إستعمار العقول

|

حسين يونس

لو أردت عزيزي القارئ ترتيب مصائب الأمم الحديثة، فماذا برأيك ستكون المصيبة الأكبر؟ أنا شخصياً أرى أنَّ مصيبة إستعمار العقول تكاد تكون الأكبر في العصر الحديث، بل حتى أكبر من مُصابنا في إستعمار فلسطين والوطن العربي، فاليوم بات سهلاً على من يقود الإعلام التَحكُّم في إعادة بناء معتقدات الشعوب والنيل من ذكائها الفطري، ففي ظل البث السريع للأحداث الكثيرة والمعلومات المتضادة، تجد نفسك تستغرق وقتاً طويلاً لاستيعاب ما تراه وتسمعه من أخبار مُختَرقة خالية من أي مصداقية، تجعلك في نهاية اليوم تجلس مذهولاً ومُنهكاً من شدة وطأة ما شاهدت، تُقلِّب عقلك مراراً وتكراراً محاولاً فهم مجريات الأحداث، لا تدري مع من الحق وأين الصواب رغم شهاداتك الجامعية وخبراتك الحياتية التي تتمتع بها.

غرَّد كاتب عربي مقيم في المهجر في حسابه على التويتر قائلاً: (أنَّ ثورة سوريا هي الأجدر في الربيع العربي بلقب ثورة) طبعاً هو إلى اليوم يراها ثورة ولا يراها مذبحة! ولا أدري كيف يمكن لثورة رحَّلت نصف شعبها بعيداً عن وطنهم وأزهقت أرواح مئات الآلاف منهم وشردت الملايين أن تحتفظ بلقب ثورة؟! وأضاف سبباً لتمسكه بهذا الرأي (لأنها أكبر من مجرد إنتفاضة لتغيير نظام مستبد فاسد، بل وحدها كانت تحاول نسف مؤامرة إقليمية) ويبدو أنه لم يُدرك بعد أن الشعب السوري المسكين هو من وقع في فخ مؤامرة إقليمية لتمزيقه عن بكرة أبيه!

لكن سطوة الإعلام ليست سهلة، والسير عكس التيار قد يكلفه قلمه الذي يكتب به.

لو نظرت إلى حال مسلمي المهجر في أوروبا وأمريكا الشمالية، فمن دون أي تفكير أو فهم أو حسابات دقيقة، يقترف أفراد نسبوا أنفسهم إلى جماعات جهادية – مُختَرقة بكل تأكيد – عمليات إنتقامية لم يسقط ضحيتها سوى مسلمي المهجر في تلك البلدان، ليبدأ مسلسل تدمير الإسلام بالإسلام، ويستهل الإعلام الغربي أجندته بكل سرعة لتلفيق التهم والنيل من المسلمين، والإعلام العربي يُعيد ويكرر من دون تفكير، ويجلس المسلم كالفرخ يشاهد التهم تنهال عليه من كل حدب وصوب، وهو لا يفهم … لكنه يضطر لتصديق ما أقرَّه الإعلام، كما يضطر رؤساء الجمعيات والمراكز الإسلامية – رغم أنفوهم – إلى الخروج علناً لاستنكار تلك العمليات والترحم على من لا يستحق الرحمة … ممن أهانوا الله وكتبه المقدسة ورُسله، والأنكى من ذلك، يبدأ وزراء خارجية الدول العربية والإسلامية وسفراؤهم بالإعتذار عن جرم لم يقترفوه، وبالمقابل لا يُطالبون الغرب بالإعتذار عن جرائم إقترفها واعترف بها علناً!

