لماذا وصلنا إلى هذا الحد؟

|

حسين يونس

من الفوائد الجميلة التي بدأنا حصدها من تطبيق كلوب هاوس، التواصل المباشر بين الشعوب العربية بشكل نقي بعيداً عن ماكينة الاعلام التي لوَّثت تلك العلاقات منذ زمن، فما يحدث في غرف ذلك التطبيق من محادثات صوتية مباشرة كشفت عن مدى الحضارة الراقية التي تتمتع بها تلك الشعوب، وقد زال الكثير من الاحتقان الذي خلَّفه ذباب التويتر! والأهم هو إزالة الخلط الكبير بين الشعوب المضطهدة والحكومات المستبدة، الأمر الذي بدأ رويداً رويداً يُهدِّئ النفوس المشحونة ويجعلها تستمع لبعضها من دون أي تشويش مقصود.

لكني لاحظت أيضاً خلال النقاش، المُعضلة الآخذة في الانتشار بين بعض العرب المسلمين الذين يعتقدون بأنَّ الأمور الدينية تُفرِّق بين البشر، وأنه من الأفضل التوقف عن الاستشهاد بكلام الله ورسوله خلال النقاش الدائر لتجنب الفتنة!

في إحدى الحوارات قالت لي سيدة عربية كانت تُدير حواراً صباحياً: (لماذا يا حسين أشعر أنك دائماً تُقحم الإسلام في النقاش وتستشهد بنصوص دينية؟)
فقلت لها: (وما العيب في ذلك؟ أنت سألتني عن رأيي، وأنا أجبت وفقاً لما أؤمن به، والمفروض أن تحترمي ذلك الرأي!)
فقالت: (لكن قد يكون معنا في الحوار بعض العرب الغير مسلمين، وقد لا يناسبهم ما تقول..)
فقلت: (يبدو لي واضحاً من أسماء المشاركين في الغرفة وصورهم أنهم مسلمون، وحتى إن كان معنا غير المسلمين، فهم أقلية ولا أعتقد أنهم سيتضررون أو يتأذون بسماع ما نؤمن به.. من باب التعايش الذي تدعون إليه، والأهم.. لا ينبغي لأقلية أن تُجبر الأغلبية على التخلي عن مبادئها بحجة التعايش، هذا كلام مرفوض!)
وأضفت: (تخيلي في دولة مثل كندا يقطنها ٢ مليون مسلم كأقلية بين ٣٨ مليون نسمة غير مسلمة، ماذا لو طلبوا من الأغلبية التنازل عن مبادئهم بحجة التعايش؟ هل هذا مقبول؟ بالتأكيد لا، ونحن لا نتخيل أنفسا كمسلمين أقلية في المهجر أن نُجبر الأغلبية الغير مسلمة التخلي عما يؤمنون به لأنه لا يناسبنا، هذا ليس تعايشاً ولا يساعد الشعوب المختلفة على تَقبُّل بعضها البعض والاندماج فيما بينها، بل على العكس.. سيُحوِّلهم إلى شعوب باطنية منافقة تُخفي في نفسها شيء وتُظهر شيئاً آخر ونتيجة ذلك سيئة بكل المقاييس).

المشكلة أنَّ تلك السيدة تُعرِّف نفسها على أنها إعلامية تعمل في فضائية معروفة، ومن بديهيات العمل الإعلامي أن يكون الذي يُدير الحوار مُحايداً لا يأخذ موقفاً أو صفاً في النقاش الدائر مهما كان الاختلاف بين ما يؤمن به وبين الضيوف المُتحدثين، لكن على ما يبدو أنَّ ما نسمعه اليوم حول مهنة الإعلام بات صحيحاً (مهنة مَن لا مهنة له) وهذه ظاهرة آخذة في الانتشار مع الأسف الشديد.

قال لي أحدهم خلال النقاش الدائر في ذلك اليوم واسمه «محمد»: (عندما تتكلم عن قضايا لها خلفية دينية، تجعلني أشعر كم أنا مُقصِّر في ديني، لذلك لا أحب أن أخلط الدين في الموضوعات العامة)
فسألته: (وماذا عن القضايا المهنية التي أتحدَّث عنها مثل الإدارة والقيادة والشركات وتطوير الذات، كيف يكون شعورك عندما يعتريك شيء من النقص أو التقصير فيها؟)
فقال: (سأعمل على تطويرها، وقد أفردت صفحة خلال النقاش كتبت فيها ملاحظات قيمة من كلامك عنها..)
فقلت مستغرباً: (إذاً.. لماذا لا تعمل أيضاً على تطوير الجانب الديني تماماً كما تعمل على تطوير الجانب المهني؟ أين الضرر؟!)
وأضفت: (هل يُعقل أن تقبلوا من المُتحدِّث الاستشهاد بأقوال غاندي ومانديلا.. ولا تقبلوا منه الاستشهاد بأقوال محمد بن عبد الله؟!)

