داء الانصياع

|

حسين يونس

كنت منذ أيام في إحدى غرف (كلوب هاوس – Clubhouse) التي كانت تعجُّ بالمتحدثين حول مصير نوال السعداوي التي انتقلت إلى ربِّها الذي تطاولت عليه في أكثر من مناسبة، وعلى ما يبدو أنَّ موتها قد شكَّل مُعضلة للذين يرونها أيقونة الحرية النسوية في مصر والعالم العربي، والأهم أنَّ عدد المستمعين في تلك الغرفة كان قرابة الـ ٥٠٠ مستمع ينتظرون ما سيؤول إليه إجماع العقول هناك.

إدارة الغرفة – مشكورة – قدَّمتني للحديث حول موضوع الترحُّم على نوال السعداوي، وما هو رأيي فيما يخص الغرف الأخرى التي تلعنها وتُحرِّم الترحُّم عليها..

فقلت: في الحقيقة أنا جداً مستغرب! لأنه من المعروف أنه بات شائعاً في كلوب هاوس عدم الخوض في النقاشات الدينية، واليوم الجميع يخوض في نقاش ديني مثل الترحُّم على ميت ومصيره إن كان في الجنَّة أو النار.. من دون وجود شيخ أو عَالِم دين معنا يمكنه التعليق على هذا الموضوع، وأعتب على إدارة الغرفة أنهم تركوا هذا الموضوع مفتوحاً لكُتَّاب وإعلاميين ليبتُّوا في موضوع شرعي بحت خارج اختصاصهم وقدرتهم على الاستنتاج الفقهي من روح القرآن الكريم والسُنَّة النبوية.

فقاطعتني مديرة الغرفة: نحن هنا نريد أن نخلق مساحة للتعبير عن الرأي بحرية من خلال حوار راقي..

فعقَّبت على كلامها: جميل أن يكون هناك مساحة حرة للتعبير في الأمور التي يفهمها الناس، ولكن بالمقابل.. أكاد أجزم أنَّ أغلب الموجدين في الغرفة الآن لا يعلمون شروط الدخول إلى الإسلام والخروج منه، ناهيكِ عن الأركان والفروض الشرعية، فكيف يمكن أن نفتح حواراً للعوام للخوض في مثل هذه الأمور الحساسة؟!

وأضفت: فيما يخص الغرف الأخرى الذين لا يرون نوال السعداوي مسلمة هم بالتأكيد لديهم ما يستندون عليه من الشريعة، فالمرأة قد أعلنت جهاراً نهاراً في أكثر من مناسبة أنها ليست مسلمة ولا تؤمن بذلك الإله الذي تريده أن يستقيل من ألوهيته، وأنَّ القرآن الكريم كتاب لا يصلح لعصرنا وأنه لابد من تطويره وتغيير نصوصه، فتكفير الكافر لا يُسمَّى تكفيراً.. إنما توصيفاً، لأنَّ الكافر كافرٌ أصلاً.. خصوصاً إن جهر بذلك، ورأيي أنَّ هذه الغرفة لن تضيف شيئاً نافعاً للنقاش.. بل ستزيد الشقاق بين المسلم العامي الذي لا يعرف من دينه سوى القشور وأنَّ الأخلاق الحميدة هي محور الإيمان والكُفر، وبين الإسلام النقي الذي نزل على محمد رسول الله ولا يجد له أتباعاً يفهمونه.

وأنهيت كلمتي: تعلمت في كندا أنَّ كل إنسان على وجه هذه الأرض يمكن الاستفادة منه ومن أفكاره وأطروحاته، حتى الكافر الذي لا يؤمن بالإسلام ديناً ولا بمحمد بن عبد الله رسولاً، فكلٌّ نأخذ منه ما ينفعنا ونترك منه ما يضرنا، وكان أولى أن تناقشوا أفكارها التي تركتها في كُتُبها.. إن كانت نافعة، ولكن أيضاً أستطيع الجزم أنَّ أغلب الذين يستمعون إلينا الآن لم يقرؤوا لها كتاباً.. فعن ماذا يمكننا أن نتكلم؟ حتى أنا لم أقرأ لها شيئاً.. والسبب أني حضرت لها نقاشاً منذ أكثر من ٢٠ عاماً ونفرت منها ومن أفكارها التي تبنَّتها.

