المصلحة ليست أنانية

|

حسين يونس

تربينا منذ الصغر على أنَّ الأناني هو ذلك الشخص الذي لا تهمه سوى مصلحته، ويُطلق عليه في المجتمع بـ (المصلحجي)، أي أنه لا يهتم إلاَّ لشؤونه الخاصة التي تأتي من وراءها المنفعة، وتم إذلال هذه الكلمة في ثقافتنا الشرقية من دون وجه حق، حتى ارتبطت في أذهاننا كلمة (المصلحة) بـ (الأنانية)، فأصبحنا لا نعي ما هي مصلحتنا ونخشى البوح بما يهمنا كي لا نُتهم بأننا أنانيون، وكان الثمن باهظاً جداً، دفعت ثمنه أمة بأكملها لا تفهم معنى المصلحة ولا تعي كيف تراعيها. ومن الجدير بالذكر أنَّ كلمة المصلحة في اللغة تعني (المنفعة)، وهي كلمة شرعية استخدمها الفقهاء في كتبهم بشكل مستمر، حتى أنهم أفردوا لها جزءاً خاصاً وأسموه بـ (فقه المصالح والمفاسد)، وأصبحت قاعدة شرعية من قواعد الفقه الإسلامي المعروفة بـ (جلب المصالح ودرء المفاسد) والتي ترتكز على حقيقة أنَّ الشريعة مبنيَّة على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها.

لو نظرنا بعمق لأفعال البشر، لوجدنها مبنية على فكرة المصلحة من دون استثناء، فلولا المصلحة لما صبر الزوج على زوجته، ولما صبرت الزوجة على زوجها، ولما صبر الأولاد على آبائهم، ولما صبر الآباء على أولادهم، ولو لم يكن للعبد مصلحة مع الله … لما عبده، فالعبد يريد من الله أن يرضى عنه ويدخله الجنة، حتى في الأمور البسيطة كالصدقة ومعاملة الناس بالحسنى، فإن لم تكن تفعلها لإرضاء الله لأنك لا تؤمن به، فبالتأكيد ستفعلها لتُرضي نفسك التي تنتعش بتلك الأفعال، فهذه أيضاً مصلحة معنوية يهتم بها أولو الألباب، فليس من العيب أن يُراعي الإنسان مصلحته الخاصة والعامة، ولكن العيب أن يكون في مصلحته ضرر للآخرين، وأفضل سيناريوهات المصلحة هي تلك التي تكون خاصة ولكنها تصب في الصالح العام، فلا ضرر ولا ضرار كما قال المصطفى ﷺ.

الشاهد من هذه المقدمة، أني في كندا رأيت تطبيقاً عملياً لهذه الفكرة، فالشعوب الغربية وحكوماتها لا تحيا من دون هدف، فكما ذكرت في إحدى مقالاتي السابقة (كندا … قد تكون فرصتك للتغيير) أنه من الخطأ الإعتقاد بأنَّ الدولة الكندية تعمل كمؤسسة خيرية، همُّها فقط مساعدة المحتاج وإغاثة الملهوف ونشر الخير بالمجان من دون مقابل، فمن المهم الإنتباه إلى أنَّ كل أفعالها مبنية على المصلحة البحتة والتى ستجلب لها منفعة مباشرة أو مستقبلية لا محالة، وهذا بلا شك من فوائد التخطيط بحيث يكون هناك رؤية تسعى الدولة لتحقيقها.

فجميعنا تأثر بمشاهد وصول اللاجئيين السوريين إلى كندا وتلك اللحظات الإنسانية الرائعة، ولكن ما لم ننتبه له هو المصلحة التي ستجنيها الدولة من ضم أولئك اللاجئين إلى منظومتها الوطنية، فكندا دولة مبنية على أكتاف المهاجرين، ومن أهدافها زيادة تعداد مواطنيها في أقصر مدة ممكنة لتوسعة الدولة ورفع إقتصادها المبني على الضريبة الباهظة التي تجنيها منهم، وأذكر ذات مرة كيف انتقدت الأحزاب المعارضة وزير الهجرة في إحدى جلسات البرلمان الكندي حينما كان يُقدم تقريره حول إنجازات وزارته لعام ٢٠١٠م، فقالت له: (فقط ٢٨٠ ألف مهاجر؟ هل تعتبر ذلك إنجازاً؟ كندا بحاجة للمزيد من المهاجرين!)، أحترم جداً تلك الدول التي تراعي مصالحها الوطنية بذكاء، وقمة الذكاء أن تجلب لنفسك تلك المصلحة ضمن مشهد إنساني يُظهرك بمظهر الأنبياء.

