من أكثر المصطلحات المتداولة بين الخاصة والعامة في مجال السياسة والأعمال هو مصطلح الإستراتيجية، ولكن مع الأسف إنَّ هذا المصطلح أصبح يُضاف مع كل كلمة دون وعي لمفهومه الحقيقي، فهي بالطبع كلمة مهمة ذات قيمة عالية، ولكن عندما تستمع إلى نصوص الساسة وأرباب الأعمال في الوطن العربي التي تُساق فيها هذه الكلمة، تعلم يقيناً أنهم غير مُدركين لمعناها على الإطلاق، فالنتائج العربية المزرية في كل خِطَطِهم والإنحطاط الرهيب الذي يعصف في الأمة، يُثبت مدى جهلهم لمصطلح الإستراتيجية وأهميته.
والسؤال الآن، إلى متى سنبقى نُردد المصطلحات المستوردة دون وعي أو إدراك؟
يقول د. عبدالله المنيف: ( الإستراتيجية يجهل فحواها ومعناها وخباياها حتى المتخصص في حقل الإستراتيجية، فقد طرأ خلط وعدم وضوح وكثير من سوء الفهم والتشويش على معناها، حتى وصلنا إلى تعويض المصطلح ليعني التخطيط أو السياسات وحتى الأهداف ).
كلمة الإستراتيجية ليس لها مرادف في اللغة العربية وهي منقولة بلفظها الأصلي من اللغة اليونانية (Stratēgos) المشتقة من كلمتين: كلمة (Stratos) والتي تعني (عسكري) وكلمة (Ago) والتي تعني (قيادة)، فهي تشير إلى (القائد العسكري) خلال العصر اليوناني، ومعناها من مصدرها الأصلي يعطينا بعض الدلالات لتعريفها مثل: ( الدهاء في المناورة العسكرية للتضليل أو الخداع أو المباغتة أو المفاجأة للعدو لتحقيق النصر )، كما يمكن جمع تعريف شامل لكتابات قادة القرن التاسع العشر العسكريين أمثال: فينتر، هارت، مولنكة، وبوفر بأنها: ( فن توزيع وإستخدام المعارك بالوسائط والقوى العسكرية لتحقيق أهداف الحرب التي حددتها السياسة ).
ومن الجدير بالذكر أن الإستراتيجية كانت حكراً على كبار القادة العسكريين كما حدث في الصين واليابان، ولقد إتصفت بالسرية والخصوصية والإكتفاء بوجودها في فكر القادة دون تدوين للأسلوب الفكري لها، فمع الأسف لم تُدوَّن رؤية القائد العسكري للأحداث وأهميتها وتصنيفها، وإختياره للوسيلة الملائمة، مما أدى إلى عدم وضوح لمعنى الكلمة، وسوء فهمها أنتج جهل فلسفي وفكري أوصل الكثير من القادة العسكريين لإستخدام الحرب، علماً بأن الإستراتيجية لا تعني الحرب ولا تعني إستخدام القوة، بل تعني التهديد بإستخدام القوة وصولاً إلى تحقيق الأهداف.
وبعد ذلك في القرن العشرين إنتقل المصطلح من ذهن القادة العسكريين إلى مراكز الدراسات الأكاديمية والتي بدأت مرحلة جديدة من التنظير والتوثيق لهذا الأسلوب، كما تم نقلها إلى حقول المعرفة الأخرى كالعلوم السياسية والإدارية للمال والأعمال، فظهرت مؤخراً مراكز الدراسات الإستراتيجية. كما أسهم حقل الدراسات في إدارة الأعمال بشكل فاعل في تفجير وتجذير مصطلح الإستراتيجية في قطاع الأعمال، حيث تُعد الإستراتيجية مهمة رئيسية للإدارة العليا التنفيذية والمتمثلة في المدير العام أو الرئيس التنفيذي للمنشأة، لذلك هي تتشابه مع العسكرة بأنها مرتبطة بالقائد الأعلى، ومن جانب آخر تتشابه مع العسكرة بأنه إتضح لنا بأن ضرورة إعداد الإستراتيجية مرتبط بوجود عدو تتوخى محاربته بأي طريقة تكون المعركة إحدى خياراتها، وكذلك فإن ضرورة إعداد الإستراتيجية الإدارية مرتبط بوجود منافس تتوخى مقارعته والإصطدام به وصولاً إلى تحقيق بيعي لحصة من السوق تأخذها من هذا المنافس، أو تتوخى وقف المنافس عن أن يأخذ جزءاً من حصتك من السوق، فإن وجود المنافس ضرورة للإستراتيجية الإدارية، وبدون المنافسة لا ضرورة لإعداد الإستراتيجية ولا جدوى من التفكير فيها.
