كلنا يعلم من هو ساعي البريد والمهمة التي يقوم بها، فهو يقوم بإيصال البريد المُرسَل من طرف إلى آخر، وتبدأ عملية البريد من الطرف الأول الذي يرغب بإرسال رسالة ما إلى طرف آخر، ومن الممكن أن تحتوي هذه الرسالة على أسطر شوق من حبيب، أو نقود، أو هدية، أو أوراق رسمية، أو رسائل دعائية، المهم أنها أرسلت بناءاً على طلب المُرسل ( الطرف الأول ) مالك الأمر، وليس على ساعي البريد إلاَّ الإستجابة لطلب المُرسل، ويجب عليه إيصال الرسالة لأنه لا ينبغي له أن يرفض … فهذا عمله، والمرحلة الأخيرة من حياة الإرسالية أن تصل إلى المستلم ( الطرف الآخر ) طال عليها الزمن أو قصر، فهي أرسلت إليه وليس لأحد غيره وهذا ما قرره المُرسل منذ البداية. الشاهد هنا في موضوع ساعي البريد أنه لابد من أن تكون هنالك علاقة طيبة ما بين المستلم والمُرسل حتى يُرسِل له المزيد والمزيد من الإرساليات، كما أنه لابد من المحافظة على العلاقة الطيبة مع ساعي البريد أيضاً حتى لا يتأخر بالإيصال.
هل حزرت عزيزي القارئ عن ماذا أتحدث؟ ألا يُذكرك ساعي البريد بأحد تراه وتتعامل معه كل يوم؟ فكر قليلاً … نعم لقد حزرت … إنه المكان الذي تعمل فيه، ولله المثل الأعلى فهو المُرسل للرزق، وساعي البريد هو المنشأة التي تعمل بها لتحصل على الرزق من خلالها، وأنت العبد المستلم لهذا الرزق.
راجع معي عزيزي القارئ سيناريو ساعي البريد واسأل نفسك: هل يستطيع ساعي البريد أن يمنع عنك إرسالية لك بإسمك؟ بالطبع لا لأنه ليس هو الذي يملك قرار إرسالها أو إلغاءها، إنه وبكل بساطة وسيلة فقط لإيصال الأمانة، فلا ينبغي من أن تُترك الأمانة أو الرسالة في الطريق لتهتدي إليها وحدك … هذا يُنافي سُنن الله الكونية والتي تُقر بوجود سبب لكل شيء { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا } سورة آل عمران من الآية 191، والمُرسل هو الذي يملك قرار إرسالها أو إلغاءها كما ذكرت، وهذا بالضبط ما يحدث مع رزقك الذي قدَّره الله لك، لا مانع لأمره إذا قضاه سبحانه وتعالى { وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } سورة يونس من الآية 107. يروي المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعدما فرغ من الصلاة: (( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد )) صحيح البخاري حديث 6615.
إذاً أنت تستطيع تغيير ساعي البريد ( مكان عملك ) متى شئت دون أن يؤثر هذا التغيير على رزقك، والسبب كما علمنا أنَّ الرزق مقرون بالعاطي وليس بالساعي، أي أنه إذا شعرت بضيق في عملك، لا تتأخر ولا تتوانى عزيزي القارئ في تبديله بما تراه أفضل لك، وهذا التغيير لابد من أن يكون مدروساً ومخططاً له جيداً، فأنا لا أدعو إلى التغيير العشوائي والذي من الممكن أن يضرك في جوانب أخرى من حياتك المهنية، لابد من التحلي بالحكمة والرؤيا الشاملة عند الإقدام على مثل هذا التغيير.
