الله كل خير عننا ويكون في ميزان حسناتك .

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    رد
  3. من هي الطبقه المرموقه وما معناها أولاً؟

    هي عبارة عن المراكز العالية في الدولة والقريبة من العائلات المالكة، ومن القدم يوجد هذا القانون، لكن اليوم يُعبَّر عنها بالطبقة المرموقة التي تعتمد على المال والعلم والثقافة، فيملكون سُبل الحياة الرفيعة والتي تليق بمراكزهم.

    الآن معظم الناس يطمحوا لهذا المنصب، مع أنني شخصياً لا أجده مريحاً للنفس، لأنه مراقب أكثر من أي إنسان عادي ومعرض للخطر، لكن بعض النفوس المريضة وصلوا إلى تلك المراكز ليس بشرف أو علم أو ثقافة، منهم قسم تسلل إلى تلك المراكز بالذكاء والدهاء، والبقية وصلوا على أكتافك يا أخي الكريم. ما هي الطريقة التي وصل بها؟ وماذا فعل ليصل؟ هل يستطيع الذي يُغضب الله أن يعيش في أمان؟ بالطبع لا… في النهايه سيئول إلى السقوط مهما مكث في مكان، وستكون النهاية قريبة.

    فالحقيقة يوجد في هذه الطبقة من هو الأفضل ومن هو الأسوأ.

    رد

أضف تعليق