بينما كنت أتنزه في إحدى حدائق مدينة لندن الكندية في مقاطعة أونتاريو، قابلت عجوزاً ناهزت الثمانين من عمرها تتمشى في الحديقة، ورغم نظافة المنطقة إلاَّ أنها كانت تلتقط كل ما تراه عيناها من مهملات على الأرض، فنظرت إلى زوجتي وقلت لها (يبدو أنها فقيرة وتحتاج بعض المال)، وعندما اقتربت مِنَّا تلك العجوز، بادرتنا بابتسامة عريضة مع نظرة أمل وهمَّة عالية وألقت علينا التحية وأخذت تلاطف بناتي وتلاعبهن، فسألتها عن سبب تنظيفها للحديقة وإن كانت من إحدى العاملات فيها، فأجابت أنها من سكان الحي وبيتها ملاصق للحديقة، وهذا عمل تطوعي تقوم به من تلقاء نفسها خدمة للمجتمع، وحدثتني عن ضرورة تقديم شيء للمكان الذي نحيا فيه قبل الرحيل عن الحياة.
وبينما كانت تلك العجوز البيضاء تحدثني، كان عقلي يعيد أمام عيني صوراً من أرشيف العالم الثالث… أياد تمتد من النافذة تلقي فضلاتها… وكأنَّ النافذة سلة مهملات المركبة، حدائق عامة اختفت خضرة عشبها في نهاية يوم عائلي تحت فسيفساء من النفايات!! لا أخفيك عزيزي القارىء أنَّ هذا اللقاء قد أثر بي كثيراً، حتى وصلت إلى قناعة من أنَّ العمل المجتمعي التطوعي في الغرب هو حجر أساس ترتكز عليه نهضتهم الحضارية، وفي اعتقادي أنه لو توقف هذا العمل التطوعي قد تتوقف معه حياة الكثير من الناس، ولا أكون مُبالغاً لو قلت أنَّ كندا كدولة قد تنحدر جودتها الحضارية بشكل كبير مع هذا التوقف، فقبل الهجرة كنت أسمع عن تلك الأعمال التطوعية، ولكن لم أكن أتخيل أنَّ أثرها عميق لهذا المدى، فهي تتحمل عبئاً كبيراً عن كاهل الدولة وتوفر الكثير من ميزانيتها المالية.
منذ أيام اجتمعت مع متطوعين في مدينة تورونتو يعملون مع جمعية (Community Matters) على تسهيل قدوم لاجئي سوريا إلى كندا وفقاً للوعد الذي قطعه على نفسه رئيس الوزراء الجديد “جاستين ترودو” خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، طبعاً من الجدير بالذكر أنَّ الحكومة الكندية ما قطعت ذلك الوعد على نفسها لولا الضغوط الشعبية التي طالبت الحكومة بتفعيل دورها الإنساني في العالم بدلاً من إهدار أموال دافعي الضرائب وأرواحهم في الحلف الدولي ضد داعش، خصوصاً بعد غرق الطفل “آلان كردي” والذي أثار ضجة كبيرة في كندا حيث أنه من المفترض أن يكون هذا الطفل آمناً في كندا لولا مماطلة حكومة المحافظين السابقة في تسهيل دخوله وأهله. في نهاية اللقاء الذي امتد لما يقارب الساعتين، ظهر لي حجم الجهود التي تبذلها تلك المنظمات غير الربحية لخدمة المجتمع المدني، فقد تطرقوا إلى أدق التفاصيل التي يمكن أن يحتاجها اللاجئون فور وصولهم إلى كندا مثل استقبالهم وإنهاء أوراقهم الرسمية وتوفير المساكن والعفش والملابس والطعام والمدارس والرعاية الصحية ودورات اللغة الإنجليزية والبحث عن عمل… إلخ، جهود جبارة لبناء الإنسان والمجتمع لم أر لها مثيلا سوى في البرامج الوثائقية على شاشة التلفاز، طبعاً هنالك الكثير من الجمعيات الإسلامية والنصرانية التي تعمل على مدار الساعة لجمع التبرعات المالية والعينية من داخل كندا تجهيزاً لاستقبال لاجئي سوريا الـ ٢٥ ألفاً، وكله تحت رعاية الحكومة الكندية، والجميع يعمل بهمَّة عالية وفقاً لفطرته البشرية على إنجاح هذا الأمر.
