قناعات في مهب الريح

|

حسين يونس

في يوم الأربعاء الماضي، حكمت محكمة كندية في مدينة « سانت جونز » الواقعة في مقاطعة « نيوفاوندلاند » بترحيل مُسن سعودي خارج البلاد لأنه عنَّف ابنته – المُبتعثة للدراسة في كندا – في محاولة لمنعها من الإقتران بشاب كندي ذو أصول كندية بحته، وكما هو الحال في الغرب، تناقلت وسائل الإعلام الكندية تغطية الخبر بالصوت والصورة للحظة دخول الأب إلى قاعة المحكمة وهو في قمة الخزي والعار من فعلة ابنته، ودموعه لا تنقطع من شدة الصدمة للحال التي وصل إليها.

طبعاً موقفه كان صعباً جداً وأثَّر في وجدان كل مسلم حيَّ في كندا، فلم يكن من السهل أن نرى رجلاً عربياً مسلماً مُسناً يمر بمثل هذه المحنة الصعبة والتي أصبحت شائعة جداً في الغرب، فهذه ليست الحادثة الأولى لفتاة عربية مسلمة تقترن – رغم أنف أهلها – برجل أعجمي.

في عام ٢٠٠٨م كتبت مقالاً بعنون « لماذا لا نبحث عن السبب؟ » في محاولة للحثِّ على البحث عن جذور الأزمة، فالأمر أصبح لا يقتصر فقط على مسألة الإنبهار بثقافة الغرب وأشكالهم وطريقة حياتهم .. بل تعدى إلى الإنبهار بالإلحاد والدعوى إلى الخروج من الإسلام.

الرأي الشائع في هذه المسألة – خصوصاً فيما يخص أهلنا في الخليج العربي – أنَّ الإسلام هناك قد تحول إلى عادات وليس عبادات، وبناءاً عليه، عندما يتعرض المسلم لأول صدمة ثقافية خارج بلاده، يتنازل عن معتقداته التي هي مجرد عادات لصالح أخرى أكثر حداثة مثل تلك التي في الغرب. والصحيح أني لا أتفق تماماً مع هذا الرأي!

إذا ما عدنا إلى كتب علم النفس وتلك التي تُحلِل شخصية الناجحين وتدرس أحوالهم، سَنخلص إلى أنَّ للنجاح عادات يمارسها الناجح بشكل يومي ومستمر، كالإستيقاظ مبكراً وممارسة الرياضة والأكل الصحي والبحث والقراءة والإجتهاد في العمل وصحبة الناجحين واكتساب مهارات مفيدة .. إلخ، إلى أن تصبح عادات متأصلة في شخصية الإنسان، فإذا كان الأمر بهذه الطريقة .. ما المشكلة إذا تحول الإسلام إلى عادة؟ ما الضير في ذلك؟ ألسنا نعتقد أنَّ الإسلام شيء حميد؟ فليكن إذاً جزءاً من عاداتنا الحميدة.

أنا أعتقد أنَّ المشكلة لا تكمن في كون الإسلام قد أصبح عادة كما يُكرر الكثيرون، لكن المشكلة الحقيقية هي أنَّ هذه العادات الإسلامية لم تتحول إلى قناعات راسخة في فهم ووجدان أبناء الإسلام، ومع أول هبَّة ريح غربية .. تسقط هذه العادات من دون أي مقاومة، لابد للعادة أن تمر بمرحلة الفهم والإستيعاب الكامل، ومن ثم العمل بها، فهناك من لا يفهم ويعمل، وهناك من يفهم ولا يعمل وهو أسوأ من الذي قبله، وهناك من يفهم ويعمل وهو الحالة المثالية بكل تأكيد.

