عندما أظلَّني مَلَك الموت

|

حسين يونس

من الطقوس اليومية التي أقوم بها كل صباح، الجري لمدة ٣٠ دقيقة ومن ثم السباحة لمدة ٢٠ دقيقة، لأكون بعدها جاهزاً تماماً لاستقبال يوم مليء بالمسؤوليات المرهقة. لكن في الأسبوع الماضي وبالتحديد في عطلة نهاية الأسبوع، أحببت أن أستثني رياضة الجري، وعوضاً عنها قمت بالسباحة لمدة ٤٥ دقيقة من دون إنقطاع، وعندما أقول سباحة.. فهي سباحة رياضية متواصلة كما ينبغي، وليست فقط الوقوف في عرض المسبح!

بعدما انتهيت من السباحة، استلقيت على الكرسي الخشبي بجانب المسبح لآخذ قسطاً من الراحة، وعندما هممت بالعودة إلى مقر إقامتي، شعرت بالعطش، ومن ثم هبوط في الضغط وتعرُّق شديد مع رغبة بالتقيُّء، مع أنَّ معدتي وقتها كانت فارغة ولا يوجد بها طعام، ولكن هذا شعور طبيعي لهبوط ضغط الدم من شدة الإرهاق والجفاف معاً.

من الجدير بالذكر أني في تلك الليلة لم أحظى بعدد كاف من ساعات النوم، بسبب الإستيقاظ المُبكِّر بعد سهر تجاوز منتصف الليل لإنهاء بعض الأعمال المتأخرة.

المهم وأنا في طريق العودة، جلست على كرسي في النادي الرياضي لأني بدأت أشعر بالغثيان وأصبحت لا أقوى على الوقوف، لأفقد الوعي تماماً وأنا على الكرسي!

وعلى ما يبدو أنَّ أحد المُدرِّبين انتبه إلي وأنا مُغماً علي، فهرع لنجدتي محاولاً إيقاظي كي لا تسوء حالتي، وبدأ بالضغط بقوة على المنطقة التي بين السبابة والإبهام في يدي، وهو يُردد بالإنجليزية: (سيدي.. أرجوك إستيقظ ولا تُغمض عينيك!)، وبقي يُحاول إلى أن أيقظني فعلاً، لأجد حولي العشرات من الناس قد تحلَّقوا في محاولة لنجدتي، إلى أن اخترق الصفوف طبيب باكستاني يسكن في نفس الأبراج التي أقيم فيها، وكان قد أنهى تمارينه للتو وعلى وشك الرحيل، فطلب من العاملين تمديدي على الأرض ورفع قدماي إلى الأعلى في محاولة لتنشيط الدورة الدموية.

بعد دقائق من فحصي، قال لهم: (إتصلوا بالإسعاف.. حالته سيئة ويجب نقله إلى المستشفى فوراً!).

كل هذا كان يدور من حولي وأنا في حالة من الضعف الجسدي لم أشهدها من قبل! ولم يكن حتى يخطر لي أن أسقط في حالة إغماء وسط الناس بهذه الطريقة!

خلال دقائق معدودة، كان رجال الإسعاف فوق رأسي يقومون بالإسعافات الأولية، وبعدها قرروا نقلي إلى المستشفى لإجراء فحوصات كاملة للإطمئنان علي، ولأنهم لاحظوا أنَّ ضغط الدم لم يتحسن وأنَّ نبضات القلب بطيئة، شعروا بالقلق!

وصلت إلى مستشفى حمد العام في العاصمة الدوحة، وعلى الفور أدخلوني إلى غرفة الطوارئ، وقاموا بكل الفحوصات المطلوبة من أشعة للصدر وتخطيط للقلب وفحص للدم وفحوص سريرية أخرى، ومن ثم أحضروا لي وجبة طعام – محترمة – لتناولها، ناهيك عن المحاليل السائلة التي حقنوها في شريان يدي لتجاوز نوبة الجفاف التي سلبت قوتي وأنهكت جسدي.

بعد أربع ساعات من الفحوص الشاملة، شعرت بتحسن في النبض ومُعدل الضغط، وتجاوزت محنة الجفاف، فقرر الأطباء أنه بإمكاني مغادرة المشفى.

وعند المغادرة، سألت إن كان هناك أي مستحقات مالية يجب علي دفعها مقابل خدمة الإسعاف والطوارئ وكل تلك الفحوصات.. فالشركة التي أعمل بها توفر لي تأميناً طبياً، فكان الجواب أنَّ الحساب (صفر!) ولا داعي لاستخدام بطاقة التأمين الخاصة بي، فكل تلك الخدمات مجانية في مستشفى حمد العام للمواطن والمقيم على حد سواء.. وهنا دُهشت تماماً!

وأخبروني أنَّ بطاقة التأمين تلزمني فقط في المستشفيات الخاصة، وذلك خلاف دول الخليج الأخرى التي تحتاج من المقيم الحصول على إعفاء من الحكومة أو الديوان الأميري من أجل دخول المستشفيات الحكومية.

شكرتهم من أعماق قلبي، وحمدت الله على تلك النعمة، وعدت أدراجي إلى المنزل وأنا أسترجع شريط أحداث اليوم، وتذكرت وقتها كندا التي أحب، والضرائب الباهظة التي كنت أدفعها دون أن أحظى بخدمة إسعاف مجاني!

