لماذا أكتب؟

|

حسين يونس

في بعض الأحيان ينتابني شعور قوي بضرورة التوقف عن الكتابة والاكتفاء بوظيفتي وعائلتي الصغيرة كأي إنسان عادي ينتظر راتب نهاية الشهر، وأسأل نفسي … لماذا كل هذا الجهد والإرهاق والقلق؟ أليس من الأفضل أن أصبح كغيري … فقط أفكر بأسرتي وعملي وشراء منزل والتخطيط لإجازتي السنوية ومتابعة مسلسلات الفضائيات وبرامجها؟ ما الذي يجعلني أقوم بما أقوم به اليوم من دون مقابل مادي؟ لماذا التفكير خارج نطاق المنزل؟ مالي ومال المجتمع؟ هل فعلاً لدي من القدرة ما يؤهلني للمساهمة في تطويره؟ هل يمكن لي بناء منهجيات تطوير إجتماعية حديثة تواكب جيل الأمة الجديد وعقله الفريد؟

في كل مرة يأتيني هذا الصراع الداخلي … أدخل في كآبة ثقيلة تَحط من قوتي وتُمرض جسدي وتُلقي بي في الفراش طويلاً، لأستيقظ في اليوم التالي مُستعيذاً بالله من الوسواس الخناس، مُستجمعاً قواي للمضي قدماً فيما بدأت.

من ناحية أخرى، يتفاجأ الناس عندما يعلمون أني أحب الكتابة والبحث وتعليم المجتمع وتثقيفه أكثر من حبي لمجال عملي في تكنولوجيا المعلومات … وبشكل لا يمكن تصوره! فَلَو عادت بي الدنيا من جديد، لإلتحقت بكلية العلوم الإنسانية مثل علم الإجتماع أو النفس، أو لإتجهت إلى كلية الطب لأدرس طب النفس، أو ربما كلية الحقوق أو العلوم السياسية، ولكن مع الأسف الشديد، مشكلة أغلب تلك التخصصات أنها غير مُقدَّرة في المجتمعات العربية ولا تأتي إلاَّ بالفقر.

عندما جاء وقت إختيار التخصص الجامعي، لم يكن بمقدوري المجازفة بتخصص أهواه ولكنه لا يأتي بالمال، فقد كانت أولويتي جلب المال، وهذا ما كان بفضل الله، ناهيك عن أنَّ أغلب أصدقائي في ذلك الوقت إتجهوا إلى دراسة علوم الكومبيوتر لنفس السبب، وأنا بطبيعة الحال فرد في تلك المنظومة المجتمعية، فكان الإقتداء بالجماعة أمر بديهي في مجتمع تسوده ثقافة الأغلبية.

عندما تخرجت من الجامعة وبدأت مسيرتي الحياتية واستقرت أموري الإجتماعية، بدأ الفراغ يظهر في حياتي، وكان بمقدوري وقتها ملؤه كما يملؤه الآخرون، ولكن في هذه المرة إخترت أن أمشي عكس التيار لأمارس ما كنت أهواه منذ الصغر، الأمر الذي أحدث فجوة كبيرة بيني وبين المجتمع، لأكتشف بعدها أنَّ هذا تطور طبيعي يحدث لكل من قرر أن يسير عكس التيار، فعندما أخذت القلم، لم أتجه إلى الكتابة الخيالية، ولكني إخترت الكتابة الواقعية لقوم يحيون الواقع ولا يعترفون به، وتأثرت بـ «أبي الفرج إبن الجوزي» بعد قراءة كتابه (صيد الخاطر)، وعالم الإجتماع «علي الوردي» بعد قراءة كتابه (مهزلة العقل البشري)، ومن الجدير بالذكر أنَّ كلاهما من العراق وعاشا في بغداد.

إستوقفتني يوماً ما هذه الحكمة الرائعة حول الكتابة الواقعية، وأثرت بي كثيراً … (إنَّ ما يجعل الكاتب عظيماً ليس قدرته على تصوير الخيال، بل جرأته على نقل الواقع!)، وعلمت وقتها أهمية ذلك النوع من الكتابة على الرغم من صعوبته، فالجمهور عموماً لا يُحب ذلك النوع من الكتابة، تماماً كالدواء الذي نضطر لتناوله رغم مرراته لنبقى على قيد الحياة، مع العلم أني رغم كل الصراحة التي أنتهجها في كتاباتي، أعتبر أني مازلت صامتاً، فمازلت أضع إعتباراً لإختلاف ثقافات البشر وقدراتهم، ولو أطلقت العنان لقلمي، لقرأتم ما لا تطيقون، فمازالت المثالية أغلال على عنق قلمي، أكابدها في كل قطرة حبر ومع كل بداية سطر … والله يعلم كم أبغض المثالية!