ما الذي يمنع المسلم عن الزنى؟ قناعته بأنَّ الزنى حرام وأنَّ له عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة، بالمقابل، ما الذي يجعل السمين أسير شحومه المكبلة لجسده؟ قناعته بأنه غير مضطر إلى إزالة تلك الشحوم، فهو قد يكون مُدركاً لمساوئ تلك الشحوم، لكن هذا الفهم والإدراك لم يتحول بعد إلى قناعة ليدخل حيز التنفيذ، فيبقى يعاني أبد الدهر قلة الهمة والأمراض المزمنة.

فالمسألة ليست مسألة عادات بقدر ما هي مسألة القناعة بتلك العادات، وهذا ما قام به الناجحون فعلاً، إذ تبنَّوا عادات حميدة تُعينهم على النجاح مع فهمٍ تحول إلى قناعات راسخة بتلك العادات، وهنا مربط الفرس.

كنت أستغرب من رجل خمسيني يُمارس رياضة الجري منذ أكثر من ثلاثين عاماً بشكل يومي ومن دون كلل أو ملل، ومن آخر يرفض أن يزيد لقمة واحدة في فمه حتى لو كان طعاماً مجانياً في حفل ما، وآخر يقرأ في اليوم ما لا يقل عن ثلاث ساعات لا يتنازل عنها لأحد، وآخر يُصلي فروضه الخمس في المسجد من دون تعب، وكنت دائماً أفكر .. ما هو الشيء الذي يَحثهم بقوة على المحافظة على تلك العادات لسنوات طويلة من دون إنقطاع؟

الجواب: قناعتهم بأهمية تلك العادات التي من دونها ستضطرب حياتهم ويتعرضوا إلى أمور قد تضر بهم، أو قد يخسروا أشياء معينة إن تخلفوا عن ممارسة تلك العادات.

عودة إلى الفتاة التي مارست قهر الرجال في حق أبيها، كنت قد تأخرت قليلاً في التعليق على الموضوع حتى يتسنى لي الحصول على معلومات واضحة عن طريق مصدر في السفارة السعودية في العاصمة أوتاوا، والذي أكدَّ بدوره على أنَّ الفتاة كانت قد اقترنت بالشاب الكندي قبل ثلاثة أيام من إخبار والدها بذلك، وأنَّ الشاب تلميذ عند الأب يتعلم على يديه اللغة العربية، وكان قد إعتنق الإسلام منذ سنتين، وهو يعمل سائق حافلة.

بغض النظر عن المسألة الخلافية بين أهل العلم في قضية شرط الوليِّ في النكاح، إلاَّ أنَّ الفتاة قد أقحمت نفسها في زواج غير متكافئ النسب على الإطلاق .. لا ثقافياً ولا إجتماعياً، فالشاب مجرد سائق حافلة من طبقة متواضعة جداً، والفتاة في مرحلة علمية متقدمة، والفجوة كبيرة جداً بينهما، وزواج كهذا على الأغلب لن يبوء بالنجاح كما حدث مع الكثير من الفتيات هنا في الغرب وعلى رأسهم الأميرة البحرينية « مريم آل خليفة » التي تزوجت جندي من قوات المارينز الأمريكية وهربت معه إلى الولايات المتحدة، ولم يُفلح زواجها لأسباب كثيرة، أهمها الفارق الكبير في الثقافة والحالة الإجتماعية، فبعد إنتهاء هذا الجندي من خدمته العسكرية، عاد ليعمل في أمريكا في موقف سيارات!

من سُنن الله في الكون، أن خلق لكل فعل عاقبة ونتيجة، وبعد الإنتهاء من فيروس الغرب وشهوة خوض غمار فيلم هوليوودي، ستصحو الفتاة من غفوتها، وستدرك وقتها مدى فداحة الفعلة ومدى قيح لوثة الغرب في قلبها، لكن على الأغلب سيكون الوقت قد تأخر لاستدراك ما فات.