بينما كان مسلمي الغرب في هذا الموقف الصعب، كان أمين عام منظمة التعاون الإسلامي متجهاً إلى القدس ماشياً مشية الفاتح، متحدياً العدو الصهيوني الذي سمح له ومنَّ عليه بتأشيرة دخول، ليؤكد هذا العدو للعالم العربي والإسلامي أنه هو وحده من يمسك بزمام السلطة ولا أحد غيره، طبعاً أنا مع زيارة فلسطين … لكن ليس من أجل المسجد الأقصى … بل من أجل المواطن المُحتل الذي هو عند الله أغلى من كل حجارة الأقصى، ولا ضير في زيارة مقدساتنا والمطالبة بها والمحافظة عليها، ولكن من السذاجة أن نطالب الذئب بعُش نملكه على أرض مسلوبة بات هو يملكها، فإذا انهدم العش … لم يعد لدينا ما نطالب به، لكن لو استعدنا الأرض التي عليها العش، سنبني غيره حتى لو انهدم، فالمطالبة بالأرض وتحريرها أولى من زيارتها وهي مغتصبة!

المشكلة أنَّ التغطية الإعلامية لهذه الزيارة جعلت العربي المسلم يرضى بها كبديل عن التحرير، وهذه هي مصيبة المصائب، فزيارة القدس مهمة بلا شك للتواصل مع أبناء شعبنا الفلسطيني ودعمهم والشد من أزرهم، ولكن تحريرهم أولى كما ذكرت. وقد راودتني فكرة شيطانية … وددت لو ينهار الأقصى تماماً ويُسوَّى بالأرض … لأرى بما سيطالب العرب وحكوماتهم؟ وإذا انهار الأقصى – لا قدَّر الله – هل سيبقى للعرب والمسلمين ما يَتغنَّون به في نشراتهم الإخبارية ومؤتمراتهم السنوية؟ وهنا تكمن اللعبة الصهيونية الخبيثة والتي تبناها الإعلام العربي وغسل أدمغة الشعوب العربية بها … المقدسات أهم من الأرض والشعب! فإذا دخل المستوطنون الأقصى … ثارت كل الشعوب العربية، وإذا سفكت دماء المسلمين هناك … لم تتحرك شعرة! وبهذا نجح العدو الصهيوني في سلخ المسلمين عن الأرواح المقدسة ليحصرها في حجارة مقدسة سرعان ما ستزول ليبقى المسلمون في فلسطين وحدهم لا يأبه بهم أحد.

كل هذه الأحداث تسير بسرعة وأنت لا تشعر كيف تنحدر مبادئك، ولا تنتبه إلى عقلك الذي تم تعطيله بواسطة منهجيات متقدمة جداً يتم تنفيذها على المدى الطويل، ويتم تناقلها من جيل إلى جيل، حتى آخر عربي مسلم يفرَّ بدينه السليم وفكره القويم إلى شعف الجبال كما تنبأ بذلك ﷺ.

في نهاية كل عام، يستقبل الإعلام العربي مُنجِّمين يدَّعون التنبؤ بأحداث العام الجديد، وأنت بطبيعة الحال … رغم الإسلام والعلم والفطرة السليمة، تضطر طوعاً بإلقاء كل هذه المؤهلات جانباً لتكرر جملتك الشهيرة (والله أنا لا أصدقهم، ولكني فقط أستمع إليهم من باب الفضول لمعرفة ماذا سيقولون من تنبؤات) وطبعاً أنت في داخلك تعلم أنك غارق في بحورهم! المهم أنَّ الطريقة التي يحترفها الإعلام تجعلك تصدق أنهم يأتون بنبوءات وتوقعات حقيقية من خلال إعادة شريط أحداث العام المنصرم ليوافق ما قاله المُنجِّم، ولكن أين عقلك في تلك اللحظات؟ لقد تم تعطيله تماماً!

على سبيل المثال يقول أحد المُنجِّمين:

١) أرى في لبنان أحداثاً مؤلمة ولا أرى أي استقرار على الصعيد السياسي. وتبدأ القناة بإعادة شريط أحداث لبنان حول الإضطراب السياسي الذي تشهده الدولة – وما أكثره – من عدم إتفاق بين الأحزاب والطوائف، والفراغ في الكرسي الرئاسي والتفجيرات التي لا تنتهي … إلخ، وأنت تجلس تقول في نفسك … سبحان الله! أجزم بأن هذا المُنجِّم يتعامل مع الجن! ولم تكلف نفسك بالتفكير لثوان بأن لبنان يعاني من إضراب سياسي منذ ثلاثين سنة، وأي طفل في الإبتدائي يمكنه سرد توقعات مماثلة.

