سافرت في رحلة عمل في أواخر عام ٢٠٠٦م إلى مدينة جوهانسبرغ في جمهورية جنوب إفريقيا، وبعدما استقبلني مندوب الشركة المُستضيفة ( رجل أبيض ) وأوصلني إلى الفندق، سلمني مفتاح مركبة مُستأجرة للتنقل بحرية في أوقات المساء، ولكن قبل أن يرحل .. فتح أمامي خريطة المدينة وأخذ يرسم لي دوائر المنطقة الخضراء الآمنة التي يمكن لي التنقل في جنباتها، وأكد عليَّ ألاَّ أتعدى تلك الحدود التي خطَّها لي بعد الساعة السادسة مساءاً، لأني ببساطة .. قد أخسر حياتي !
وعندما سألته عن السبب قال: ( خارج هذه الدوائر الخضراء .. مناطق السود .. فلا تقربها ! ).
جاء وقت المساء وخرجت وحدي للحصول على وجبة عشاء، وكنت قد اتبعت الخطوط التي رسمها لي بحذافيرها، وبعدما انتهيت وأنا في طريق العودة إلى الفندق، أربكني إختلاف معايير القيادة في جنوب أفريقيا المصممة وفق المعايير الإنجليزية، فمقوَد المركبة على الجهة اليمنى بدلاً من اليسرى وكذلك خط سير الطرق .. فجميعها بالمقلوب، وكان هذا وحده كفيلاً بأن أضلَّ الطريق .. وقد فعلت !!
العجيب في تلك البقعة من العالم أنَّ ديموغرافية المدينة قد تم تصميمها بدقة بالغة لتفصل بين الأسود والأبيض، وبمجرد وصولي إلى مناطق السود وقد كان الليل دامساً، بدأت أشهد مناطق فقر مدقع، وتكتلات من الزِنج على جنبات الطريق يحاولون إيقاف المركبات لبيع المخدرات وتأجير بنات الليل وبيع أشياء مسروقة، وسرقتك بسطوة السلاح إن تمكنوا منك، طبعاً كاد قلبي أن ينخلع من مكانه من رهبة الموقف وأنا أراهم يقفزون على المركبات الواحدة تلو الأخرى، وبتلقائية كاملة .. قدت المركبة بأقصى سرعة لأنفذ بجلدي من بين المركبات، ولولا رحمة الله .. ما نجوت !
في اليوم التالي أخبرت الشركة بما حدث، وقالوا لي بأني فعلاً نجوت، طبعاً جميعهم كانوا بيضاً، فسألتهم إن كان هناك أي موظف أسود يعمل في الشركة، فقالوا: عندنا 8 موظفين سود من أصل 80 موظف، وأغلبهم ندفع لهم حتى لا يأتوا إلى العمل .. ندفع لهم فقط من أجل المحافظة على قانونية سجلات الشركة مع وزارة العمل، لأن قانون العمل في جنوب أفريقيا بعد إنتهاء العنصرية يُحتم على كل منشأة أن توظف 10% من السود.
إنتهت الرحلة وعدت إلى بلدي، وأول سؤال خطر لي وأنا في الطائرة:
ما هذا الشيء العظيم الذي قدمه « نيلسون مانديلا » لسود الجنوب الأفريقي؟
أين هو هذا الإنجاز الذي يتحدث عنه العالم؟
في الأسبوع الماضي انتقل مانديلا إلى خالقه، وبدأ العالم يتحدث عن مناقبه، ولا شك أنَّ مانديلا صاحب قضية، ويحق لقومه أيَّاً كانوا أن يفخروا به لما يروه إنجازاً بمفهومهم، لكن الحقيقة أنَّ الرجل كرَّس العنصرية بدلاً من محاربتها، وأضر بقضية قومه أكثر مما نفع، وإن كان النظام في جنوب أفريقيا جامل العالم بمانديلا .. فها قد رحل مانديلا وبقي شعبه الأسود الذي سيتجرع مرارة العبودية من جديد.