بالمناسبة، هذا ليس الموقف الأول أو الوحيد الذي تعرضت له في كلوب هاوس، من أيام كنت في غرفة نتحاور فيها عن أهمية اللغة العربية في حياتنا، ولماذا هي ضرورةٌ تعليمها لأولادنا، وعندما جاء دوري للحديث..
قلت: (أعتقد أنَّ اللغة العربية مهمة لبناتي حتى أضمن لهن قراءة القرآن الكريم بشكل مباشر ومفهوم من دون ترجمات تضيع المعنى وقد تكون ترجمتها ركيكة وفي بعض الأحيان خاطئة، فاللغة العربية تضمن الوصول إلى الحق في الإسلام من دون مشوشات..)
فقاطعتني سيدة مسلمة اسمها «عُلا»: (أرجو عدم الخوض في الكلام الديني، معنا في الغرفة غير مسلمين يستمعون لنا ويجب احترامهم!)
فقلت: (يعني أنتم طلبتم مني التحدث وفقاً لمبادئي التي أؤمن بها، وعندما نطقت.. تأذيتم إلى هذا الحد؟! هل هذا معقول؟ هل سألتم غير المسلمين إن كانوا فعلاً متأذين مما نقول؟ هل تعبيرنا عن مبادئنا سيُقلل من احترامنا لهم؟ لماذا دائماً العربي المسلم يحاول أن يكون مَلَكي أكثر من الملك؟! ما الذي تريدين سماعه مني؟ تريدين مني أن أقول تعليم اللغة العربية مهم لبناتي لأنها لغة ساحرة وجميلة وبليغة؟ هل هذا ما تريدين سماعه؟ ما هذا التسطيح؟!).

ليس لدي شك من أنَّ بعض المُرددين لهذا الكلام أمثال «محمد» و «عُلا» وغيرهم أناس طيبون ونواياهم طيبة، ولكنهم ضحية البروباغندا الاعلامية التي لوَّثت عقولهم فيما يخص هويتهم الدينية التي تحوَّلت إلى وباء يحاولون دائماً التملص منه وعدم الخوض فيه إما بسبب جهلهم به أو رفضهم له، وفي كلا الحالتين الأمر مؤسف، ويجعل على عاتقنا مسؤولية كبيرة كي نستمر في الكتابة والتبيان لهم ولغيرهم، علَّهم يقرؤون هذا الكلام يوماً ما في هدوء بحيث يستطيعون استيعابه.

كلمة أخيرة، من أكثر الأمور التي لفتت انتباهي في الكلوب هاوس هو انتشار فهم خاطئ لحقيقة (الاختلاف) و (التعايش) في المجتمع، وقد يكون هنالك بعض العقلاء الذين يعلمون المعنى الحقيقي والحضاري لتلك المصطلحات المهمة، لكنهم لا يريدون السباحة عكس التيار كي لا يتعرضوا للنقد من الآخرين، خصوصاً بين أولئك الذين يعملون في الإعلام، لذلك عندما بدأت الكتابة منذ أكثر من ١٥ سنة، قررت ألاَّ أكون إعلامياً، وعوضاً عن ذلك أن أكون صاحب رأي، بمعنى يمكن أن أكون ضيفاً في برنامج أو طرفاً في نقاش لأتمكَّن من البوح بما أؤمن به حتى أحقق فائدة ملموسة على أرض الواقع وفي حياة الآخرين.

حسابي على كلوب هاوس (@HusseinYounes) نلقاكم هناك في حوارات صوتية مباشرة!

رأي واحد حول “لماذا وصلنا إلى هذا الحد؟”

  1. أحسنت، لقد أشرت إلى حالة نلمسها باستمرار على مواقع التواصل الاجتماعي حيث بت أشعر بانفصال الكثيرين عن واقعهم

    رد

أضف تعليق