أنا لا ألوم الحكومة الكندية في شيء، فكما قلت سابقاً أنَّ هذه بلادهم وهذه ثقافتهم وهم أحرار بها، ونحن الذين أتينا إليهم وليسوا هم من أتوا إلينا، وعليه نتحمل تَبَعات هذا القدوم وإقحام أنفسنا بمواقف معقدة جداً إما بحجة جودة التعليم، أو الحصول على الحرية المزعومة، أو الحصول على الجنسية الكندية التي ستفتح لنا كنوز قارون في الأرض، وتتحول أذرعنا إلى أجنحة نحلق بها بين بلدان العالم من دون تأشيرة مُسبقة .. ونحن حتى لا نملك حق تذكرة الطائرة!

ترسيخ قناعات أولادكم هي المهمة الأهم قبل الوقوف في مهب الريح.

دمتم بخير.

6 رأي حول “قناعات في مهب الريح”

  1. انا لم اعلم بالامر الى من خلال هذا المقال. و كنت كنت اظن في بداية القراءة ان الفتاة تزوجت رجلا لا يدين بالاسلام. و لكن وجدت ان الرجل مسلم و ان الكاتب يركز على ان الاسلام اصبح مجرد عادة لدى الكثيرين و من ثم ينكر على الفتاة الزواج و يستخدم او يستدل من منظور غير ديني… انما ثقافي او اجتماعي.

    ان كانت اخطات فالسبب هو عدم موافقة ولي الامر. اما انها تزوجت من رجل مسلم و ان كان اقل منها ماديا فهذا لا قيمة له و اتمنى لهم التوفيق في حياتهم و يسعدهم في الدارين و يحن قلب ابيها عليها

    رد
    • على الأغلب أنه ليس لديك إبنة، فلو كان لك واحدة … لا أعتقد من أنك ستوافق أن ترتبط ابنتك بأي مارق طريق من دون علمك … فقط لأنه اعتنق الإسلام.

      أما إن كنت ترضى بذلك … فأعذرني ليس لدي تعليق !

      رد
  2. الأغلب في المجتمع العربي جاهل يتبع العرف والتقاليد وفي حال ناقشته في موضوع يمت للإسلام بصلة حيقول لك : أنا مسلم تشككني في ديني !
    مثلاً : موضوع زواج الفتاة السعودية من رجل أجنبي لها منظورين وهي :

    ١- منظور العادات والتقاليد :
    المجتمع العربي يرفض زواج الفتاة إلا من شاب من نفس القبيلة بغض النظر عن كفائته للزواج وإلا تبقى في منزل ذويها حتى الوفاة وهذا المعمول.

    ٢- منظور الإسلام :
    الإسلام يرى للفتاة المسلمة الزواج من : ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ). رواه الترمذي .
    -الدين والخلق- هو المعيار الأساسي للزواج من الفتاة المسلمة، ولم يقل الخلفية العلمية أو المكانة الإجتماعية أو القدرة المالية للزوج.

    بالتالي زواج الفتاة السعودية يعد ناقص حتى تثبت زواجها في المحكمة السعودية مثلاً عن طريق ( دعوى إثبات زواج ). رغم صحة زواجها في كندا كما أتمنى لها التوفيق والنجاح.

    شاكره لك.

    رد
    • أتفق أختي الكريمة أنَّ المجتمع القَبَلي قد ظلم المرأة أيَّما ظلم، واضطهدا وأذلها في كثير من الأمور الأساسية في الحياة، وهذا لا يُرضي الله ولا رسوله.

      ولكن لا ينبغي أن نُقابل النقيد بالنقيد !! فتهور الفتاة بالإقتران بهذه الطريقة المُهينة لأبيها وأسرتها شيء غير مقبول، بل هو أيضاً مهين لنفسها … وستبقى تحيا هذه المسكينة مع ألم هذه التجربة البائسة طيلة عمرها، والقصص المُماثلة كثيرة والزمان خير شاهد على ذلك.

      كل التوفيق

      رد

أضف تعليق