طريق الآلام في كندا

|

حسين يونس

كم هو رائع عندما تتكفَّل الدولة بمواطنيها وتقدم لهم الخدمات الحياتية الأولية وعلى رأسها الرعاية الصحية، كم هو رائع أن يطمئن المواطن على نفسه في بلد يكفل له العيش الكريم، ولكن كم هو قبيح عندما يتم تشويه تلك الخدمات – الباهظة الثمن – وتطويعها لصالح أفراد وجماعات معينة في المجتمع.

في الأسبوع الماضي مرضت زوجتي وأصابتها حمَّى لعدة أيام، والأعراض كانت معروفة لنا وهي أعراض الإنفلونزا المتمثلة بإرتفاع الحرارة والزكام وسعال وألم في العظام والمفاصل … إلخ، ولكن ولمدة ٤ أيام متتالية لم تنفع أدوية الصيدليات على الإطلاق، الأمر الذي اضطرنا للذهاب إلى الطوارئ لنتأكد من أنَّ حالتها ليست خطرة وأنها لا تحتاج إلى مضاد حيوي، فالمضادات الحيوية في كندا لا يمكن شراؤها من الصيدلية من دون وصفة طبيب، وهذا خلاف بلادنا العربية حيث يمكنك شراء المضادات الحيوية من الصيدلية كشراء الحلوى من السوبرماركت من دون إذن الطبيب.

رغم وجودنا في العالم الأول والتمتع بمعايير صحة عالية وخدمات طبية مجَّانية، إلاَّ أنك قد تستغرب عزيزي القارئ إذا علمت أنَّ العقلاء في كندا دائماً ما يحاولون – قدر المستطاع – إجتناب الذهاب إلى الطوارئ بشتى السبل، ويفضلِّون الإنتظار إلى صباح اليوم التالي – إن أمكن – لزيارة العيادات الخاصة عِوضاً عن الطوارئ، لأنه في مستشفيات كندا عندما يشتد عليك المرض وتضطر للذهاب إلى الطوارئ، يمكنك خلال فترة الإنتظار تحضير رسالة دكتوراه، أو بناء منزل، أو تأليف كتاب، أو إنجاب طفل وإدخاله المدرسة !!

إستغرقت زيارتنا للطوارئ قرابة الخمس ساعات متتالية، قمت خلالها بقراءة مقالات وأخبار متفرقة، والرد على عشرات الرسائل المتراكمة في بريدي الإلكتروني، ومراجعة جدول أعمالي للأيام القادمة، وكتابة نواة هذا المقال الذي بين يديك اليوم، وعندما إطمأنيت على صحة زوجتي وهممنا بالرحيل، قال لنا الطبيب: (غالباً سأراكم مرة أخرى خلال أيام، لأنه من المحتمل أنه إنتقلت إليكم عدوى من مريض آخر في قاعة الإنتظار طيلة هذه الساعات!) … وهو صادق فهذا إحتمال وارد جداً، ولكن الحمدلله أنه لم يحدث لنا.

هذه المعاناة خاصة بطوارئ المستشفيات التي يلجأ إليها المواطن بعد إنتهاء ساعات عمل العيادات الخاصة وخلال عطلة نهاية الأسبوع، ولكن هناك معاناة وتأخير ليس بالهين في العيادات الخاصة أيضاً والتي يُطلق عليها بالإنجليزية (Walk-In Clinic)، أي أنها تستقبل أي مريض مارق في الطريق من دون أي موعد مُسبق، والكثير منها أصبح مزدحم والإنتظار فيها لا يقل عن الساعتين في مواسم الأمراض والأوبئة.

السؤال المهم، لماذا الرعاية الصحية في كندا صعبة ومؤلمة؟ في الحقيقة الأسباب كثيرة ومتعددة وأهمها:

١) ضعف الأدوية:

من اللافت للنظر، أنه وبمجرد ذهابك إلى الطوارئ وتناولك للأدوية التي يُعطيك إياها الطبيب هناك، غالباً ما ينتهى المرض خلال ٢٤ ساعة، طبعاً أنا أعني الأمراض الموسمية كالحمى والإنفلونزا، والسبب في رأيي أنَّ أدوية كندا التي نشتريها من الصيدلية ضعيفة في تركيبتها وغير مركَّزة مقارنة مع أدوية الشرق، أما الأدوية التي يتم تناولها في الطوارئ فهي مركَّزة وفعَّالة جداً وللأسف لا يمكن الحصول عليها من الصيدلية من دون وصفة طبيب، وقد لاحظت هذا الأمر في أكثر من مرة ولم تكن مجرد صدفة، وقد يُفسِّر هذا الأمر سبب تراكم الناس في الطوارئ، لأنهم في تقديري يرغبون بالإنتهاء من المرض بأسرع وقت ممكن، فالمسئوليات في كندا كثيرة وكبيرة والأمر لا يحتمل فترات مرض طويلة.

