إختلاف الحضارات متعتي

|

حسين يونس

كان ينقصني في الأسابيع الماضية جرعات من الأكسجين النقي التي أستمدها عادة من الكتابة والتأليف، فقد كنت منهمكاً بالسفر والترحال من مكان لآخر بغية تلبية نداء الواجب من جهة، وتنمية مهاراتي العملية من جهة أخرى، والحصول على قسط يسير من الراحة في إجازة خاطفة لم تنجح بسبب فصل الشتاء والبرد القارص الذي لم أهنأ بسببه لا بالتحليق في السماء ولا في السير على الأرض، وبالرغم من أنَّ الأمور مضت على أكمل وجه بفضل من الله، إلاَّ أني إكتسبت خبرة جديدة فحواها أن لا أسافر في فصل الشتاء مرة أخرى، وبالذات إلى دول أوروبا الباردة ومثيلاتها، وذلك لما فيه من مشقَّة مضاعفة نتيجة للبرد، ناهيك عن الرعب الذي يغمرك وأنت في الطائرة بسبب المطبَّات الهوائية التي تلعب بالطائرة دون إنقطاع، واليوم أود التعليق على ما رأيت وشاهدت في مناطق مختلفة من العالم خلال رحلاتي.

أبدأ من الإمارات العربية المتحدة والتي سافرت إليها لحضور حفل زفاف أخي الأصغر والوحيد « فادي يونس » والمقيم في مدينة دبي الجميلة، في الحقيقة لم تتجاوز مدة إقامتي في الإمارات أكثر من يومين إثنين بسبب إرتباطي بسفرات أخرى مجدولة، ولكني لاحظت أنَّ المدينة قد إختلفت إختلافاً كبيراً عن آخر مرة زرتها في آواخر عام ٢٠٠٢م، والأهم من هذا كله أنَّ المدينة تشهد تسريحاً للكفاءات الأجنبية بسبب الأزمة الإقتصادية العالمية والتي ألحقت بإمارة دبي أضراراً كبيرة بسبب إعتمادها في إستثماراتها إعتماداً كليَّاً على البنوك المحلية والعالمية والشركات الأجنبية، حيث وصل معدل تسريح الموظفين إلى ١٥٠٠ موظف شهرياً، لكن ما شدَّ إنتباهي فعلاً، هو إنحسار الأزمة المرورية الخانقة والمشهورة في شوارع دبي، وذلك بسبب تسريح عدد كبير من العمالة الأجنبية كما ذكرت آنفاً، وتوقف الكثير من المشروعات بسبب إنسحاب الشركات الأجنبية خارج دبي وعدم توفر السيولة المادية لدعم مشروعات الإمارة، مما أدى إلى إنخفاض الأسعار نوعاً ما في الفنادق والمحلات التجارية والمطاعم وغيرها من الأماكن، ومن الجدير بالذكر أنَّ دبي من أكثر مدن العالم رقياً وتمدناً، فإذا كنت تبحث عن خدمة راقية فسوف تجدها في دبي بكل تأكيد، والتي أكاد أجزم أنها المدينة العربية الوحدية التي تتميز بالخدمات الراقية، عدا عن النظافة والمناظر الخلابة والشوارع الجميلة والقيادة الهادئة للمركبات، كلها عوامل تجعلك تفخر كعربي بوجود مدينة عربية بهذا الشكل، في الحقيقة أنا لا أدري إن كانت هذه نهاية مدينة دبي كما يدعي الكثيرون … الله أعلم، إنَّ غداً لناظره لقريب.

رحلتي الثانية والتي كانت بعد رحلة الإمارات مباشرة، كانت إلى مدينة إسطنبول التركية، هذه الرحلة التي كنت دائم الشوق لها لزيارة أرض الخلافة العثمانية والحضارة الإسلامية، الزيارة كانت إجازة لمدة خمسة أيام زرت خلالها العديد من المتاحف والأماكن الجميلة، وفي الحقيقة ما شدَّ إنتباهي هو الطابع الإسلامي للحضارة التركية، فرغم المحاولات القوية لتنصير تركيا وسلخها عن المسلمين، إلاَّ أن الناظر إليها يستغرب عندما يمشي في شوارع إسطنبول كيف أنها ما زالت تلبس العباءة الإسلامية وبقوة من خلال شوارعها المنحدرة والتي تفسح لك المجال أن ترى ما يبعد عن أكثر من عشرة كيلو مترات، فترى المآذن وقبب المساجد ولباس المحجبات ولائحات كُتب عليها باللغة التركية كلمات لنصرة فلسطين، كما أنه يتسنى لك سماع آذان مساجد تجاوز عمرها خمسمائة عام من كل مكان، وعندما تدخل إلى المطاعم وتحاول أن تشرح له أنك تخشى أن يكون الخنزير أو شحمه في طعامك، ينظر إليك بإستغراب ويقول لك بثقة أنه لا يوجد في لائحة طعامه حراماً أبداً.