ليس المقصود هنا التقليل من شأن الرجل أو تلفيق الإتهامات له، ولكن يجب لفت الإنتباه لتحوله النضالي، خصوصاً لأبناء أمتنا العربية والإسلامية التي تعج حياتهم بالقضايا الشائكة، الأمة التي مع الأسف الشديد .. قررت أن تضع كتاب الله وكلام رسوله الكريم جانباً، والإقتداء بمانديلا الذي دخل السجن مناضلاً بنكهة الأحرار، وخرج منه مناضلاً بنكهة الرجل الأبيض، مانديلا الذي كان يرى حمل السلاح حرية فقال ( فقط الأحرار يمكنهم التفاوض )، خرج بعد ذلك يدعو إلى التسامح الغير مُبَرر ليُبقي شعبه الأسود في الضعف والجهل والفقر والأمراض والأوبئة، سلم على طبق من ذهب موارد أفريقيا للرجل الأبيض وجعلوه يرتع في الشعارات والمحافل السياسية، وهذه طبعاً سياسة الرجل الإمبريالي الأبيض في صناعة الرموز والقادة، فحواها: ( إن سَرقناكَ واستعبدناكَ ونكَّلنا بك وقتلنا أهلك .. فعليك أن تضع السلاح جانباً وتتحول إلى حمامة سلام، غير ذلك .. فأنت إرهابي والسجن مقرك الأبدي ).
« عز الدين أبو العيش » دكتور فلسطيني هاجر إلى كندا، قتل الكيان الإسرائيلي بناته الثلاثة في مدينة غزة عام 2009م، لكنه أصابته لوثة التسامح الذليل، فخرج على الإعلام الغربي يتغنى بمسامحته لقتلة فتياته الثلاث، وأنه يُحب الإسرائيليين ولا يجب عليه أن يكرههم، وألف كتاباً يحمل إسم ( أنا لن أكره – I Shall Not Hate )، وطار به اللوبي الإسرائيلي فرحاً في الإعلام الغربي، وتلقى دعماً ضخماً لحملته التسامحية، ولو استطاع هذا الرجل ثني أهل فلسطين عن فكرة النضال المُسلح كما فعل مانديلا مع قومه .. لجعلوه في مقام لا يقل عن مقام مانديلا وغاندي، وستجد سيرته في مناهج الدراسة العالمية وقد نُحتت له التماثيل التذكارية في كل محفل.
بالمقابل، أتساءل .. ماذا لو كان مانديلا مسلماً؟ ماذا لو رفض الخنوع لسلام الأذلاء وآثر تطبيق كلام الله؟ هل كان سيذكره أحد ممن يذكرونه اليوم؟ لا أعتقد، وإلاَّ .. لكانوا ذكروا وخلدوا سيرة أحرار فلسطين أمثال الشيخ المجاهد « أحمد ياسين » رحمه الله، فنضاله ومعاناته أعظم بمراحل من نضال مانديلا، وغيره كُثر في أمتنا، ولكنهم فضلوا تخليد مانديلا ومن هم على شاكلته للتمكن من الشعوب الحرة.
إن كان الشيخ ياسين مناضلاً بفكر السلاح، فماذا عن غيره من العرب المسلمين الذين لم يحملوا سلاحاً قط؟ أين العالم عن الفارس الحقيقي للقارة الأفريقية؟ رجل خدم أهل أفريقيا أكثر من مانديلا بمائة مرة، هل سمعت عزيزي القارئ بخادم فقراء إفريقيا الدكتور « عبد الرحمن السميط » من الكويت؟ لا أستغرب إن لم تكن قد سمعت به من قبل، فإعلامنا أيضاً يعمل بنكهة الرجل الأبيض.
د. السميط هو فارس العمل التطوعي في القارة الأفريقية وشيخ دعاة عصره هناك، كان مؤسسة كاملة الأركان تمشي على الأرض، كان رجلاً بأمة، لا تكاد مؤسسة خيرية عالمية لم تسمع به، بل بعضهم أطلق عليه لقب ( ملك إفريقيا )، ما قدمه هذا الرجل للقارة السمراء يجعل التاريخ يخجل من ذكر إسم مانديلا إلى جانبه، خرج منذ عقود يعمل في تطوير الفرد الأفريقي وإنقاذه من المجاعة والعبودية وتسهيل هداية السبيل .. ليس من أجل الهروب من دائرة الضرائب في بلده كما يفعل أغنياء الغرب .. بل هروباً من نار جهنم، وطمعاً فيما عند الله من رحمته وكريم جزائه.