لكن هنالك نقطة مهمة عزيزي القارئ في الدورة الحياتية للإرسالية، في البريد الدنيوي الحقيقي، المُرسل هو من يُحدد الشركة التي ينوي الإرسال من خلالها، فأنت لا تملك خيارات، أنت فقط تستقبل من هذه الشركة، سواء رضيت أم أبيت، أعجبك مستوى خدمتهم أم لم يعجبك، ولكن مع إرسالية الخالق سبحانه وتعالى، أنت تختار المكان الذي تنوي إستقبال الإرسالية فيه، وهذا من تمام رحمة الله وعدله، إذ لم يجعل مكان رزقك محدوداً بمكان معين، فإذا هاجرت من مكان إلى مكان أو تنقلت بين الشركات تبقى لك رزقة ستحصل عليها مادام الله باق، هل تعلم لماذا عزيزي القارئ؟ لأن الله أرادك حراً مع غيره وعبداً له وحده، وهذا أجمل ما في موضوعنا اليوم.
رسالتي اليوم أن أخبر المسلم العربي أنك حر، فانعم بحريتك ولا تحزن عندما يتم تسريحك من العمل رزقك باق إن كان هنالك بقية في ما قدره الله لك، ولكن كل ما عليك فعله هو البحث عن مكان آخر لتأخذ هذا الرزق، فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة كما قال الفاروق رضي الله عنه، فلابد من فهم سنن الله الكونية في الرزق، أنا مررت بمثل تلك التجربة، فقد عملت في بداية حياتي المهنية في منشأة لمدة خمس سنوات متتالية، واعتقدت أنه إذا تركتها وانتقلت إلى منشأة أخرى سيتضرر رزقي، وقد كنت مُخطئاً بشكل كبير جداً، والله لقد رأيت الخير كله بهذا التغيير، وعندما استقلت من شركتي الأولى وانتقلت إلى أخرى، امتحنني الله بها ولم أعمل بها لأكثر من ثلاثة أشهر، بقيت صابراً مؤمناً من أنَّ الله سيرزقني لا محاله، فقد استوفيت كل أسباب الرزق، وهذا ما كان. ثم عملت بعدها مباشرة بشركة أخرى وبراتب جيد لله الحمد والمنة.
من أجمل ما قاله الحسن البصرى: ( علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي )، وهكذا عزيزي القارئ، لابد من أن يكون هذا ديدنك، لا تجعل المكان الذي تعمل فيه سجناً كبيراً، لا تكن عبداً لهم، إعلم أنك حر طليق، رزقك مكفول بإذن الله، إذاً أين تكمن المشكلة؟ لماذا نرى هذا التخاذل والتقاعص والضنك الذي يُصيب المسلمين في حياتهم؟ أليس بسبب اربتباطهم بشركاتهم على غير ما أراد الله؟ يقول أحد الموظفين: ( أنا أعلم أن رزقي على الله ولن يأخذه مني أحد ) ولسان حاله يقول غير ذلك، أليس حري بنا من أن نضع ثقتنا بالعاطي بدلاً من الساعي؟ فكر في الأمر وستجد السكينة تملأ قلبك.
كلمة أخيرة، أعيد وأكرر، هذه ليست دعوة للتمرد على الأماكن التي نعمل بها، أبداً … هذه فقط دعوة لفهم السنن الإلهية في الرزق، وكما ذكرت في بداية المقال، من الممكن أن يؤخر ساعي البريد إرساليتك بسبب سوء تعاملك معه، أو أن يتجاهلك ويمسك عنك ما هو لك، وأنت بالطبع ستقوم بمظلمة لتحصل على ما هو لك، ولكن لماذا كل هذا التعب والعناء؟ لماذا لا نحفظ أدبنا في الأماكن التي نعمل بها؟ ولماذا لا نعينهم على الخير؟ صدقوني يا إخوتي العناد والسير عكس التيار لا يأتي بخير أبداً، وكونك مهذب وصاحب منطق لا يعني أنك إمعة لا تملك رأياً، لابد من الإحسان لمن نعمل معهم حتى يُحسنوا إلينا، وهذا من القوانين التي سنَّها الله في الرزق. كل ما عليك فعله بعد قراءة هذا المقال هو أن تجلس مع نفسك وتفتح كراسة حسابتك وتبدأ بالتفكير، واسأل نفسك:
-
هل أنا أعمل في المكان الصحيح والمناسب؟
-
إذا كان الجواب نعم، لماذا لا أقوم بعملي على أكمل وجه وبأفضل صورة؟
-
إذا كان الجواب لا، لماذا لم أقدم على التغيير حتى الآن؟
أسئله بسطيه سترفع من جودة حياتك إلى الأبد، وتأكد تماماً من أنَّ الله سبحانه وتعالى سيسهل لك الرزق لك ولأهلك { إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } سورة الأعراف من الآية 128، وإلى أن ألقاكم في مقال جديد، أتمنى لكم أعزائي كل التوفيق والنجاح في اختيار ساعي البريد المناسب.