نعم عزيزي القارئ، الغالبية الساحقة لا تعلم أنَّ خدمة الإسعاف في كندا ليست مجانية، فعلى الرغم من تقدم تلك البلاد وتوفر تأمين طبي من الدولة، إلاَّ أنَّ كلفة خدمة الإسعاف (٤٥) دولار في مقاطعة مثل أونتاريو، و(٢٤٠) دولار لمَن لا يملك تأميناً صحياً والمعروف بالـ (OHIP) في نفس المقاطعة. ناهيك عن جحيم الطوارئ الذي أبغضه.. فالطوارئ في كندا تُعاني من بيروقراطية مقيتة تم تصميمها لحماية المستشفى وكادرها الطبي، عوضاً عن خدمة المريض وحمايته!

وكنت قد كتبت في ذلك مقالاً بعنوان (طريق الآلام في كندا) شرحت فيه تلك الأزمة التي ليس لها حل في القاموس الكندي مع الأسف الشديد.

بقي أن أذكر لكم نقطة مهمة جداً من ذلك الموقف، فقد أخبرني الأطباء أني محظوظ جداً لتوقفي في النادي الرياضي لحظة مغادرة المسبح، فلو وصلت إلى المنزل في تلك الحالة السيئة وسقطت على الفراش في غيبوبة، كان إحتمال مغادرة الحياة كبير جداً بسبب تباطؤ دقات القلب ومن ثم توقفها، وعلى مايبدو أنَّ الموت كان يُحلِّق فوق رأسي في تلك اللحظات، ولكن الله أراد لي الحياة ولم يشأ أن يُرمِّل زوجتي ويُيتَّم فتياتي وهنَّ في عمر الزهور وفي أشد الحاجة لوجودي، فالحمدلله الذي تتم بنعمته الصالحات، والحمدلله على نعمة الحياة.

لكن بقيت فكرة واحدة عالقة في رأسي، وكلما راودتني.. انتابتني نوبة خوف من حجم المسؤولية: (ماذا لو تمكَّن مني مَلَك الموت قبل أن أُخرجهُنَّ من كندا؟ ما هو مصيرهنَّ لو لم أُهيئ لهنَّ فرصة العودة إلى الشرق؟!).

حفظ الله عليكم أرواحكم سالمة وأُسرَكم غانمة، ولا أراكم الله مكروهاً في أجسادكم، ولا أراكم مصيبة في دينكم، ولا حسرة في ذريتكم ~ دمتم في رعاية الله.

8 رأي حول “عندما أظلَّني مَلَك الموت”

  1. الحمد لله على سلامتك وانت عم تلغي فكرة الهجرة عندي شخصيا
    وعلى فكرة الحالات الطارئة مجانية بمستشفيات ابوظبي الحكومية

    رد
  2. حمد لله على سلامتك لاباس عليك اخوي يونس ماقدامك الا العافية .
    شكلك مافطرت كويس داك اليوم الفطور وجبة اساسية باليوم .

    انا كمان طبيب اخوي محمد وشغال بالمستشفيات الحكوميه متنقل كنت بالصحه وبالتعليم وبالمراكز الطبيه المرموقة ، فاعرف تماما كيف السيستم الطبي يشتغل معرف يمكن دا النظام فقط في المستشفيات الي عملت فيها جايز لو ممكن تدينا اسم المستشفى الي فيها الطوارى مجانا ادا ادخلو المقيم اصلا ، اتدكر حتى مره واحد زوج مواطنه وجا الطوارى وكان سبب الرفض انو مو ع كفاله فردية متلا يعني وانت تعلم ان الطوارى لم توجد لاستقبال الموتى فقط بل استقبال كل حاله تستدعي الطوارى سواء هذي الحاله جات عبر سياره الاسعاف او عبر سياره نقل خصوصيه ، اتدكر كمان احد زملايي عاين حالة بنفسو كانت قسطره حرمه كبيره ومغيبه دخلت الطوارى بعد مادفعو تامين 1000 ريال وبعدين بس ماسولها قسطرة لانو طلبو 10 الف ريال خلوها بس مستقره وخرجوها تخيل لك ان تتخيل ، على الاقل كندا يا اخ حسين يونس ماتستولي على تروات وخيرات البلد ولو تبغا اسردلك حالات طبيه مره غير انسانيه بالسعودية لاني هنا الي اعاينهاا ماقدر اكلمك متلا عن البحرين لاني مو على اطلاع عنهم ، غير كمان تخصيص الصحه الي جاي بالطريق عندنا ع كدا الكل حيدفع مواطن ولا مقيم الله يعين

    رد
  3. أجر و عافية أخي حسين. إعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. ثق بالله وأعلم ان الله لن يضيعك ولن يضيع أسرتك أبدا.

    رد
  4. حمداً لله على سلامتك، بحكم عملي كطبيب في السعودية أحب أوضح ان خدمة الطوارئ وما يترتب عليها من دخول المريض واجراءا اي عملية جراحية مهما كلّف سعرها يعتبر مجانا في المستشفيات الحكومية لانه اصلا لا يوجد فيها نظام دفع، لكن الذهاب الاختياري وانت بكامل قواك وحتى لو لديك مريض خطير سيوقفونك بالباب ويطلبون منك استثناء او امر علاج من الديوان الأميري !

    رد

أضف تعليق