دعوني آخذكم لزاوية أخرى مهمة فيما يخص التكوين النفسي للبشر.. قبل ذلك النقاش بأيام، كنت قد شاهدت فيلماً بعنوان (Experimenter) الذي يروي قصة عالم النفس الاجتماعي الدكتور (ستانلي ملغرام – Stanley Milgram) الذي قدَّم دراسات وأبحاث مهمة حول الانصياع البشري وإذعانه للأغلبية في المجتمعات التي يتواجد فيها، ناهيك عن إذعانه للسلطة الحاكمة من دون تفكير، وكان ذلك في ستينيات القرن الماضي خلال عمله في جامعة (ييل – Yale) الأمريكية.

د. ستانلي ملغرام

الفيلم يروي قصة حقيقية أنصح بمشاهدته للمهتمين أمثالي بالسياسة الاجتماعية وطريقة سير المجتمعات، وقد أجاب على الكثير من التساؤلات التي كنت أبحث عن أجوبة لها فيما يخص تشكيل رأي الجموع البشرية (إدارة القطيع) مهما ارتفعت درجاتهم العلمية والثقافية، وكيف يُغيِّر الإنسان رأيه لآخر لا يؤمن به.. فقط لأنَّ الأغلبية تبنَّت ذلك الرأي! حتى وإن كان ذلك الرأي شرعياً يمكن أن يغير مصير مُعتنقيه في الدنيا والآخرة، وتستغرب كيف يمكن أن يتنازل الإنسان عن رأيه المنصوص عليه بوضوح في القرآن الكريم من دون أي شوائب.. فقط لأنَّ رأي المجتمع الأقوى كان مُغايراً، والإنسان بطبيعته لا يرغب أن يسير عكس التيار العام حتى وإن كان ذلك على حساب آراءه ومبادئه التي طالما آمن بها.

تذكرت دكتور «ملغرام» وبحثه المهم خلال وجودي في تلك الغرفة وأنا أستمع لتعليقات الحضور الذين لم يرغبوا أن يكونوا مختلفين عن الرأي الذي تبنَّته الأغلبية، حتى وإن كان ذلك الرأي ليس له أي مُستند شرعي.. فقط لأنَّ إعلامياً مشهوراً قال به.. ساروا خلفه إما جهلاً وإما استحياءً، إلاَّ مَن كان صاحب رأي.. وهم قلَّة مع الأسف الشديد!

يقول الدكتور «ملغرام»: (الناس لا تملك الموارد الكافية لرفض المثول لطاعة الجموع أو السلطة) وأنا أقول أنَّ الناس لا تملك العلم الكافي لذلك التصدي، ناهيك عن الشجاعة الكافية التي تتشكَّل لدى الفرد كلما ازداد علمه، فقد تبيَّن لي أنه كلما زاد جهل الناس زادت ليونتهم، وكلما زاد علمهم زادت صلابتهم.

منذ فترة، غيَّرت صفتي من (كاتب) إلى (صاحب رأي) في محاولة لإيصال رسالة مهمة عن أهمية أن يكون الإنسان صاحب رأي، فرأيي الذي أعمل على تطويره كل يوم هو أغلى ما أملك في هذه الدنيا وهو ما يُميزني عن باقي البشر، فإن كنت ستنفق نصف عمرك في الانصياع لآراء الآخرين، وتنفق النصف الآخر في تبرير ذلك الانصياع، فستغادر هذه الحياة من دون أن تكتشف نفسك!

المشكلة أنَّ الناس تُفضِّل بناء آراءها من خلال الاستماع إلى آراء الآخرين، حتى وإن كانت أحاديث (قيل وقال) متواترة عبر الواتساب أو منصات التواصل الاجتماعي. لدرجة أنه أصبح في هذه الأيام لا يلزمك أن تذهب إلى دول فقيرة لترى الجهل أو لتُجري أبحاثاً عنه، يمكنك أن تزور كلوب هاوس أو أياً من مواقع التواصل الاجتماعي لترى ذلك في بث مباشر!

