من منَّا يمتلك مشروع في حياته؟ من منَّا يرسم ويخطط ملامح هذه الأمة؟ وكم هو عدد تلك الفئة إن وجدت؟ إن كانت مشروعاتك: شراء سيارة أو منزل أو السفر كل إجازة إلى دولة أجنبية… فاعلم عزيزي القارئ أنك لا تمتلك شيئاً سوى السراب! ولم تعِ بعد لمعنى كلمة “مشروع”. فأنا لا ألومك، لأن مجتمعاتنا الإستهلاكية لم تبني فينا القيم الواقعية للنهضة والإعمار من خلال أهداف واضحة وعمل جماعي، لم يكن لها أي دور في إستغلال مهاراتنا ومواهبنا، أنا شخصياً لا أذكر أني سمعت كلمة مشروع إلاَّ عندما إلتحقت بجامعتي في جمهورية أوكرانيا، جرب مثلاً أن تسأل أي طفل في أمريكا الشمالية تجاوز عمره العاشرة أن يشرح لك معنى كلمة مشروع، ستُدهش لما ستسمعه، ستتعجب عندما تعلم كيف تم تدريبهم في ورش عمل جماعية من خلال مراحل الدراسة الإعدادية على بناء مهارات تطبيق الأهداف التي تم إختيارها مسبقاً من خلال إطار العمل الجماعي والميزانية المحددة.
إن ما يُميز الغرب وحتى شرق العالم كماليزيا واليابان والهند أن لهم مشروعات واضحة ومحددة لا تتغير بتغير الوجوه… بل تتطور، إنَّ من الأهمية بمكان أن يكون لك مشروعاً في الحياة واضح المعالم تحيا لأجله وتموت لأجله وتوَّرثه لِمَن بعدك، فليس من الحكمة أن ينتهي المشروع بموت صاحبه، فاستمرارية المشروعات بعد وفاة أصحابها إنما يدل على سلامة أهدافها وضرورتها في المجتمع، وبالتأكيد هذا يتطلب مجتمع صحي يأبه ويتفاعل لما يحدث من حوله.
يقول المفكر الإسلامي أ. د. « عبدالكريم البكَّار »:
الواجب علينا إزاء التحديات الراهنة التي يُمليها علينا القهر الداخلي والظلم الخارجي العودة وبإلحاح إلى تطبيق المقولة: (المشروعات الصغيرة الواقعية خيرٌ من الشعارات الكبيرة الخيالية) وهذه ليست ضرورة بل واجب حقيقي، ويقول أ. المهندس « معاذ الخطيب »: ليكن لكل منَّا مشروعه الخاص الصغير، ودعونا لا ننتظر الأمور الخارقة، لأن حركة التاريخ كما يقول “مالك بن نبي” إنما تصنعها آلاف الجهود الصغيرة التي لا نُلقي لها بالاً).
لقد رحل عنا المفكر المصري الدكتور « عبدالوهاب المسيري ١٩٣٨ – ٢٠٠٨م » مُخلَّفاً مشروعاً هاماً وعِلماً ضخماً للفكر والثقافة العربية، كما يعتبر الدكتور المسيري من أهم أعلام العصر ومُنظِّريه، فلم يكن مفكراً في برج عاجي لنظريات ليس لها أي صلة بالواقع، بل كان مفكراً سياسياً ومناضلاً عملياً يتلمس النبض الواقعي للشارع العربي، ولعل ما يميزه عن باقي المفكرين والأدباء أنه إمتلك مشروعاً حقيقياً واضح المعالم يخص القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، فمن خلال حياته في أمريكا ونشاطه الثقافي وإلقاءه محاضرات عن الصراع العربي الإسرائيلي، بدأ شعوره بالصهيونية يُـثير إنتباهه، فبدأ بتأليف موسوعته التاريخية المعنونة بإسم: (اليهود واليهودية والصهيونية) والتي أنفق قرابة ربع قرن من الزمان في تأليفها، كما تُعد الموسوعة الأضخم عالمياً فيما يخص اليهودية والصهيونية وهي من أهم إنجازاته العلمية، ولا ينكر اليهود أنفسهم أن موسوعة د. المسيري المرجع العلمي الأساسي لمعرفة التاريخ الحقيقي لبني إسرائيل في أبعاده الإجتماعية والثقافية والجغرافية.
يقول الروائي المصري أ. « يوسف القعيد »:
د. المسيري صاحب مشروع، بمعنى أنه لم يصدر كتاباً هنا أو كتاباً هناك، هو بمجرد ما اهتدى إلى تعريفنا بالصهيونية والبعد الفكري والثقافي فيها، كان قد وضع يده على مشروعه الكبير، فقد وجد نفسه ومشروعه وما يمكن أن يقوم به، فقد كان مشروعه أن يقدم لنا العدو الصهيوني من زاوية الثقافة والفكر من تأسيس ذاكرة عربية تعي أبعاد هذا الصراع الطويل جداً والذي يتمثل في الحروب كتعبير عسكري عنها، ولكن هنالك مشروع خطير يستهدف الأمة ويستهدف الذاكرة القومية، لا يستهدف فلسطين فقط ولكنه يستهدف كل ما هو عربي وكل ما هو إسلامي إستهدافاً حقيقياً في مشروع طويل المدى جداً.