كما تُعرَّف الإستراتيجية في قطاع الأعمال على أنها: ( خطة عمل طويلة الأجل ترمي إلى تحقيق هدف المنشأة – في معظم الأحيان يكون الفوز – التي تشمل جميع قطاعات وإدارات المنشأة، وإختيار الأسواق المستهدفة وتطوير مزيج من سياسات التسويق المناسبة لكلٍ منها، وتخصيص الموارد اللازمة لتحقيق الأهداف ).
فالإستراتيجية هي عبارة عن إختيار اليوم الذي سيؤثر في نتائج الغد، فلو قمنا بقياسها على قطاع الأعمال بعيداً عن المقاييس العسكرية لوجدنا أن المنشئات تستطيع أن تبقى في أوجها لأطول مدة في ظل ظروف من الإستقرار النسبي لبيئة عمل قليلة الإضطرابات مع إنخفاض المنافسة على الموارد، في الحقيقة إنَّ هذه الشروط غير سائدة حالياً ولا يمكن توفرها لمدة كبيرة من الزمن في العالم الحديث، سواء كانت المنشأة من القطاع الخاص أو حتى القطاع العام، فطبيعة الإستراتيجية المُعتَمَدة والمنفَّذة تنبثق من تركيبة هيكلة المنشأة ونوعية مواردها المتاحة وطبيعة ترابطها مع البيئة والهدف الإستراتيجي المرجو تحقيقه، فالإستراتيجية تتغير وفقاً لطبيعة الأحداث والمعطيات بخلاف القوانين والتعليمات الصارمة، وفي بعض الحالات تأخذ الإستراتيجية طبيعة طارئة وملحَّة.
كما أنَّ الإستراتيجية الإدارية تُعد وسيلة تنبع من تفكير خلاَّق وإبتكار إبداعي، وتختلف عن التكتيك – فن وضع الخطط – أو إتخاذ إجراءات فورية مع الموارد المتاحة في متناول اليد، فالإستراتيجية بطيبعتها مدروسة مُسبقاً بشكل شامل، وفي كثير من الأحيان مُتَمَرَّن عليها عملياً، كما تُستخدم الإستراتيجيات في تسهيل إدراك المشكلة وحلها، أضف إلى ذلك أنَّ الإسترتيجية تُبنى من جرَّاء تصنيف الأحداث والمتضادات بطريقة قيادية، حيث يتم نقلها إلى حيز التنفيذ عن طريق إعداد الأهداف والأغراض والخطط والسياسات والإجراءات، فهي مناورة ومباغتة ومفاجأة مقصودة ضد المنافسين في السوق وصولاً إلى هدف في زيادة الحصة السوقية، وهي كذلك أفكار وقرارات يتم إتخاذها بمعزل عن توفر كامل المعلومات، فهي تتسم بالمخاطرة وعدم التأكد. ومن ذلك تسعى الإستراتيجية إلى تحسين نوعية الإنتاج أو أسلوب خدمة المستهلك مقارنة بالمنشئات المنافسة بالتركيز على إظهار وتفعيل قدرة نقاط القوة في المنشأة، ومحاولة معرفة نقاط الضعف في المنشأة المنافسة بغية الحصول على حصة من السوق أكبر من حصة المنافسين.
وأبسط مثال للإستراتيجية هو قياسها على سيناريو الألعاب الرياضية، ففي مبارة كرة القدم مثلاً، إذا كان الفريق يُنظِّم خطة تقتضي تمرير الكرة بتسلسل خاص بين اللاعبين في مناطق محددة من الملعب، فنجاح الخطة يتوقف على تواجد كل لاعب من الفريق في مكانه المحدد في نفس الوقت، مع تذكرهم تماماً لأوقات من أي لاعب إلى أي لاعب سيتم تمرير الكرة، علاوة على ذلك يجب ألاَّ يحدث أو يظهر أي إنقطاع أو معوقات في تسلسل اللاعبين. وبالمقارنة، إذا كان الفريق قام بتبسيط الخطة الإستراتيجية بحيث يتم تمرير الكرة في نمط واحد بين أي لاعب من الفريق، وفي أي موقع من الملعب، ستنخفض إلى حد كبير قدرتهم على مواجهة الخصم وتغيراته، وللأسف أنَّ فرصة تطبيق الإستراتيجية الثانية ذات النمط الواحد هي الأكثر شيوعاً في كثيرٍ من الأحيان.
