(القسمة والنصيب) و (القضاء والقَدَر) مصطلحات مشهورة على ألسن الناس لا ينقضي يوم من دون ترديدها، فعلى الرغم من عظمة تلك المُسميات، إلاَّ أنها دائماً ما تأتي في سياق سلبي حتى أصبحت أغنية البائسين، فوفقاً لثقافة المجتمعات الإسلامية جميع تلك المصطلحات تؤدي إلى فهم واحد … الإكراه والإجبار وإنعدام الإختيار، فكلما فشل إنسان في أمر ما، عزاه إلى القسمة والنصيب والقضاء والقدر، غير آبه بتكليف عقله مهمة التفكير في أسباب ذلك الفشل، الأمر الذي يؤدى إلى تكراره في كل محاولة جديدة، إلى أن ينجح – صدفة – بسبب ما، فيعزو ذلك النجاح إلى مصطلح آخر … (الحظ!)، المصطلح الذي لا يقل أهمية عن سابقيه، والذي أيضاً يؤدي معناه في نفس الثقافة إلى أمر خارج عن سيطرتنا وقدراتنا، دون البحث عن أسباب ذلك النجاح وفهمها ليتم توظيفها مرة أخرى في نجاح جديد.
من الجدير بالذكر، أنَّ المُلحد قد تفوق على المسلم فيما يخص القضاء والقَدَر، لأنه يؤمن أنَّ حياته ملكه ويمكنه صنعها بنفسه ويملك كامل الخيار في ذلك، فنجح في كثير من أمور الدنيا التي كان بمقدور المسلم ألاَّ يقل نجاحاً عنه فيها.
الهدف من هذا المقال تسهيل فهم هذه المصطلحات وطريقة عملها فيما يخص الإنسان ومصيره في الدينا وإن كان فعلاً مُسَيَّراً من دون فرصة الإختيار، والتي أؤكد لكم أنها ستغير حياتكم ونظرتكم للأمور، لتكتشفوا بعدها مدى القوة التي تملكونها في حياتكم وأنتم لا تعلمون، وبما أنَّ هذه المصطلحات خلفيتها شرعية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال التطرق إليها من دون الإستشاهد بنصوص من صميم الدين الحنيف.
بداية، تعريف القَدَر: (هو ما قدَّره الله وقضاه من المقادير)، ومعنى الجملة بالتفصيل:
- القَدَر: الأشياء التي خلقها وتحدث {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء}
- قدَّره: عَلِمَ به وتمكَّن منه {وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
- قضاه: أذِنَ له أن يحدث {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء الله}
- المقادير: أفعال العباد وإختياراتهم {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}
فيُصبح تعريف القَدَر بلُغة مُبسَّطة: (الأشياء التي تحدث في الدنيا وعَلِمَ الله بها وتمكَّن منها وأذِنَ لها أن تحدث من أفعال العباد وإختياراتهم)، فالله يعلم كل شيء، فهو سبحانه يعلم ما كان (الماضي)، وما هو كائن (الحاضر)، وما سيكون (المستقبل)، وما لم يكن … لو كان كيف كان سيكون. وما يهمنا اليوم من هذا التعريف هو علم الله بما سيكون، فهو يعلم أفعال عباده وإختياراتهم قبل أن يخلقهم، وبناءاً على هذا العلم الإلهي المُسبَق … كتب سبحانه أفعالهم – التي إختاروها بأنفسهم – في اللوح المحفوظ وأطلق عليه إسم (القَدَر).
ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وشاء له أن يختار، فقد أعطاه سبحانه حرية الإختيار في كل أمور حياته التي يمكنه أن يختار منها، وسيُحاسبه على هذه الإختيارت، فعلى سبيل المثال نحن لا نُحاسب على عمل القلب والدماغ والكليتين والكبد والشرايين، ولكن نُحاسب على تقصيرنا في صيانتهم والمحافظة عليهم. قال ابن القيِّم في النونية: (متى وقع الجبر بطل الحساب) أي أنَّ الله سبحانه وتعالى لن يُحاسب الإنسان على الأمور التي لم يكن له فيها خيار، مثلاً … لن يحاسبنا الله على أبوينا لأننا لم نخترهما، ولن يُحاسبنا على اللحظة التي ولدنا فيها، ولا المكان الذي ولدنا فيه لأنها جميعها أمور لا يمكننا إختيارها، فمتى ما انتفت إرادة الإنسان لسبب لا يملكه وليس داخلاً في قدرته، رُفع عنه الحساب وبَطُل.