٢) مجانيَّة العلاج:

كما هو معلوم أنَّ كندا دولة تجمع منهجين إثنين في إدارة الدولة (الإشتراكي والرأسمالي) لتتفق بذلك مع دول أوروبا الغربية مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا والدول الإسكندنافية، وتختلف مع نهج الولايات المتحدة المتمثل بالنظام الرأسمالي البحت. فالعلاج المجاني يسمح لأعداد كبيرة من المواطنين بالذهاب دفعة واحدة إلى الطوارئ، وقد لاحظت في أكثر من مناسبة أنَّ حوالي ٥٠٪ من الموجودين في الطوارئ ليست لديهم حالات طارئة، الأمر الذي يُضاعف أوقات العلاج على المرضى المحتاجين فعلاً، فترى بعض المرضى في قاعة الإنتظار يتسامرون مع ذويهم ويتقهقهون من الضحك، وواضح جداً أنه كان بمقدورهم الإنتظار في بيوتهم لصباح اليوم التالي للذهاب إلى عيادة خاصة لتخفيف الضغط على الطوارئ في الليل، بينما ترى البعض الآخر لا يقوى على النطق من شدة التأوه والألم. الشاهد أنه لو لم يكن العلاج بالمجان، لإقتصد الناس في ميزانياتهم ولما ذهبوا إلى الطوارئ سوى في الحالات القصوى التي تستدعي ذلك.

٣) المجلس الطبي الكندي (The Medical Council of Canada – MCC):

وهو ما يُعرف في الوطن العربي بـ (نقابة الأطباء) التي تضع معايير رخصة مزاولة المهنة والإمتحانات المنوطة بها، وفي الحقيقة هي عبارة عن عصابة تعمل جاهدة على تغذية مهنة الطب بكل أنواع الآلام والمصاعب الممكنة بحجة رفع الجودة والحرص على صحة الكنديين والمحافظة على حياتهم، الأمر الذي أدى إلى إنخفاض عدد الأطباء في كندا بشكل لا يمكن تصوره، فوفقاً لتقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام ٢٠٠٨م فإنَّ عدد الأطباء في كندا لكل ١٠٠ ألف نسمة هو ٢١٤ طبيب فقط، ما جعل كندا تهبط إلى ذيل قائمة الدول الفقيرة والأقل نمواً وتطوراً. وقد تندهش إذا علمت أنه في نفس التقرير جاءت الدول التالية بأعداد أطباء أكثر من كندا لكل ١٠٠ ألف نسمة مثل: (كوبا: ٥٩١، الولايات المتحدة: ٥٤٩، روسيا: ٤٢٥)، أما الدول التالية فقد جاءت كلها بأعداد أطباء تفوق الـ ٣٠٠ طبيب لكل ١٠٠ ألف نسمة ومنها: (النرويج، السويد، فرنسا، إسبانيا، ألمانيا، إسرائيل، بلغاريا، لبنان). والسبب في تقديري وراء تلك الصعاب التي يقوم بها أعضاء هذا المجلس هو الإبقاء على أسعار الأطباء مرتفعة ومرتفعة جداً، وذلك من خلال:

  • جعل الإلتحاق بكلية الطب المهمة المستحيلة، فالإمتحانات والمقابلات التي يجب على الطلبة الجدد إجتيازها غاية في الصعوبة، حتى أنها أصعب من دخول البرلمان الكندي، ناهيك عن مدة الدراسة الطويلة جداً والتي قد تصل إلى ١٠ سنوات، ولن أحدثك عن الأقساط الجامعية والتي يمكن بميزانيتها بناء مكوك فضائي وإرساله إلى القمر! ومن الجدير بالذكر أنه عام ١٩٨٥م بلغ عدد الذين إلتحقوا بكليات الطب في جميع أنحاء كندا (١٨٣٥)، وفي عام ١٩٩٩م إنخفض إلى (١٥١٦)، وإذا بقي الحال على ما هو عليه اليوم، فمن المتوقع أن ينخفض عدد الأطباء في كندا بحلول عام ٢٠٢١م إلى (١٣٠) طبيباً لكل ١٠٠ ألف نسمة، أي بعد ٥ سنوات من اليوم!
  • تصعيب إعتماد ومعادلة شهادات الأطباء المهاجرين، وهذا أمر مشهور جداً ويعتبر العائق الأكبر للأطباء الذين ينوون الهجرة إلى كندا والإستقرار فيها، الأمر الذي جعل الغالبية العظمى من الأطباء المهاجرين يتخلون عن المهنة والعمل في مهن أخرى، وقد أشار إلى ذلك الدكتور الكندي من أصل سوري « خالص جلبي » في أكثر من مقال وآخرها (الوجه القبيح لكندا؟).