من أجمل ما قرأت ..
شكرا لك ..
شكراً جزيلاً على التوضيح أخي حسين.. اتضحت الصورة تماماً، وفهمت الفرق بين [ المكان والشركة ] بعد مثال الأرامكس والفيدكس، ويبدو أنني ركزت في شخص ساعي البريد لذا لم أتمكن من رؤية الصورة كاملة عند قرائتي الأولى..
كل عام وأنت وكل قراء المدونة بخير..
رداً على تعليق محمد بدوي : وأنت بألف خير يا محمد. ما أجمل أن يفقه المسلم سنن الله في الأرض، هذا الفهم والإدراك سيزيد من قوة علاقة العبد بربه ومن ثقته به.
رداً على تعليق ريم حسن : ما قصدته أختي الكريمة أنه عندما تأتيكي رسالة من صديقة لك مثلاً، هي من ستحدد الطريقة والجهة التي سترسل من خلالها مثل: ( البريد السعودي، أرامكس، فيدكس … إلخ )، فهي لا تستأذنكي مع أي جهة سترسل الرسالة، أنت فقط مهمتك الإستلام، وهذه الحالة سميتها بالبريد الدنيوي الحقيقي … أي بريد العادي وليس المجازي.
أما الحالة المجازية فهي الحالة التي شبهت المُرسل بالله جل في علاه وله المثل الأعلى، وساعي البريد هو المكان الذي تعملين فيه، فالله سبحانه وتعالى ترك لك إختيار جهة العمل لتحصلي على رزقك، ولم يجبركي على أن تعملي في مكان ما محدد، فسبحانه ترك لك ذلك الإختيار.
هذا ما قصدته، ولعلي لم أوفق في التصوير، وسأختصر النقطتين كالآتي:
1. الحالة الحقيقية: المُرسل -> ساعي البريد -> المستلم
2. الحالة المجازية: الله -> مكان العمل -> العبد
أود أن أضيف نقطة أخيرة، من الممكن أن تكوني أنت صاحبة العمل، أي أن العمل بحد ذاته ملكتيه أو كنت أجيره فيه هو وسيلة فقط لوصول الرزق إليك.
أتمنى أن تعيدي علي السؤال إن لم يتضح الأمر بعد.
“وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها”. لقد منَ المولى -عزوجل- علينا بهذه النعمة العظيمة -التي ندر فهمها وتطبيقها- كي يكون تركيزنا الكامل على “وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون”. مقالك أخي الحبيب موقظ لروح الهمة واليقين وعدم الاستسلام مع تحري القرار السليم وعدم التصرف بعشوائية. انه توازن صعب ولكنه واقعي وسيأتي باذن الله بمنافع عظيمة لمن يطبقه. مثال بسيط: في الغرب, ينعم الناس بشبكة تكافل تضمن لك راتباًاذا فقدت عملك ولمدة سنة(Unemployment Insurance) ومن ثم وان طالت الفترة الى نظام يدعى (Welfare). في اعتقادهم أن الرزق مضمون بحكم هذا النظام النبيل -وهو نبيل حقاً- كنظام بيت مال المسلمين في تاريخنا التليد. لأنهم يشعرون بشيء من الأمان, نرى أنَ الكثير منهم لا يتردد في تغيير وظيفته ان لم تلائم وضعه الحالي وفي الوظيفة الجديدة يكون هناك مجال أكبر للسعادة وللابداع.