أودّ عزيزي القارئ أن تستوعب مفهوم الإستراتيجية الحقيقي بالعودة إلى أحداث التاريخ، ومن هذه الأحداث القديمة المستجدة:
-
الحرب الباردة: إستراتيجية الحرب الباردة بدأت عام 1945م بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية بين المعسكر الشرقي المتمثل بـ (جمهوريات الإتحاد السوفيتي الإشتراكية)، والمعسكر الغربي المتمثل بـ (الولايات المتحدة الأمريكية)، والتي إنتهت في عام 1991م بإنهيار الإتحاد السوفيتي وإنتصار الولايات المتحدة عليه، فالإستراتيجية المتَّبعة كانت تقتضي إرهاب كل طرف للآخر من خوض الحرب المباشرة، بحيث لا تنتقل الحرب الباردة الغير مباشرة إلى مواجه مباشرة في أراضي أحد الطرفين، فلجئوا إلى مناطق مختلفة من العالم كالفيتنام وأفغانستان لإستعراض القوة والتباهي بالإنجازات العلمية والعسكرية، كما تم زرع الجواسيس وأجهزة المخابرات السرية في الدول المعادية، ونشر الدروع الصاروخية في الدول الحليفة، وغير ذلك من الأمور التي قد ترهب الأعداء من خوض الحرب المباشرة.
-
الإحتلال الصهيوني: إستراتيجية الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة تقوم على إستخدام إستراتيجية طويلة الأجل هدفها إرعاب المسلمين ونشر الخوف في قلوبهم من خوض الحرب أمامهم، فتاريخهم شاهد على هذه الإستراتيجية المستمرة حتى يومنا هذا من تدمير وقتل للمسلمين في دير ياسين، وصبرا وشاتيلا وقانا وجنين وغزة وغيرها من الأماكن التي تمكنوا من السيطرة عليها.
-
المنتجات العالمية: إستراتيجية تسويق المنتجات الأجنبية كـ (السيارات والشاحنات، الفنادق والمنتجعات، المشروبات والأطعمة، المقاهي والمطاعم، الثياب والألبسة … إلخ) والتي تحظى بذوقٍ رفيع ورواج عالمي كبير، حيث تمكنت تلك الشركات من غزو أسواق العالم أجمع، وسحق المنافسين بجودتهم العالية وإعلاناتهم الدعائية الإبداعية، وإستقبال إقتراحات وإعتراضات الزبائن لتطوير المنتج بغية توفير ما يلزم المستهلك، أضف إلى ذلك قدرتهم على فهم إحتياجات الأسواق العالمية وتلبيتها بشكل خاص ومتميز يُلائم كل سوق على حدا، أضف إلى ذلك أن المستثمرين يحرصون دائماً على الإكتتاب في المنشئات الجديدة التابعة لتلك الشركات، وشراء الأسهم فيها، مما يُعزز قوتها في الأسواق المحلية والعالمية.
المراجع:
-
“إستراتيجية الإدارة اليابانية” تأليف د. إبراهيم المنيف.
-
“فن الحرب” تأليف سون تزو.
شكرا ونعك الله ونفع بك
الاستراتيجية في اللغة العربية تعني التدبير ومذكورة في القرأن الكريم
للأسف اليوم في البلاد العربية عمومًا و في تلك التي شهدت ما قيل عنها ثورات بصفة خاصّة، نسمع كثيرًا تكوين أو بعث مراكز دراسات إستراتيجيّة وحين التمعّن في تركيبتها وأرضيتها والهدف منها، نقف حقيقة على جهل كبير بمفهوم الإستراتيجيا الحقيقي، حيث يتبيّن بعد الإعلان عن بعثها وأحيانًا بعد تركيزها عمليًّا، أنّها مُجرّد فكرة تخمّرت في ذهن مسؤول ليس له من المسؤولية إلاّ الإستيلاء عليها إمّا بالقوّة أو بالمحاباة، وسرعانما تتلاشى الفكرة في خضم تفاعل الأحداث وما يبقى من مركز الدراسات الإستراتيجية سوى لافتة معلّقة على رواق أو بناية موصد الأبواب تتفاعل بداخلها الجرذان.
شكرا جزيل الشكر استاذ حسين على هذه المعلومات التي استفاد منها في المرحلة الرابعة لادارة الاعمال ………… وكثر الله من امثالك لخدمة العلم والتعلم