حاول إستيعاب ما قرأت جيداً، ثم فكَّر قليلاً في حياتك واسترجع شريط ذكرياتك مع (القسمة والنصيب)، وكن صادقاً في مراجعتك … كم مرة كان بإمكانك الأخذ بزمام الأمور ولم تفعل لأنك كنت تعتقد – واهماً – أنَّ الله قد سلب منك نعمة الإختيار وأنه فرض عليك ما لم تكن ترغب ورضيت به لأنه قدرك ونصيبك؟ هل فعلاً الله هو مَن فرض عليك أن تذهب إلى الجامعة أو لا تذهب؟ هل هو الذي فرض عليك التخصص الذي درست؟ أو عملك الذي تعمل فيه؟ أو الشريك الذي إقترنت به؟ إذا كان كل هذا فرض منه سبحانه، فلماذا سيُحاسبنا على تلك الأمور التي فرضها علينا وكانت نصيبنا الذي لم نملك خياراً فيه؟ هل سيكون ليوم القيامة وحساب العباد أي معنىً لو كانوا مُكرهين ومُجبرين على القيام بما لم يختاروه؟ بالطبع الجواب لا … ليس له أي قيمة، ولانتفت صفة العدل والحكمة عن الله – حاشاه – فمن تمام عدله وحكمته أن جعل للإنسان حرية الإختيار، وعلى هذا الأساس يكون الحساب.
طبعاً الحديث والأمثلة في هذا السياق كثيرة جداً ولن يسعني المقال لذكرها جميعاً، لكن سأخص بالذكر قضية الزواج لأهميتها ولأنها في سياق حديثنا عن المرأة العربية، فهناك فهم خاطئ كبير يحوم حول فكرة الزواج يكاد لم يسلم منها أحد إلاَّ القليل القليل، الأمر الذي أدى إلى سلب نعمة الإختيار من حياتنا في قضية الزواج وأفقدنا أي معنىً لها، فدائماً ما نسمع المرأة تقول عن زوجها السيء (هذا قَدَري) أو (هذه قسمتي ونصيبي!)، والرجل يُردد نفس الكلام عن زوجته السيئة وكأنَّ الأمر إكراهٌ في إكراه وليس إختيار، بل فرض وإجبار من الله – حاشاه سبحانه – وهو العادل المُنزَّه عنه ظلم عباده.
لو كان الزواج إكراهاً وإجباراً من الله، فلماذا شُرعت صلاة الإستخارة وأمرنا بها رسول الله قبل الإقدام على الزواج؟ لاحظ أنها تُسمَّى الإستخارة لأنها من الإختيار، فالإنسان في هذه الصلاة يستعين بالله ليُسهِّل إختياره لما هو غيب، بل أكثر من ذلك، يقول الرسول الكريم ﷺ فيما ذكر الألباني في صحيح الجامع: ((تخيَّروا لنُطَفِكم، فانكِحوا الأكفاءَ وأَنكِحوا إليهم))، وحديث آخر في نفس السياق ذكره البخاري في صحيحه: ((تُنكَحُ المرأةُ لأربَعٍ: لمالِها ولحَسَبِها وجَمالِها ولدينها، فاظفَر بذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَداكَ))، وكلمتي (تخيَّروا) و (اظفَر) كلمات تدل على الإختيار وليس الإجبار ولا يمكن فهمها بأي شكل آخر.
سأختم بآخر تساؤلات مهمة لهذه المقالة الدسمة:
- ما هي بالضبط القسمة والنصيب في الزواج؟ القسمة والنصيب أن يسهِّل الله اللقاء وذلك رزق من الله للرجل والأنثى، بحيث يتواجد الرجل والأنثى في نفس المكان والزمان، والإختيار أن يطرق الرجل الباب طلباً لزواج الأنثى، وللمرأة أن تقبل بذلك الرجل أو ترفضه.