لكن لن يُضيرَه رحمه الله جَهل أهل الأرض به مادامت أعماله قد دوِّنت عند رب الأرض، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه.
ختاماً عزيزي القارئ تذكر:
القلة القائدة تصنع القدوة بتدبير، والكثرة الكاثرة تتَّبعه دون تفكير
دمتم وعقيدتكم الإسلامية بكل خير.
صدقت يا أخي تماماً،،، فنحن أمة مهزوم نفسياً إلى أقصى حد،، لدينا في ايدينا كل شيء و في امكاننا أن نفعل اي شء و لكن للإعلام و التعليم الذي فرض على أمتنا دون باقي الأمم قدرة سحرية جعلتنا نكبل أيدينا بأنفسنا و نقدس جلادينا و نكره أنفسنا. فهم نزعوا من ثقافتنا الأمثلة الناصعة المخلصة التي ضحت بالغالي و النفيس في سبيل الحق و الحرية و اقحموا فيها أمثلة لا قيمة و لا معنى لها مثل هدى شعراوي و قاسم أمين و غيرهم من التافهين.. حقا إن الاستعمار لم يترك بلادنا الا و قد ضمن أن ثقافته المزروعة فينا ستبقى إلى ما شاء الله…
و هل كنت تفضل استمرار الحرب الأهلية بين السود و البيض في جنوب أفريقيا !!!
ربما يكون مانديلا قد فشل في تحقيق كامل الرفاهية و العدالة الاجتماعية لبني جنسه من السود ولكنه حقن دماء كثيرة و هذا ما يعرف في الاسلام بفقه الأولويات ( درء المفاسد مقدم علي جلب المنافع )
إن كنت ترى – على سبيل المثال – أن ما قام به “ياسر عرفات” درء للمفاسد عندما تنازل عن فلسطين التاريخية مقابل سلام مزعوم وذل لشعبه لا يزول .. فبالتأكيد سترى أن ما قام به مانديلا لا يقل عن ذلك، فأنا أرى أن كلاهما مناضل بنكهة الرجل الإمبريالي الأبيض الذي جعل من السلام (المُهين) بطولة أسطورية !!
واستشاهدك بفقه درء المفاسد الذي ذكره إمام أهل السنة “أحمد بن حنبل” لم يكن صائباً على الإطلاق، لأن درء المفاسد لا يستوجب الذل والخنوع، إنما يكون وفق الضوابط الشرعية التي تحمي كرامة الإنسان، وخير مثال على ذلك الهدنة التي قام بها “صلاح الدين الأيوبي” مع الصليبيين عندما نزلوا عند حقه في فتح القدس وإدارتها مقابل خروجهم آمنين بجيشهم وعتادهم، فهذا هو التطبيق العملي الصحيح لنظرية الإمام أحمد في درء المفاسد.
وبالعموم، لو سلَّمنا جدلاً أن ما قام به مانديلا كان قراراً سليماً، فهو لا يتعدى أن يكون إنجازاً سياسياً عادياً جداً، أي زعيم سياسي قادر على أن يقوم بمثله .. هل تعلم لماذا؟ لأنه لا يحتاج إلى أي جهد .. وهو ذو نكهة عالمية .. توافق نكهة الرجل الأبيض .. الرجل الذي يحكمك .. ويحكم بلدك .. ويحكمنا جميعاً !
الذي قدمّه مانديلا هو جعل مناجم الألماس والذهب واليورانيوم سبيل للغرب يرتع فيه كما شاء, حيث أن إنتاج أحد مناجم الذهب في جنوب أفريقيا يبلغ 40% من إنتاج العالم, فضلا عن شهرة تلك البلاد بالألماس واليورانيوم.
الواقع أن مانديلا أخذ من الغرب نبذ العنصرية المتوهمة والتي تصب في صالح الرجل الأبيض ليقبل الأسود التعايش معه, مقابل استفادة الرجل الأبيض من المصادر المعدنية التي كان الأجدر أن ينعكس أثرها على بلد مثل جنوب أفريقيا.
صورة مع التحية, لتجّار الإيجابية والحرية الوهمية.
أضف إلى أنَّ ما خفي كان أعظم، والزمن وحده كفيل بأن يُظهر لنا الخسائر الحقيقية التي ألحقها مانديلا بشعبه الأسود!