خلال فترة إنتخابات الرئاسة المصرية، تابعت آراء بعض الشخصيات الإعلامية والسياسية المعروفة على المستوى الخليجي والعربي، وكان يهمني أن أفهم وجهة نظرهم والتي كانت شبه إجماعية حول خطر وصول « د. محمد مرسي » مُرشح الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر، ومخاوفهم تمحورت حول التهديد الإسلامي والمتمثل بحكم الله سبحانه وتعالى في قطع يد السارق وضرب عنق الخائن ورجم الزاني وقتل المرتد وإغلاق الخمارات وغيرها من الأحكام الإسلامية المشهورة والتي يتم رفضها بشكل تام من قِبَل من يُسمَّون اليوم (بالليبراليين)، وحجتهم أنَّ مثل هذه الأحكام تضر بمصالح البلاد لأنها ستعطل السياحة ومرافق الدولة والإقتصاد العام وتعود بمصر إلى زمن قابيل وهابيل، وهذا تصرف غير حضاري بزعمهم، والمشكلة أنَّ مثل هذه الآراء المعادية لأحكام الإسلام بدأ تأثيرها يتزايد يوماً بعد يوم وبشكل ملحوظ بين شريحة كبيرة من عوام المسلمين وغير المسلمين، خصوصاً عندما تتابع تصريحات هذه (النخبة!) على التلفاز أو تقرأ مقالاتهم في الصحف اليومية أو تغريداتهم على التويتر، وترى من يتبعوهم يغردون معهم بنفس الفكر دون تفكير أو تمحيص.
عندما أحاول تفهم وجهة نظر الفريق المُعارض .. أتعجب .. فاعتراضهم الرئيسي ليس على جماعة الإخوان فقط .. إنما على حكم الله بشكل عام ويصفونه بالهمجية، فالبعض صرح بأن الإسلاميين لا يستطيعون تطبيق أحكام الله وسيظلمون العبيد باسم الإسلام، لكن الأغلبية لا تريد حكم الله بالكلية، وهذا موضوع آخر لا أرغب في الخوض فيه اليوم، ولكن هم ينظرون إلى الديمقراطية الأمريكية بعين واحدة ولا يرون بالعين الأخرى أحكام هذه الديمقراطية، فهم يرون قساوة حد الزاني ولا يرون شناعة الإعدام بالغاز أو على كرسي الكهرباء! ومن جهة أخرى يتكلمون عن السياحة والضرر الذي سيلحقه الإسلاميون بها وكأن مصر عبارة عن كرخانة (خمارة) كبيرة والكل فيها مخمور، أو كأن السائح الغربي يأتي إلى مصر ليشرب الخمر ويزور الملاهي الليلية تاركاً خلفه في بلده ما هو أفضل له من خمارات مصر!
طبعاً أنا لست مع أو ضد التيار الإخواني أو الليبرالي، فكل له ما له وعليه ما عليه، لكن أكثر ما أثار حفيظتي بشدة، بلاهة وسخف أتباع الليبرالية .. ويا ليتهم فقهوا شيئاً فيها أو حتى كانوا فعلاً أصحاب فكر حر يرتقي بالمجتمع العربي، لا أدري ما الذي أصاب جمهور العرب؟ هل فعلاً يعجبهم ما يقرءون في الجرائد اليومية؟ هل هؤلاء كُتَّاب ومفكرون أم تُجار؟ الصحف العربية اليوم بات استخدامها لا يتجاوز تنظيف الزجاج، 90% من الذين يكتبون كل يوم جل ما يكتبونه هو فقط حشو لأعمدة الصحيفة وأي كلام في أي كلام! لدرجة أني عندما أجلس أقرأ لهم .. أتساءل أين هو رئيس التحرير عن مثل هذا التدني الرهيب في محتوى الكتابة؟!
لكن كل هذا لا يهمني اليوم، ما يهمني حقاً ويؤسفني في نفس الوقت أنَّ العرب منقسمين إلى قمسين في آراءهم، قسم كالذي تأخر إسلامه وآمن بعد الفتح، وقسم آخر كالذي أصر على كفره ومات على ذلك.
فالذي أسلم بعد الفتح، استغربت التحول الرهيب في لهجته تجاه الإخوان بعد فوز مرشحهم برئاسة مصر! أحد رؤساء التحرير ومديري القنوات العربية كان يرى في فوز الإخوان كارثة تاريخية ستحل بمصر، وبعد ساعة من إعلان النتائج والتأكد من فوز د. مرسي بالرئاسة .. إنقلب على نفسه 180 درجة ليمدح الإخوان ويشهد لهم بأنهم أبطال تاريخيون! ونشر قصاصة من صحيفة قديمة يظهر فيها الملك السعودي الراحل « فيصل بن عبدالعزيز » وهو يُكرم أحد قادة الإخوان المسلمين في زمانه!