- ماذا لو لم يأتي الرزق؟ هل يمكن السعي له؟ بالطبع، كيف بالرجل أن يعلم عن أنثى أنها ترغب بالزواج ولم تعلن عن ذلك، لابد من الأخذ بالأسباب لإدراك الرزق، روى البخاري ومسلم عن «أم عطية الأنصارية» رضي الله عنها أنها قالت: ((أمرَنا رسولُ اللَّهِ ﷺ أن نُخرجهُنَّ في الفطرِ والأضحى، العواتقُ والحُيَّضُ وذواتُ الخدورِ))، و(العواتق) جمع عاتق وهي مَن إستحقَّت التزويج، والهدف من هذا الإخراج هو أن يعلم المجتمع عنهن فيأتيهن الراغبون بالزواج. الشاهد أنَّ الإنسان لديه حرية الخيار في توسعة رزقه من خلال الأخذ بالأسباب، تماماً كالذي كان يتقاضى ألف ريال قبل الشهادة الجامعية، وعندما أنهى دراسته أصبح يتقاضى خمسة آلاف، فهو مَن إختار أن يوسِّع رزقه وأخذ بالأسباب المؤدية إلى ذلك.
كلمة أخيرة، أفضل مثال لفكرة الإختيار وجلب الرزق وتوسيعه في قضية الزواج، أن تجد عائلة في المهجر قد إعتزلت الجالية العربية والإسلامية تماماً، وبعد سنين … لم يتقدم أحد لخطبة إناثهم، والسبب أنهم إختاروا تلك العزلة، فمن خالط الجالية إستفاد، ومن إعتزل دفع الثمن، وكلٌ بإختياره ولا إكراه في القَدَر، وصدق من قال (قدرك تصنعه بنفسك!).
أشكر جميع المتابعين الكرام على إهتمامهم ومداخلاتهم وقت الحوار المباشر لمناقشة المقال أعلاه. يمكن مشاهدة تسجيل الحوار على الروابط التالية:
١) الفيسبوك: حوار مباشر على الفيسبوك (هل يصنع الإنسان قدره؟)
٢) اليوتيوب:
انت تتكلم من برجك العالي ولا تنظر لحقيقة ما يجري في الحياة اليومية.
في 90% من الوقت نكون ملزمين على اختيار خيارات لا نريدها, لكن ظروف الحياة وغياب العدل في الحياة ترغمنا على اختيار ما لا نريد من أجل أن تستمر الحياة لأن اختيارنا للخيار الصحيح سيكون كارثيا علينا ويترتب عليه نتائج قد تؤدي إلى فناءنا.
الحياة غير عادلة بالمرة وهي أقرب ما تكون إلى الحظ الذي لا نستطيع صنعة مهما عملنا.
إن جئت إلى الحياة وتوفقت بوالد قد هيأ لك سبل الحياة فأنت موفق, وان ولدت في مجتمع فيه خير فأنت موفق, وان ولدت في بلاد غربيه فيها قانون وحقوق وعدالة ومساواة فأنت موفق, (موفق ولو بالحد الأدنى وهو مبلغ الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية ) أما عكس هذه الحالات فأنت بالتأكيد ستقبل مضطرا ما تلقيه الحياة لك من فتات أو رمم.
من كثر ما تعبت في مساكن الايجار في الشرق الأوسط بات عندي قناعة أن أول يوم لي في الآخرة ساقضيه في البحث عن مسكن للايجار وعمل قريب..
ما يجري اليوم حيث انا في الشرق الأوسط وما يحد من حرية الاختيار هو التحول إلى الوجه السيء من الراسمالية وهو مص دماء الناس دون إعطائهم حتى بعض الحقوق, ناهيك عن حق الاختيار.
ويسمون ذلك تجارة وشطارة.
تجار خرجوا من أي دين ومن كل مبدأ والهدف مص دماء الناس وعندما سينتهي الدم سيستعبدون الناس بشكل مباشر ويعود زمن الاقطاعيين.
نحن في الشرق الأوسط الطبقة المسحوقة لا نختار بل ناخذ البقايا,وما زلنا على قيد الحياة فقط لأن الهواء مجانا, ولأن الاقطاعيين يحتاجون إلى عمال.
التجار هم عدو الإنسانيةالاول, وهم مانعي الحقوق ومنها حق الاختيار, هم صناع الحروب والأزمات والمجاعات وهم صانعي الفساد بكل انواعة.
بسبب ظلم الحياة, والتجار لا نستطيع ولن نستطيع الاختيار.