دخلت ذات يوم إلى أحد الأسواق الكبيرة لأشتري ماءاً بارداً، فسألت البائعة عن مكان الثلاجة، فقالت أنها إلى الأمام بجانب قسم الخضار، ومن دون أن أشعر.. وجدت نفسي أبحث عن قسم الخضار بدلاً من الثلاجة، وبدأت أسأل من أجده في طريقي أين هو قسم الخضار بدلاً من سؤالهم عن مكان الثلاجة! وعندما غادرت المتجر، تفكرت قليلاً في ذلك الموقف، إذ دخلت بحثاً عن شيء مُحدد، وبكل بساطة.. تحوَّل بحثي إلى شيء آخر لأنَّ شخصاً ما داخل المتجر أعاد برمجة هدفي، وهذا بالضبط ما يحدث معنا في شتى نواحي الحياة اليومية.
الغالبية الساحقة من البشر تفشل في تحقيق أحلامها لأنها تفقد بوصلة التركيز نحو الهدف، والأسباب في ذلك متعددة، أهمها التأثيرات الخارجية التي نتلقاها من الإعلام ومِمَن حولنا في المجتمع وغيره، وهذه التأثيرات تجعل من الفرد مُنصاعاً للتيار العام دون أن يشعر، والنتيجة.. المزيد من الإحباط وعدم الرضى.
من الأمور التي أحب ممارستها، مراقبة طباع البشر وطرق تفكيرهم، وهذا الأمر بات متاحاً بكل يُسر من خلال مشاركات الناس في شبكات التواصل الإجتماعي، ومن الأمور التي لفتت إنتباهي خلال المراقبة.. التعليقات على المنشورات، فعلى سبيل المثال، عندما أنشر خاطرة أو مقال على الفيسبوك، أعود بعد وقت يسير لتحليل سير التعليقات، لأجد أنَّ التعليق الأول غالباً قد أثَّر على سير التعليقات كلها، فإذا كان إيجابياً.. تجد التعليقات التي تليه مماثلة، وبالعكس إذا كان سلبياً، تليه التعليقات السلبية. وهذا ما يُعرَف في علم النفس بـ (الإمتثال – Conformity).
عندما تترك نفسك للتيار العام لتكون مثل مَن حولك من البشر، فأنت ببساطة تلغي نفسك وقدراتك الذاتية التي تُميِّزك عن الآخرين، الأمر الذي يجعل السير في طريق النجاح بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً. فمن الأخطاء الشائعة التي أدركتها، هو اعتقاد البشر بأنَّ وصفة النجاح واحدة وطرق الوصول إليها واحدة، فإذا أردت أن أنجح.. لابد لي أن أتَّبع تلك الوصفة، وهذا وهم كبير تم ترويجه للناس عبر العصور مع الأسف الشديد!
علمتني الحياة أنَّ الطرق إلى النجاح متعددة ووصفاتها مختلفة، وقد لا تشبه بعضها سوى في النهج العام كالإصرار والتركيز والمتابعة وبذل الجهد لتحقيق الهدف، ومن هنا قد نفهم أسباب الفشل الذي اجتاح التعليم المدرسي والجامعي بسبب اتباعهم نمطاً واحداً لتقييم الطلبة وقدراتهم، فإذا كان معيار الذكاء تسلق الجبال.. فبالتأكيد المُقعد الذي لا يملك قدمين سيكون من أغبى البشر، وإذا كانت علوم الجبر والرياضيات المعيار الوحيد لقياس الذكاء، فبيكاسو والمتنبي وأحمد شوقي من أغبى البشر، وإذا كانت الفنون الجميلة والقدرة على تأمل الرسومات وألوانها هو المعيار الوحيد لقياس الذكاء، فالخوارزمي ونيوتن وأينشتاين هم الأغبى أيضاً.
في كل مرة أنتقل فيها إلى عمل جديد، أضع نصب عيني حقيقة أنه لابد لي أن أضيف شيئاً جديداً على بيئة العمل بحيث يكون لي تميُّز عن الآخرين، وهذا لا يمكن أن يحدث لو انصعت للثقافة السائدة بين الموظفين في الشركة التي سأعمل بها، والإمتثال لتلك الثقافة هو إلغاء لخبراتي السابقة التي تعبت في تحصيلها، وبدلاً من الإمتثال، أعمل على الإندماج بحيث أستفيد مما هو صحيح في تلك الثقافة، وأجتنب ما هو سلبي فيها وأعمل على تطويره إن أمكن ذلك. وهذا بالضبط النهج الذي اتبعته خلال إقامتي في كندا في مجتمع تسوده ثقافة غربية فيها ثمار نافعة وأخرى فاسدة.
