لطالما أحببتُ الصباح وأجواءه المنعشة، بخلاف المساء الذي كنت أنفر منه، فألجأ إلى النوم مبكراً علَّه يرحل سريعاً، لأستقبل صباحاً جديداً يمدّني بالشعور بالثبات والثقة. لكن مع مرور الوقت، خصوصاً عندما وجدت نفسي أواجه سكون الليل وحيداً، أدركت أنَّ نفوري من المساء لم يكن عبثاً. فقد تكشَّف لي أنَّ سرَّ حبي للصباح يعود إلى طبيعته القائمة على المواجهة والانشغال، بينما سرُّ نفوري من المساء أنه يضعني وجهاً لوجه أمام نفسي.
في الصباح نبدأ يوماً مزدحماً: مواجهة مع العمل والدراسة، مواجهة مع الزملاء والمدراء، مواجهة مع الزبائن والعملاء، مواجهة مع المجتمع وقوانينه وأزماته التي لا تنتهي. نحن في انشغال متواصل يجعلنا نشعر بأنَّ لنا قيمة في أعيننا وفي أعين الآخرين. كل هذا الصخب يمنحنا وهماً بالامتلاء، أو على الأقل يُغطِّي على فراغاتنا الداخلية وما ينقصنا حقاً.
أما المساء، فهو اختبار من نوع آخر، أشد وطأة وإن بدا هيِّناً في ظاهره: مواجهة النفس. وهنا تتجلَّى الصعوبة. فالنفس بطبيعتها كيان عطش، تطلب منا الإصغاء والمصارحة والرعاية. كثيرون يهربون من هذه المواجهة عبر السهر في الخارج، أو التسكع في المقاهي، أو الانغماس في مشاهدة المنصات والشاشات حتى يغلبهم النعاس. وكل هذا ليس إلاَّ محاولة لتأجيل الحوار مع الذات، لأنه حوار صعب ومؤلم في جوهره.
وما يزيد الأمر قسوة أنَّ مَن نعتمد عليهم عادة – من أزواج أو أهل أو أحبة – منشغلون هم أيضاً في معاركهم الخاصة. لكلٍّ منهم مساءه المُثقَل، وأحماله التي يسعى لتخفيفها، فلا يكون أحدنا على قائمة أولوياتهم دائماً، مهما حاولوا أن يبدوا لنا العكس. وهكذا تتضاعف مرارة الليالي في زمن لم يعد يرحم ولا يمنح فسحة كافية لمداواة النفوس.
غير أنَّ المشهد يختلف تماماً حين تجتمع نفس إلى نفس ليُشكِّلوا تحالفاً ناعماً، تخيّل شريكين في الحياة، كلاً منهما واعٍ بماهية هذه المواجهة، وقد تعاهدا على أن يكونا عوناً وسنداً لبعضهما. هنا يتحوّل المساء من زمن ثقيل إلى لحظة ممتعة، ومن مواجهة مُوجعة إلى مساحة للمشاركة والتنفيس. عندها يُصبح المساء محطَّة لإعادة الشحن، وفُسحة للراحة والنمو، ومُختبراً للتوازن الذي يمدُّنا بطاقة مضاعفة في صباح اليوم التالي.
فالمساء حين يُعاش بمشاركة صادقة، لا يقلُّ بهجة عن الصباح، بل قد يفوقه جمالاً وعُمقاً. إذ يُصبح أساساً لنهارٍ جديد أكثر إشراقاً، ويمنح النفس فرصة للاتزان والثقة بالآخرين، فينشأ في داخلها مخزون من الطمأنينة يجعلها أقدر على العطاء والمواجهة في أي وقت وأي مكان.
وهكذا، لا يعود الليل عدواً ولا المساء زمناً مريراً، بل يُصبح حليفاً يُذكِّرنا بحاجتنا إلى التوازن، وبأنَّ أعمق المواجهات ليست مع ضغوط العمل ولا مع صخب الحياة، وإنما مع أنفسنا أولاً، ثم مع مَن اخترنا أن يُشاركنا درب الحياة.