وبينما كان الكنديون منشغلين في تجهيز أنفسهم لاستقبال اللاجئين، كان هنالك جماعات أخرى منشغلة في تنفيذ مشاريع تختلف تماماً عن مشاريع مواطني كندا، مشاريع ضخمة تحتاج إلى تضحيات بالمال والنفس، لكنها عديمة الفائدة لأنها تهدف إلى تطبيق شرع الله من خلال انتهاك ذلك الشرع والتعدي عليه، تلك المشاريع التي تعمل على انتكاسة الفطرة الإنسانية، فبينما كان هؤلاء القوم يعملون بإخلاص على نثر أشلاء البشرية في تركيا ولبنان وفرنسا، كان الكنديون يعملون على حماية تلك الأشلاء والحفاظ عليها في قالبها البشري الذي أراده الله، ورغم حدوث بعض حوادث الكراهية لمسلمي كندا نتيجة تأثر البعض بحادثة فرنسا، إلاَّ أنَّ إنسانية الكنديين فاقت كل التصورات، فعندما قام مجهولون يوم الاثنين الماضي بإضرام النار في مسجد السلام الواقع في مدينة (بيتربورو – Peterborough) التي تبعد حوالي ١٣٠ كيلومتراً عن وسط مدينة تورونتو، قام سكان المنطقة ذوو الغالبية البيضاء بفتح كنائسهم أمام المسلمين لأداء صلواتهم فيها، وقاموا بحملة تبرعات من خلال موقع (FundRazr) على الإنترنت لإعادة إعمار المسجد الذي قدِّرت خسائره بـ ٨٠ ألف دولار، وقد تجاوزت تلك التبرعات حتى اللحظة الـ ١٠٠ ألف دولار.
أثناء سماعي للخبر، كنت أقود مركبتي عائداً من العمل، ولم أشعر إلاَّ ودموعي تسيل من روعة الموقف، وتخيلت حال الجالية في المهجر لو ثار عليها الكنديون وطالبوا بهلاك المسلمين وطردهم من كندا، وفي تلك اللحظة… تذكرت زميلي النصراني الذي كان يعمل معي في العالم الثالث حين قال لي ذات مرة (كيف تتوقع شعوري سيكون وأنا أجلس في منزلي كل يوم جمعة أستمع إلى خطيب المسجد من النافذة وهو يردد في كل صلاة: “اللهم أهلك اليهود والنصارى فإنهم لا يُعجزونك” ؟!).
منهجيات العمل الغربي وعلى رأسها العمل التطوعي نعمة كبرى توافق النفس البشرية وترفع من شأنها ومعدل سعادتها، وهذه النعمة لا يقدر عليها إلاَّ كريم بكل ما تعني كلمة الكرم من معنى، ولا يمكن لمجتمع أن يُحرَم تلك النعمة إلاَّ والأنانية قد تفشَّت فيه ونخرت أركانه وجعلت أهله متقوقعين على أنفسهم لا يكترثون سوى لأنفسهم، فلا المبالغة في الولاء للغرب تفيد، ولا المفاخرة بالبنيان تفيد، ولا البذخ يفيد، ولا إضاءة علم فرنسا على أبنيتنا يفيد، ولا إهمال علم لبنان وفلسطين يفيد، إنَّ ما يفيد حقاً هو المفاخرة في بناء العقول، والبذخ المعرفي، وإضاءة أبنيتنا بأعلام الحرية، وعدم إهمال أهلنا وبني جلدتنا، والتصدر في التنمية البشرية والفكرية والعقلية، ومشاركة العالم في تحمل مسؤولية البناء والنهضة التي تخلينا عنها منذ قرن من الزمان، فأرهقنا أنفسنا ومن حولنا.
كلمة أخيرة، في اعتقادي أنَّ الغرب لا يريد للعرب والمسلمين أن يكونوا عبيداً لهم… بل شركاء في تحمل مسؤولياتهم ومسؤولية نهضة العالم، ومن أراد النهوض من جديد… لا يتم منعه، وهذه الحقيقة خلاف ما تربينا عليه منذ الصغر من أنَّ الغرب لا يريد سوى تدمير العرب وإبادتهم، والحقيقة أنَّ الولايات المتحدة المنتصرة في حربها ضد اليابان لم تمنع عدوتها من القيام على قدميها من جديد لتنافسها في الديمقراطية والصناعة والاقتصاد، كما لم يمنع الحلفاء بعد الحرب العالمية ألمانيا المنهزمة والمدمرة من القيام من جديد، لتصبح دولة ذات أكبر اقتصاد أوروبي، ولم يمنع أحد روسيا من النهوض من جديد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، فكلها دول قامت بعد سقوطها في وقت قياسي ما عدا أمتنا العربية والإسلامية، والسبب يعود إلى أنها لم تحاول القيام أصلاً، فما إن يذهب عنها سيد إلاَّ وتنتظر مبايعة سيدها الجديد، وإن حاولت القيام تعتمد منهجيات قديمة للنهوض لا يمكن لها اليوم أن تُقيم دولاً حديثة قادرة على مواكبة العصر، فأمتنا باقية في القاع ما بقيت العقول مغلقة تعيش حياة أناس قد ماتوا ليس لهم وجود ولا لدولتهم سوى في كتب التاريخ، فلم تنهض اليابان بعقلية إمبراطورها القديم، ولم تنهض ألمانيا بعقلية هتلر النازية، ولم تنهض روسيا بعقلية ستالين الديكتاتورية.
كلام في الصميم خاصة الكلمة الاخيرة جزاك الله كل خير