عندما أكتب مقالاً، أنظر إليه كالمعماري الذي يبني منزلاً، سيسكنه الناس ليستروا عوراتهم ويحموا أنفسهم من برد الشتاء وحرِّ الصيف، وكلماتي هي أسقف حماية للمجتمع مما لا يعلمه أو لا ينتبه له، ومن أهم وأجمل الفوائد التي يجنيها الكاتب والمجتمع من الكتابة:

١) التطوير والتنقية

من خلال البحث والكتابة، يتعرض الكاتب لكمٍّ مهول من الحقائق لم يكن يلتفت لها لولا الكتابة، فالكتابة تدفع الكاتب إلى البحث والتَّحري لتقديم الحقيقة للقارئ على طبق من ذهب، ناهيك عن تحدي الأفكار والموروثات والمبادئ – المستمر – الذي يتعرض له عندما تواجهه أفكار أفضل من تلك التي كان يحملها في عقله.

٢) أفضل ما عندك

عندما يكتب الكاتب بواقعية … فهذا يعني أنه قد دخل بيوت الناس وقلوبهم وإخترق عليهم حياتهم الخاصة، وهذا النوع من الإختراق الإجتماعي يضع مسؤولية كبيرة على ظهر الكاتب، الأمر الذي يدفعه إلى إخراج أفضل ما عنده، فالكتابة الشفافة تجعل من الكاتب إنساناً أفضل، بالمقابل … هذا يُفسِّر سبب إستيلاء مرضى القلوب على بعض أقلام الكتَّاب لغسل أدمغة المجتمع بما يناسب مصالحهم الذاتية.

٣) خلق الحلول والأفكار

من أفضل الفوائد التي يجنيها المجتمع من قلم الكاتب، الحلول التي يقدمها بشكل مقصود أو عفوي، والتي قد تبدو في بعض الأحيان بديهية وليس فيها الكثير من التعقيد، ولكنها ناجعة ولم يكن ليكترث إليها القارئ قبل تلك اللحظة التي قرأها فيها، فالكاتب غالباً ما يحاول مشاركة القرَّاء خبراته الشخصية التي تكون حقيقية وعملية وقابلة للتطبيق، بعيداً عن المثاليات الخيالية.

٤) إكتشاف القدرات

في لحظة الكتابة، يكتشف الكاتب قدراته الكامنة أو الخاملة، كقدرته على التحليل والنظر إلى الأمور من زوايا مختلفة، وفي كل مرة يكتب فيها … يتفاجأ بكمية تلك القدرات المجهولة، فيعمل على إخراجها وتوظيفها في كتاباته الجديدة، حتى أنه عندما يعود إلى كتاباته التي مضى عليها وقت، يسأل نفسه (هل فعلاً أنا مَن كتب هذه الكلمات؟! هل فعلاً أنا مَن طرح هذه الحلول والأفكار؟).

٥) صلب كالصخرة

الكتابة الخلاَّقة لا يمكن لها أن تحدث إلاَّ عندما يستمع الإنسان لذاته … يُحدِّثها وترد عليه، فهي لقاء مستمر بين الإنسان ونفسه، فغالباً ما تؤدي إلى عزلة عن الأهل ومَن هم حوله، لكن الفائدة تستحق … كإكتشاف الذات وترتيب الأفكار وزيادة الإصرار والثقة بالنفس، فيصبح لدى الكاتب الكثير من الإتزان من خلال الولوج في أعماقه، الأمر الذي يجعله حاذقاً في علمه وعنيداً في رأيه.

اليوم ومنذ ثمان سنوات، أقوم بالكتابة بشكل غير مُتفرغ، والسبب أنَّ الكتابة مهنة غير مُقدَّرة عند العرب ولا تأتي بالمال، ولا يمكنني أن أضحِّي بعائلتي وأزجَّ بهم في فاقة مالية لن يستفيد منها أحد، لكن مازال يُساورني يقين من أني يوماً ما سأتفرغ للكتابة، سأتفرغ لقوم من العرب يُقدِّرون الكاتب ودوره في المجتمع، قوم … يأكلون بأدمغتهم الكتب كما تأكل النار الحطب، وإذا تفرَّغت … سأكفر بشيء إسمه التقاعد، وسأبقى أكتب إلى أن أنزل قبري بإذن الله.

يهمني أن أسمع آرائكم ومعرفة نظرتكم كعرب حول الكاتب، ما الذي تتوقعونه منه؟ أو بلغة أخرى … ما الذي تريدونه منه؟ التخدير، أم التبرير، أم المساعدة في تقرير المصير؟

سيكون ذلك – بإذن الله – يوم السبت القادم ٤ يونيو (حزيران) خلال الحوار المرئي المباشر عبر صفحتي على الفيسبوك، وسيمكنني تلقي أسئلتكم والإجابة عليها مباشرة في الأوقات التالية:


تحديث: أشكر جميع المتابعين الكرام على إهتمامهم ومداخلاتهم وقت الحوار المباشر لمناقشة المقال أعلاه. يمكن مشاهدة تسجيل الحوار على الروابط التالية:
١) الفيسبوك: حوار مباشر على الفيسبوك (لماذا أكتب؟)

٢) اليوتيوب:

أضف تعليق