قضيت الكثير من الأوقات في حياتي أبحث عن العلاقات الإيجابية بيني وبين البشر، ولم أعتقد في يوم من الأيام أنَّ هذه العلاقات من الممكن الحصول عليها في إطار من يقربني جداً، وكنت دائماً أعتمد على بناء تلك العلاقات مع أصدقائي وأصحابي الذين بذلت جهداً ضخماً في إنتقائهم بعيداً عن نطاق الأهل والأقرباء، ولعل السبب يعود إلى غربتي المبكرة والتي بدأت في سن الثامنة عشرة عندما بدأت شق طريقي بعيداً عنهم إبتداءاً من الجامعة والعمل وحتى الوصول إلى الوطن البديل في المهجر، إضافة إلى الفارق الثقافي والحياتي بيني وبينهم والذي تشكل تلقائياً مع الزمن، فعندما يغترب المرء ويبني مستقبله بعيداً، يصبح نهج حياته مختلفاً تماماً عنهم، وعندما يحدث اللقاء تشعر بهذا الفارق بقوة كبيرة.
أيضاً هذا الإرهاق صاحبني في إنتقاء العلاقات البديلة للأقرباء، فأنا على قناعة تامة بأنَّ البيت هو عبارة عن مملكة مقدسة ولا يُسمح لأيٍّ كان أن يخترقها ويُفسد عليّ أنسي بمملكتي، فكان لزاماً إنتقاء من يدخل بيتي بحرص وعناية كبيرين، وهذه الغربلة المستمرة بالتأكيد مرهقة، فقد طالت حتى من يقربني، ولكنها مفيدة جداً وتُضفي عليّ وعلى أسرتي الخير الكثير، فمن ينغص علي عيشي لا أتورع ولو لدقيقة من أن أقطع علاقتي به فوراً مهما كانت العلاقة قريبة أو بعيدة، فالحياة قصيرة وتحتاج لكثير من التركيز للإنجاز، ولا يوجد فيها الكثير من الوقت لإهداره مع من سمَّاهم «ابن القيم» رحمه الله (حُمَّى النفس).
طبعاً أنا لا أقلل من شأن أحد ولا أرفع من شأن نفسي – معاذ الله – ولكني أحاول التطرق إلى قضية غاية في الأهمية منتشرة بكثرة بين البشر من خلال تسليط الضوء على تجربتي الخاصة جداً لتعم الفائدة بإذن الله، والقضية هي: ظاهرة الإستغناء عن الأقرباء بسبب أو بدون سبب، وأتساءل إن كان هذا الإستغناء مُبرراً أو مفيداً؟
سبحان الله … ومن دون أي تنسيق، شاء الله سبحانه وتعالى أن يُيسر لي قضاء عطلة عيد الأضحى في كنف شقيقتي وأسرتها في الولايات المتحدة، ومن دون أي تفكير … قبلت الدعوة وإتجهت أنا وأسرتي صبيحة يوم عرفة من بيتي في مدينة ميسيساجا الكندية إلى مدينة نيوجيرسي الأمريكية، وخلال 8 ساعات من القيادة المتواصلة تمكنت أنا وشقيقتي من تناول طعام الإفطار سوية لحظة غروب عرفة، وبدأنا التخطيط ليوم الغد، فمنَّ الله علينا من حضور صلاة العيد مع أولادنا والتمتع بمشاهدة أحد الأخوات الأمريكيات تنطق الشهادة لتعتنق الإسلام، ومن ثم تناول غداء العيد في إحدى المطاعم العربية ومن ثم زيارة الأحبة … فعلاً عزيزي القارئ … هكذا يكون العيد، مع الأهل والأحبة، فمهما كانت الأرض التي تسكنها جميلة، فهي لا تساوي شيئاً من دون مشاركة من يفرح لفرحك ويحزن لحزنك ويفكر معك دوماً في حلول تجعل من حياتك أفضل.