أنا في الحقيقة لم أتعجب، فهذا ديدن أغلب العرب ومع الأسف .. أغلبهم على شاكلة من أسلم بعد الفتح، يقول الله الجليل في مُحكم التنزيل { لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } سورة الحديد من الآية 10، فالجميع ينتظر أن يرى المنتصر حتى يُحالفه ويحلف بحياته ويقدسه، وقلة من يؤمن بفكرة ويستقر عليها، المصالح هي التي تحكم، والمثقفين العرب وإعلاميهم لديهم مصالح أيضاً اليوم للتصالح مع الإخوان.
المشكلة أنَّ الإختيارات المتاحة في جولة الإعادة لم تكن تحتاج إلى كل هذا الجدل والتفكير، مرسي وشفيق .. شفيق يا ناس!! يعني لو كان الإختيار بين « الفريق شفيق » و « الشيطان الرجيم » .. لاخترت الشيطان الرجيم بكل تأكيد، لأنه سيكون أرحم على شعب مصر من شفيق الذي استقل طائرة إلى الإمارات فور إعلان خسارته!
أما القسم الثاني والذي أصر على كفره، بالرغم من كل التنازلات السياسية التي قدمها الإخوان ليُطَمئنوا العالم أنهم ليسوا كما يُدَّعى عليهم، لم يحظى هذا الرئيس الإخواني بتعاطفهم على الإطلاق، فالرئيس المصري قدم إستقالته من جماعة الإخوان المسلمين لحظة فوزه مباشرة، وأعطى ضمانات بأن نائبه ورئيس وزراءه لن يكونا من جماعة الإخوان .. وهذا بصراحة تنازل كبير جداً، وهنا أتساءل، هل سمعتم في يوم من الأيام بأن رئيس أمريكي أو فرنسي أو رئيس الوزراء البريطاني قدم استقالته من حزبه لحظة فوزه؟ أو قدم ضمانات بعدم الإستعانة بأعضاء حزبه في تشكيل وزاري؟ مستحيل بكل تأكيد، هنا في كندا على سبيل المثال، عندما يأتي رئيس وزراء من الحزب المحافظ فإن كل وزراءه يتم تعيينهم من أعضاء الحزب المحافظ ولا أحد يُنكر عليه هذا التعيين، في الولايات المتحدة كذلك عندما ينتصر رئيس من الحزب الجهوري فإن كل أعضاء إدارته تكون من نفس الحزب، لماذا يصل الأمر عند العرب ليتم إعاقة تقدم عجلة الديمقراطية؟
أشد ما يُقلقني أن ينزلق الشعب المصري خلف هذه الإدعاءات حول الإخوان ليضعوا الشعب المصري في دوامة تودي به في الهاوية، فالرئيس مرسي لم يتغلب على منافسه إلا بفارق بسيط، وهذا يعني أن نصف الناخبين المصريين لا يؤيدون الرئيس الجديد بالأغلبية، ورغم ذلك، لابد لهم من أن يلتفوا حوله مؤيدين ومُعارضين، دعونا نتعلم ولو درساً واحداً من الغرب .. فكما يُريد الشعب قائداً صالحاً .. لابد من أن يكون هنالك أيضاً أتباعاً صالحين، فالعملية الديمقراطية تحتاج إلى توافق وتعاضد كلا الطرفين .. قادة وأتباعاً .. حتى لو لم يكن هنالك إجماع، فالرئيس الجديد ليس معه عصى موسى ولا خاتم سليمان ولا مصباح علاء الدين، ولو استطاع د. مرسي في المرحلة الأولية على أسوأ تقدير بالعودة بمصر إلى ما قبل الثورة .. فهذا سيكون إنجاز بحد ذاته، فالتحديات الداخلية والخارجية التي تُحيط به ليست هيِّنة على الإطلاق، ويكفيه العسكر والطنطاوي – صاحب فكرة الإنقلاب – وهذه المعضلة الحقيقية التي تواجه مصر كلها بما فيهم الرئيس الجديد.
أكرر ما ذكرته آنفاً أني لست مع أو ضد الإخوان، ولكني مع إعطاء الفرصة لأوجه جديدة على المسرح السياسي المصري والعربي نزولاً عند إرداة الشعب، وتحكيم العقل والمنطق قبل الشروع في حماقة لا يعلم نهايتها إلاَّ الله، فـلنتمهل سوياً حتى نرى الرئيس الجديد – منزوع الصلاحيات – ما عساه أن يفعل، وإنَّ غداً لناظره لقريب.