أخطر ما في داء الانصياع أنَّ الإنسان إذا ابتُلي به.. لا يمكنه أن يعود إلى الخلف أو يتقدَّم إلى الأمام أو يتوقف عنه.. حتى وإن أدرك ذلك، فمن المفترض أنَّ الإنسان الحُر يختار واقعه عندما يختار أفكاره ومبادئه، لكن في الحقيقة ما يحدث أنَّ الإنسان يختار واقعه عندما يختار المجتمع الذي يكون فيه منصاعاً، ويمكن القول أننا دُمى، ولكننا دُمى ذات إدراك، وفي بعض الأحيان يمكننا أن نرى الخيوط التي تحركنا، ولعل وعينا أننا دُمىً هو الخطوة الأولى نحو تحررنا، ولكننا نرفض الحرية في سبيل الانصياع للمجتمع والأغلبية ذات الصوت الأعلى.. حتى وإن كانوا على خطأ. هكذا تنهض أمم.. وتنهار أخرى.

كلمة أخيرة، مضى عام كامل منذ بدء أزمة فايروس كورونا التي قلبت العالم رأساً على عقب، وكان لي رأي في بداية الأزمة.. أصبحت أميل إلى غيره بعد مرور عام من المتابعة والتحليل، فإن كان هناك نظرية مؤامرة فهي ليست للإضرار بالبشرية جسدياً من خلال اللقاحات قد تضر بالبشرية أو تسيطر عليها من خلال ذرَّات إلكترونية، أعتقد أن ذلك أسخف ما قد قيل في أزمة كورونا، فهناك طرق أسهل للقضاء على البشرية أو تقليل عددها من دون الحاجة إلى تعطيل الكرة الأرضية بهذه الطريقة، لكن ما أصبحت أميل إليه هو أنَّ أولئك الذين يتحكَّمون بمصائرنا – وما زلنا لا نعرفهم – قد يكون هدفهم أكبر من ذلك بكثير، مثل أن يُكرِّسوا فكرة الانصياع التام، ليس فقط للشعوب.. بل أيضاً للدول والأنظمة التي تحكم تلك الشعوب، فنجاحهم بإلزام البشرية أن تجلس في بيوتها وتلبس الكمامة لحظة خروجها.. تجربة اجتماعية قد نجحت بامتياز، وما قد يتمخض في المستقبل عن هذا الانصياع.. أخطر بكثير، والله تعالى أعلى وأعلم.

رحم الله مُفسِّر القرآن العالم الجليل «محمد علي الصابوني» الذي غادرنا إلى بارئه قبل يومين من موت نوال السعداوي ولم يَضُجَّ به أحد. أسأل الله العلي القدير أن يرحمه ويجعله في الجنَّة وجميع موتى المسلمين.. اللهم آمين.

5 رأي حول “داء الانصياع”

  1. ما اروع مقالك اخي حسين .. ولو تأملت اكثر في فكرة الانصياع لوجدت ان هذه الفكرة هي اساس وجود اطروحات نوالي السعدوي وامثالها من التيارات الفكرية المنسحقة للغرب والتى ترى انهم الاسياد ونحن العبيد حتى وإن كانوا من بنى جلدتنا

    داء الافتنتان بكل ما هو غربي -او حديثا (اجنبي) بعد تفشي داء متابعة الفرق الغنائية الكورية- ما هو الل نتاج لفكرة الانصياع للاقوى صاحب التأثير الثقافي والمادي

    وفي رأي المتواضع لن تقوم لنا قائمة الا بالعمل على نماذج اسلامية قدوات في الحياة المادية وكذلك لهم طرح فكري معتدل .. يحرر الناس من سطوة التفوق الاجنبي المزعوم

    رد
  2. مقال أكثر من رائع استاذ حسين فأنت صاحب رأي و أستمتع بالقراءة لمقالاتك، و أتفق معك بخصوص أن الغالبية تنصاع و بدون مقاومة و ما رأيته و أراه في مواقع التواصل خير دليل. و رب همة أحيت أمة، كنت أحضر خطبة للشيخ كمال الخطيب بهذا العنوان و مفادها الثبات على المبدأ لو بقيت وحيدا. جزاك الله خيرا و أرجو أن تعود للقاء مباشر زي زمان. لك مني كل الشكر والتقدير والاحترام.
    رامي رمضان/ ألبيرتا، كندا

    رد
  3. تجربتهم فاشلة، الشعب السوري عصي عن الانصياع التام 🙈 لن يجسلوا في المنزل ولن يرتدوا الكمامة 😅

    رد
  4. رائع كالعادة د.حسين ولكن جملة (الله الذي أهانته في أكثر من مناسبة ) أعتقد كلمة أهانت الله تحتاج إلي تعديل ،لاتجوز في حق الله تعالي

    رد

أضف تعليق