كما هو معلوم، مجال العمل في كندا يحتاج إلى الكثير من المهارات والخبرات التي تجعل رب العمل في حاجتك، وهذا أمر يسري على بقية دول العالم بما فيها دولنا العربية، ولكن في الغرب عموماً المنافسة في سوق العمل على أشدها، ولم أنجح في ذلك السوق الغربي إلاَّ عندما أدركت ضرورة التميُّز عن الآخرين، الأمر الذي جعلني كثير النفع للمكان الذي كنت أعمل فيه، لدرجة أني صمدت أمام أكثر من سبع عمليات إعادة هيكلة (Reorganization) عصفت بالشركة التي كنت أعمل بها لمدة خمس سنوات متتالية، والتي دائماً ما ينتج عنها تسريح عدد كبير من الموظفين. والذي يعمل في الغرب، يفهم تماماً ما أقوله.
الشاهد أنَّ هذا الصمود يحتاج إلى تركيز، ومن ثمار التركيز أنه يفسح لك المجال لاستغلال خبراتك المتراكمة، كما يسمح لك باستخدام قدراتك الذاتية التي تجعلك مميزاً عن الآخرين، ولو سمحت لكل من حولك بالتأثير على سيرك نحو الهدف.. لن تصل أبداً إلى مبتغاك، وقد تصل متأخراً تماماً كما حدث معي في المتجر خلال بحثي عن الثلاجة، لأني أضفت هدفاً آخر كنت في غنىً عنه.
الكثير من الناس تتراجع عن فكرة التميُّز لأنهم لا يريدون أن يتلقوا أي نقد مِمَن حولهم، فالإختلاف عن المجتمع يوحي للآخرين بأنك مغرور، وكثيراً ما كنت أتلقى تلك الإتهامات.. ومازلت! والسبب.. أني فقط أحاول أن أكون نافعاً للمكان الذي أتواجد فيه.
الدهما أصل البلاء.. وما أكثر الناس ولو حرصت بمُتمَيِّزين، وأعتقد شخصياً أنَّ التميُّز جزء من الإيمان الذي يجعلك مختلفاً عن باقي الخلائق أمام الله، فالتميُّز يجعل الإنسان حُراً من أي تأثير خارجي قد يُعيق تطوره ويُكبِّل تقدمه، وهذا يعني أنَّ الإنسان سيحتاج إلى قوة في قلبه وعقله ليُدرك ذلك، ولن يتسنى ذلك الأمر من دون حصول التركيز!
حالة التيه التي يُعاني منها البشر اليوم تجعلهم في تعاسة دائمة لأنهم لا يستطيعون أن يجدوا أنفسهم، تلك النفس الضائعة في زمن السرعة والتي تتعرض في كل ثانية لمؤثرات رهيبة تجعلها ريشة في مهب الريح. فالنفس هي تلك التربة التي ينبت منها كل شيء جميل يُميِّزك عن الآخرين.
قوة الإعلام وضعف الثقافة وتضارب الآراء وغياب المبادئ مؤثرات كفيلة بأن تجعلنا نفقد التركيز، الأمر الذي يجلعنا نغيِّر آراءنا وأهدافنا في اليوم الواحد أكثر من مرة، مما يقودنا إلى التشتت والفشل المُحتَّم بلا ريب. ولابد من التفريق بين تنقيح أهدافنا لنمو عقولنا وتطور خبراتنا، وبين تغيُّرها المستمر والسريع لانعدام التركيز، فالفرق بينهما كبير جداً ولا ينبغي الخلط.
حاول أن تفهم ما تَقدَّم وابدأ في تطبيقه، وسترى نتائج مُبهرة في وقت قصير بإذن الله.
(حدد أهدافك ⟸ ركِّز ⟸ وظِّف خبراتك وقدراتك ⟸ تميَّز ⟸ إنجح ⟸ علِّم الآخرين).
صدقت في كل الكلام ،بالتوفيق والي الامام داءما
فعلا التركيز مهم ….مشكور