نسأل الله أن يزيدنا يقيناً أنَه هو الرزَاق لكي ننعم بحرية القرار.
الأخ الكاتب الفاضل …
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته …
مقالة أكثر من رائعة كما عهدنا منك دائماً. و في الحقيقة جذبني العنوان و عندما قرأته لم أتكهن بالمحتوى و هذا أكثر ما أعجبني فيه. لقد تسلسلت بأفكارك بشكل غير متوقع من قضية ساعي البريد وصولا إلى المفهوم العقدي للرزق.
للأسف ضغوطات الحياة و الركض وراء الرزق جعل الناس – إلا من رحم ربي و هم قليل – يغيب عن ذهنهم هذا المفهوم رغم علمنا جميعا به وحفظه و تكراره منذ نعومة أظفارنا ” كما يرزق الطير يغدو خماصا ويعود بطانه” .توكل الانسان على الله في موضوع الرزق هو كالإيمان يزداد و ينقص و موضوع ارتباط الرزق بمكان العمل شيء بديهي موجود لدى كل عامل و كل موظف و كل رب عمل و على الأغلب بالطريقة السلبية للأسف.و أريد تأكيد ما ذكرته آنفا أن ترك مصدر رزق معين قد يكون سببا في فتح باب رزق أفضل، فقد حصل معي فعلا عندما كنت أعمل في إحدى المنشئات و عندما ضقت ذرعا بأمور معينه فيها و توكلت على الله و قدمت استقالتي ،حصلت على عمل بمنشأة أفضل و براتب أفضل و لله الحمد و المنه.
و لذلك أريد الإضافة على الموضوع من ناحية أخرى ألا و هي إعتقاد أرباب العمل أنهم الرازقين (المرسلين-أصحاب الأمر) و تصرفهم على هذا الأساس، و استعبادهم لمن تحت أيديهم من العاملين و استخدام موضوع الرزق للوي الأذرع و التهديد بقطع الأرزاق فيكونون كمصاصي الدماء يمتصون جهود العاملين بلا رحمة مقابل القدر المادي الضئيل. يستحضرني قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه و أرضاه :” متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”
في البداية ظننت أن المقالة في مهارات التواصل، وكيف أن حسن العلاقة والأسلوب يضمن انتقال الرسالة بين الطرفين بسلاسة وانتظام..
وبعدها وجدت معنى آخر لساعي البريد يغير من نظرتنا لجهات عملنا، فأن ننظر لجهة عملنا أنها ساعي بريد فهذا يعني أن نهتم بأداء عملنا فحسب، وأن نهتم برضى الله عنا وليس رضى أصحاب العمل، لأنه ليس لهم من الأمر شيء، وفي الوقت ذاته نحسن التعامل معهم لأنهم من اختارهم ربنا ليرزقنا من خلالهم، بشرط أن لا يتضمن ذلك معصية للمرسل الحقيقي..
استشكل علي فهم الجزء التالي [ المُرسل هو من يُحدد الشركة التي ينوي الإرسال من خلالها، فأنت لا تملك خيارات، أنت فقط تستقبل من هذه الشركة، سواء رضيت أم أبيت، أعجبك مستوى خدمتهم أم لم يعجبك، ولكن مع إرسالية الخالق سبحانه وتعالى، أنت تختار المكان الذي تنوي إستقبال الإرسالية فيه ]
فهلا تفضلت بمزيد توضيح للفرق بين الشركة والمكان ؟
مع جزيل الشكر للمقال القيم أستاذنا الكريم..
في بداية المقال تهت قليلا ثم بدئت في التأمل و أنا أقراء فعلا كلامات خطت بماء من ذهب , تحتاج منا دائما إلى مراجعة علاقتنا مع الله و التوكل التام عليه
كل عام و انت بألف خير
بالتوفيق