٢) أرى إضطراباً في أسعار الدولار الأمريكي لمدة محدودة وبعدها سيستقر من جديد. وطبعاً تقوم القناة بعرض بعض التقارير الإقتصادية والتي توافق ما قاله المُنجِّم حول إضطراب الدولار، ولو كلَّفت نفسك بقراءة أي تقرير لأي مُحلِّل إقتصادي معروف ستجد أنَّ المُنجِّم قد أخذ هذا الكلام حرفاً بحرف من هذه التقارير الإقتصادية، والتي غالباً ما توافق الصواب بنسبة لا تقل عن 90 بالمائة!

الأمثلة كثيرة حول ما يقوله هؤلاء المُنجِّمون، لكن العتب على العقل المركون والمُعطَّل منذ قرون!

منذ أيام كان التويتر مشتعلاً بين مُغرِّدي السعودية حول جلد « رائف بدوي » المتهم بالإساءة للدين الإسلامي، وما بين مؤيد ومعارض، لفت نظري تغريدات المتعاطفين مع رائف، وأنه قد تم جلده بطريقة وحشية، وقبل أن أشاهد الفيديو على اليوتيوب، كنت أتوقع أن أرى رجل الأمن يجلد رائف في بطحاء الرياض تماماً كالمشهد المروِّع الذي شاهدناه في فيلم الرسالة عندما جلد « أمية بن خلف » الصحابي الجليل « بلال بن رباح » في بطحاء مكة. ولما شاهدت المقطع … ضحكت حتى الثمالة على هؤلاء المغردين، فعلى ما يبدو أنَّ القصاص في السعودية قد تطور كثيراً ليصبح خدمات مساج وتدليك بدلاً من الجلد! المهم أنهم رددوا ما قاله الإعلام الغربي من دون تفكير، والذي لا يعرف طريقة تفكير الغرب، يجهل سبب الإهتمام بهذه القضية.

يواجه العقل البشري اليوم شبكات معقَّدة من الإعلام المُركَّب بمؤثرات ومعلومات تحول بينه وبين التفكير المنطقي، هذه الجهود الجبارة تخضع لأنظمة ومعايير نفسية وعلمية تقودها أجهزة ومؤسسات تابعة لدول عظمى، قادت بها شعوبها بنجاح باهر وصدَّرتها إلى دول العالم قاطبة. وبعد ذلك كله، وبكل سذاجة … يخرج على الفضائيات شيخ يدعي العلم والفهم ليُبشِّر العالم برؤية رآها هو … أو رآها أحد الثقات الصالحين، والتي أوِّلت على قرب نهاية أمريكا والدول الإمبريالية العظمى … هكذا وبكل بساطة!

ليته بقيَّ نائماً في أحضان أحلامه الوردية.

رأيان حول “إستعمار العقول”

  1. حسبنا الله على زمنٍ اصبحت فيه العقول ليست فقط مستعمرة و لكن مركونة على الرف لا حول لها و لا قوة .. و القلوب مدفونة لا تدق و لا تعمل إلا بالقتل و الذبح .. لا دين .. و لا إسلام .. لا رحمة و لا غفران .. فقط فساد و هرج و مرج .. و أجساد لا روح فيها .. لا أدري أتصحو يوماً من العدم .. قبل فوات الآوان !!!
    موضوع اكثر من رائع .. و لكن هل من قارىء .. أو حتى مجيب !!!

    رد
  2. صح قلمك وعقلك ياحسين…..
    للأسف في قلوبنا نزعه دينيه… وفي عقولنا نزعه شيطانية …
    الأحداث تتوالى والسنين تتتالى …
    ونحن ننتظر الأفضل
    الله المستعان

    رد

أضف تعليق