عندما قررت كندا إستقدام اللاجئين الـ ٢٥ ألفاً، قامت بإنشاء مراكز تقييم في المدن التي استقبلتهم مثل العاصمة الأردنية عمَّان، وهدف تلك المراكز هو إجراء المقابلات مع اللاجئين بحيث يتم إستقدام صفوة الصفوة للإستفادة منهم في كندا، حتى أنَّ بعض النقَّاد استنكروا معايير التقييم وقالوا: (لم نرى لاجئين ينزلون من سلم الطائرة، بل مهاجرين من طبقات محترمة ومتعلمة، وكان يكفي النظر إلى هيئتهم لنعرف أنَّ من كان فعلاً بحاجة القدوم إلى كندا، قد تم إهماله وتركه في مخيمات اللجوء!)، وما أكد هذا النقد، أنَّ الحكومة في كندا تدرس زيادة عدد اللاجئين من ٢٥ ألفاً إلى ٥٠ ألفاً بحلول ديسمبر ٢٠١٦م، فعلى ما يبدو أنه خلال تقييم اللاجئين قد لاحظوا وجود كوادر متميزة يمكن جلبها إلى كندا الإستفادة منها، وهذا من روعة حضارات العالم الأول والتي ترتكز على القيمة البشرية في نهضتها لتصبح دولاً عظمى، وهذا خلاف العالم الثالث منزوع القيمة.

أذكر أني تلقيت نقداً عندما ذكرت في مقال (الإنسانية في كندا) أنَّ الغرب لا يريد للعرب والمسلمين أن يكونوا عبيداً لهم، بل شركاء في تحمل مسؤولية نهضة العالم، ومن أراد النهوض من جديد لا يتم منعه، بالمقابل لم ولن أنفي جرائمهم الإمبريالية، لكن تلك الجرائم ليست موجهة فقط ضد العرب والمسلمين دون غيرهم، بل ضد كل من يُعطل مصالحهم، فسياسة الإمبراطوريات والدول العظمى على مر التاريخ لا تعمل على إفناء البشرية، إنما تعمل على جعلهم تابعين لها لحفظ مصالحها، وهذا حقها الذي عملت عليه جاهدة منذ قرون، في الوقت الذي قررنا نحن طوعاً التنازل عن حفظ مصالحنا، فأصابنا الذل والهزيمة، قال الله تعالى للمسلمين يوم غزوة أحد { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } آل عمران من الآية ١٦٥.

مع الأسف الشديد، دول العالم الثالث غير قادرة على مراعاة مصلحتها ومصلحة شعوبها ضمن نسيج مصالح المجتمع الدولي الجديد، بينما تتم مراعاة المصالح الشخصية للطبقة الحاكمة في تلك البلدان والتي تضر بالصالح العام، وبطبيعة الحال ورثنا هدا النهج العقيم وحملناه معنا إلى العالم الأول، ذلك العالم المبني على تبادل المصلحة، وقد يستغرب منا بعض الغربيون عندما يرون أنه ليس لدينا رؤية لمصالحنا، الأمر الذي ضيَّع على الجالية العربية والإسلامية فرصاً كبيرة في المهجر، فلماذا لا يتم العمل على صياغة تلك المصلحة وفقاً لمبدأ (لا ضرر ولا ضرار)؟ ما العيب في ذلك؟

كلمة أخيرة، عندما سقطت الخلافة العثمانية، وعندما انهزمت اليابان وألمانيا في الحروب العالمية، بدأ المنتصرون في صياغة نظام عالمي جديد وفقاً لمصالحهم الخاصة، وكان هذا النظام أشبه بنظام الشركات والمؤسسات الربحية، وكانت الوظائف وقتها مفتوحة لكل مَن يقوى على أن يشغل مكاناً في تلك الشركة، فهناك مَن قام وأخذ دور القيادة، وهناك مَن استطاع أن يكون ضمن مجلس الإدارة، وهناك مَن فضَّل أن يلعب دور المهندس، وهناك مَن فضَّل أن يكون خزنة العالم، وهناك مَن فضَّل أن يكون صبياً في مقهى … وكلٌ باختياره !!

أضف تعليق