يذكرني موقف د. المسيري في إيجاده لمشروعه بموقف الإمام البخاري الذي لمس فكرت مشروعه في مجلس أستاذه « إسحاق بن رهويه » الذي قال:
(لو أنه وجد من يؤلِّف كتاباً يجمع صحيح سنن النبي صلى الله عليه وسلم)، فوقع المقترح في قلب البخاري وأخذ يحلم به في يقظته ومنامه، حتى أنه رأى في منامه أن في يديه مروحه يذب بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعُـبِّـرت له أنه يذب عن سُـنته الكذب، فكان كتابه صحيح البخاري) أصدق كتاب بعد كتاب الله عز وجل.
هكذا هم أصحاب الهمم العالية والنفوس التواقة للمجد، لا يرضون بالأشياء الدنيئة الفانية، الآراء عندهم تُترجم إلى أعمال، فصاحب المشروع مهما كان موقعه في المجتمع يُحسن إستغلال المواقف وإستثمار الأخطاء وتوظيف الأحداث والإستفادة منها، فهو يسعى ويبذل الغالي والنفيس من الأسباب ولا يقف عند حد الأماني ولا مجرد الأقوال والأطروحات، إنَّ العلماء وأصحاب المشروعات يُرهقون أنفسهم ومن حولهم، لأنه غالباً ما تكون أهدافهم أكبر من طاقاتهم، يقول أبو الطيب المتنبي:
إذا كانت النفوس كِبَاراً :: تعبت في مُرادها الأجسام.
إن العظماء لا يكونون عظماء إلا بامتلاكهم مشروعات محددة في حياتهم ذات قيمة إجتماعية، من هؤلاء العظماء الأنبياء والرسل، فكلهم كان له مشروع إيصال رسالته السماوية، وبذلوا كل ما يملكون لإتمام تلك المشروعات، فقد كان الله عزَّ وجلّ قادراً على أن يُريح الأنبياء ويجعل الأرض كلها مسلمة، ولكنه بالغ الحكمة سبحانه وتعالى في جعل الأنبياء والرسل قدوة الأمم، أنظر إلى الأمم المتقدمة كيف أصبحت متقدمة، تبنَّت مشروعات داخلية وخارجية ساعدت على نهضة شعوبها، وكانت هذه المشروعات تُنجز حتى ولو كان على حساب الأمم الأخرى، فالأمة التي لا تقود… تُقاد، والتي لا تغزو… تُغزى، فلماذا نحن في الوطن العربي والإسلامي لا نمتلك مشروعاتنا الخاصة بنهضة شعوبنا؟ لماذا دائماً نرضى أن يُملى علينا ما نفعله؟ فنحن دائماً نكون جزءاً من المشروعات الخارجية في منطقتنا والتي لا تعود علينا بأي نفع.
عودةً إلى د. المسيري، تقول د. « هدى حجازي » أرملة د. المسيري والتي عاشت معه خمسين عاماً:
صارع في سنواته العشر الأخيرة مرض السرطان، ورغم ذلك كانت تلك السنوات هي الأكثر إبداعاً في حياته والأغزر في إنتاجه الفكري والسياسي، حيث عمل في آخر حياته رغم مرضه وإرتفاع حرارته المستمر بشكل مضني على تأليف ثلاثة كتب في نفس الوقت، لعله أدرك وقتها بأن حياته محدودة على هذه الأرض فكان دائم العمل، أضف أيضاً أنه كان موسوعي المعرفة سريع البديهة حاضر النكتة لا يملّ ولا يكلّ من طرح التساؤلات، وكنا دائمي البحث عن الإجابات ودائمي النقاش والحوار، أحياناً نتفق وأحياناً نختلف، وكان دائماً يكسب النقاش بسرعة بديهته ورجاحة حجته.
لقد عشق د. المسيري فلسطين وقضيتها وكانت هي من أهم مشروعاته، فقد قام على خدمتها بكل جدارة، حتى أنه إختار مستشفى فلسطين في القاهرة ليتمرض فيها قبل وفاته، لقد كان قمة في الإخلاص والتفاني رحمه الله.
عزيزي القارئ، لقد آمن د. المسيري أنَّ الإنسان قادر على تغيير الأوضاع القائمة وإيجاد مجتمع أكثر عدلاً وجمالاً، فقرأ كثيراً وكان دائم الحوار مع الآخرين دون تعصب مما أكسبه علماً جمَّـاً وأفكاراً نيِّره أضاءت كتبه ومؤلفاته، وكرس نفسه لعمله تماماً، وأنا أقول إنَّ الجهود مهما صغرت تبقى مهمة وذات قيمة لو وظِّفت في مكانها السليم، ففي مجتمعاتنا يوجد الكثير من المفكرين يؤلفون الكتب والمراجع، ولكنها متفرقة وليست متخصصة في مشروع معين، مما يجعلها تفقد قيمة مهمه في بناء الفكر العربي، فلو كلٌ منا إمتلك مشروعه الخاص وتخصص به، لتميز الفكر العربي كثيراً ولنهضت الأمة من عشوائيتها وجهودها المتبعثرة التي غالباً ما تندثر دون أن تترك أي بصمةٍ تُذكر.
الأخ الكاتب الفاضل
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
و الله إني لأغبط الدكتور المسيري رحمه الله و أمثاله لأن لديهم هذه الهمم العاليه و هذا الفكر الرائع
للأسف نتمنى و نتمنى لأنفسنا و لمجتمعاتنا و لكن قله من الناس من يترجم أقواله و أمانيه إلى أفعال
و ما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
كما قلت من ليس له مشروع فعلى الأقل فليساهم مع من حوله في مشاريعهم