المفاجأة الكبرى التي أفقدتني القدرة على الإدراك، ما حدث لفتياتي الصغيرات عندما عدنا إلى بيتنا في كندا بعد إنتهاء إجازة العيد، إذ إنفجرن بالبكاء من دون توقف، وبدأت أسألهن ما الذي يبكيكن؟ فقلن أنهن يرغبن في العودة إلى أمريكا عند عمتهن لقضاء وقت أكبر هناك، بل أصبحن يلححن عليّ في الإنتقال إلى الولايات المتحدة بدلاً من البقاء في كندا، ودهشتي كانت لا توصف، لأني وبكل بساطة ومن خلال الزيارات الكثيرة جداً لكثير من الأخوة الأصدقاء وإختلاط أولادي بأولادهم واللعب معهم لساعات طويلة … لم يحدث ولو لمرة أن بكين أو حزنَّ على فراقهم، ومن ثم بدأت أسألهن ما الذي أعجبهن في بيت عمتهن؟ هل هو البيت الكبير؟ أم الحديقة الخلفية للمنزل؟ أم كثرة الألعاب؟ أم ماذا بالضبط؟ … أريد أن أفهم!! فقلن لي أنهن فقط فرحن بها ولم يكترثن كثيراً إلى كل ما ذكرت!
سبحان الله … جلست أفكر كثيراً في قربى الدم والأمور الفطرية الربانية والتي تأتي في هذه العلاقة مقارنة مع علاقات الأصدقاء والأصحاب، ومن خلال تجاربي الحياتية وجدت أنه وبكل بساطة هنالك فوارق جوهرية حقيقية بين كلتا العلاقتين تجعل من الأهل المعدن الذهبي الذي لا يصدأ أبداً والكفة الراجحة دوماً.
لو أجريت بحثاً عالمياً لتقييم صداقات إستمرت إلى فترة طويلة جداً حتى الممات بحيث أنها استبدلت الأهل المقربين … ستجد أنها شبه معدومة ولا وجود لها على الإطلاق. ولو قمت أيضاً ببحث آخر لتقييم علاقات الأهل والأقرباء فيما بينهم والتي كانت غاية في السوء لأسباب مختلفة ولمدة ليست بالقصيرة، ستجد أن أغلبها قد عاد والتأم وإنتهت نهايات مُرضية.
سبحان الله، هنالك شيء نفسي عميق في العلاقات الأسرية ترقى عن علاقات الأصدقاء، فلو تأملت بعلاقتك مع أصدقاءك ستجد أنه في كل مرة تتعرف فيها على صديق تتقارب جداً في أفكارك معه تقول في نفسك … هذا هو صديق العمر، وفجأة وبعد عشرة أو عشرين سنة … تنتهي العلاقة وتؤل إلى البرود الحاد إن لم يكن الإنقطاع. ولعل السبب يعود إلى أسباب كثيرة كإرتباطك بأصدقاء آخرين أعلى مرتبة إجتماعية وثقافية من صديق عمرك الذي أنت معه اليوم، بل تجد أيضاً أنَّ صداقة العمر تنتهي أحياناً لإختلاف في الرأي، أو مزحة سخيفة فحواها أنت أردت أن تمثل عليه أنك غاضب بعد نقاش معين … وهو أراد أن يمثل عليك أنه لا يكترث لغضبك … وفجأة يُصبح غضبك حقيقي لأنَّ صديقك لم يكترث لغضبك والذي كان زائفاً أصلاً … وتنتهي العلاقة … هكذا … وبكل سخافة !!
من المستحيل أن يحدث هذا مع العلاقات القريبة، ومهما كانت العلاقة ملتهبة، ستجد من داخل العائلة عاقل حكيم … يشدك من أذنك لتصالح قريبك، أما بين الأصدقاء فالسيناريو مختلف ومع الأسف.
ختاماً … أصحابي … أحبكم كثيراً، وأتمنى من هذا المقال ألاَّ يكون في نفوسكم شيء عليّ 🙂
كل المحبة والتقدير لكم جميعاً.