في ظل هذا التردي المخيف للرعاية الصحية في كندا، يضطر المواطنون للإنتظار ما بين عام وعامين لإجراء عمليات جراحية، وغالباً ما يسافر المستطيع مادياً خارج كندا لإجراء تلك العملية على نفقته الخاصة لأنَّ الدولة الكندية لا تتكفَّل بهم خارج حدودها.

لماذا العلاج المجاني في كندا قد يكون من أسباب هذا الفساد الطبي؟

السبب يعود إلى الثقة العمياء لما سيجنيه هؤلاء الأطباء من ميزانية الدولة المخصصة للرعاية الصحية في كل عام، فقد وصل الإنفاق الكلي على الصحة في كندا لعام ٢٠١٥م مبلغ (٢١٩) مليار دولار، وهذا الإنفاق في إزياد مستمر في كل عام. فالدولة تجني الضرائب، ومن ثم تقوم بتوزيعها على وزاراتها حسب الميزانية المعتمدة لكل واحدة، فكلما قل عدد الأطباء … كلما زاد عائدهم المالي من تلك الميزانية، وكلما زاد عددهم … كلما قلت عوائدهم المالية لأنه سيشاركهم فيها أطباء جدد ما بين خريجي جامعات ومهاجرين، والحل بالنسبة لهم هو العمل على تصعيب زيادة ذلك العدد من الأطباء للإستفادة قدر الإمكان من ميزانية الدولة الإشتراكية.

كندا فعلت بالضبط كالذي يدعو الناس للهجرة إلى قريته في موسم الجفاف، لأنَّ قريته فيها آبار مياه ذات جودة عالية، وعندما هاجر الناس حسب الإعلان الذي قرأوه عن تلك القرية وآبارها العذبة، تفاجؤوا بأن القرية ليس فيها سوى بئر واحد فقط! وحتى يبلغوا البئر، يجب عليهم الوقوف في صفوف بشرية طويلة، ولا مفر من ذلك لأنهم قد يموتون من العطش، وعندما إقترح عاقل على مختار القرية حفر بئر جديد لإستيعاب حاجة الناس الضخمة، تم رفض مقترحه لأنه لا يرقى لمعايير الجودة في تلك القرية!

المشكلة معقدة ومركبة فوق بعضها، والعقلاء في كندا يعلمون ذلك ولكن لا يمكنهم عمل شيء إزاء هذه المشكلة لأنَّ الأمر أكبر منهم بكثير، ومن الحلول الممكنة أن يكون لك طبيب للعائلة، والذي سيخفف عليك الكثير من المعاناة، والأهم … أن تحافظ على صحتك قدر المستطاع، وأن لا تمرض في كندا!

3 رأي حول “طريق الآلام في كندا”

  1. فهتك جيدا ربما لاني مررت من نفس التجربة لكن اخالفك في بعض الامور اولا انت تتلقى علاج مجاني ومع ذلك تشتكي تانيا انت تنتظر ساعات لان هناك حالات طارئة وربما اخطر من حالة زوجتك هناك مرضى القلب ومرضي السكري… لذلك فالاسبقية لهؤلاء الناس اما انت فقد تنتظر ولن يمسس بك اي ضرر لذا فانا لست ضد تلك الفكرة وقد اتخلى عن دوري الف مرة لانقاد حياة الاخرين

    رد
  2. مقال معبر و يعكس الواقع. في ولايه كيبك الواقع مولم اكثر فساعات الانتظار بالطوارئ تتجاوز الخمس ساعات و قد تصل الي عشر.
    ما حيرني في هذا المقال هو ذكر دوله اسرئيل من ضمن الدول المتحضره رغم ان كثره الأطباء فيها يخدم جزء واحد من المواطنين. مما يتنافى مع الحضاره و الانسانيه و الطب.

    رد

أضف تعليق