تساءلت بصوت مرتفع سمعه صديقي الذي كان معي في الرحلة على ظهر مركب أبحر بنا في مضيق البوسفور الذي يفصل إسطنبول الآسيوية عن إسطنبول الأوربية فقلت: (مع كل الجهود الباطلة للعلمانية والصهيونية لمسح الإسلام من تركيا، إلاَّ أنَّ الإسلام مازال ظاهراً)، فقال لي: (الإسلام في تركيا عبارة عن حضارة، والحضارات لا تزال بهذه السهولة)، ولكن ومع وجود الغطاء الإسلامي في تركيا، إلاَّ أنك تشعر بأنها حضارة ممزوجة مع الحضارة الأوروبية وبقوة، فهي ليست كالأقطار العربية، هنالك شيء مختلف، فالأتراك شديدوا الإعتزاز بوطنهم ولغتهم، فهم يعملون بجد لنهضة بلدهم، وعندما تجدهم يخاطبون بعضهم البعض لا تسمع كلمة واحدة غير تركية، وقد إجتمعت مع علية القوم في مكان واحد يتقنون اللغة الإنجليزية، وأنصت إلى حديثهم الذي لا أفقه منه شيئاً، إلاَّ أني لم ألحظ كلمة (OK) أو (Agree) أو (Waw) كما يحدث في نقاشات العرب.

من ناحية أخرى، أعتقد أنَّ هذه مشكلة في السياحة، فالتركي لا يرى في العالم سوى تركيا، بل هو يعتقد أنَّ العالم كله تركيا، فلا يتعلم لغات أخرى للتواصل مع البشر، وإذا كان يتقن شيئاً من اللغة الإنجليزية لا يستخدمها مع أحد، وهذا الشيء بالفعل أرهقني كثيراً، فقد وصلت إلى مرحلة أني لا أستطيع التواصل معهم إلاَّ عن طريق الإشارات كالخرس، أضف إلى ذلك أن الأتراك منحدرين من سلالة السلاجقة المتميزة بالجلافة والقساوة، وفي الحقيقة أني لمست هذه الجلافة في التعامل معهم رغم إخضرار أرضهم ونعومتها، فهم يشبهون الشعب الروسي في جلافته، وهذا مازاد من إستغرابي، حيث تركيا دولة سياحية من الطراز الأول، ولا أدري كيف تحافظ على سياحتها والتي تعتبر المصدر الأول للدخل في تركيا، رغم أنَّ الأسعار في تركيا مرتفعة جداً وليست بالرخيصة، والشيء الغريب في تركيا أنَّ عامل الجمال شبه منعدم بين الفتية والفتيات، فلم أرى جمالاً مميزاً كما يُعرض في المدبلجات التركية عبر شاشات التلفاز، ولكن بالعموم تركيا بلد جميل، ويوجد الكثير من الأماكن التي يمكن زيارتها والإستمتاع بها، ولكن هل سأعاود الكرة وأزورها مرة أخرى … لست متأكداً … ولكنها كانت رحلة جيدة جداً.

آخر محطاتي كانت في مدينة وارسو البولندية، والتي تقع في شمال أوروبا الشرقية، فقد ذهبت لألتحق بدورة تدريبية خاصة لتقديم الحلول البرمجية الخاصة بمنتجات الشركة الأم “IBM”. عندما هبطت الطائرة وإتجهت إلى الفندق، بدأت ألحظ آثار الشيوعية رغم إنحسارها، وتذكرت فترة دراستي في أوكرانيا المستقلة عن الإتحاد السوفييتي، فبرغم تمدن بولندا وإنضمامها إلى مجموعة الدول الأوربية، إلاَّ أنَّ العارفين بالبلدان الشيوعية يستطيعون أن يلحظوا شيئاً ما مختلفاً، فالشعوب التي عانت إضطهاد الشيوعية وقسوتها يتميزون بالبلادة والإنصياع التام لما يُحيط بهم، أضف إلى أنَّ هذه الخاصية موجودة أيضاً عند سكان المناطق الباردة، فلا تجدهم يتفاعلون مع النمط الأمريكي الغربي الذي يظهر البهجة والتفاعل في كل شيء، فالمدربون في هذه الدورة أغلبهم قد قدم من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد وجدوا صعوبة إشعال الحماسة في البولنديين الذين كانوا الأغلبية في الدورة، فسكان العالم الشرقيين ثقافتهم مختلفة ولا تعجبهم الطريقة الغربية التي تنبهر لكل ما هو بسيط، فالشرقيُّون جديون أكثر، ومن الصعب أن يتفاعلوا مع الثقافة الغربية، وهذا ما حدث بالفعل في الدورة، فعندما كانت مديرة الدورة تحاول أن تلهب الحضور وتصدر الأصوات والهتافات والتصفيق والترحيب الحار للمعلمين عند دخولهم وخروجهم، كان البولنديُّون ينظرون إليها بإزدراء ويسخرون منها، وفي الحقيقة كنت أفهم ما يقال أمامي باللغة البولندية لشبهها القريب جداً من اللغة الروسية والأوكرانية والتي أتقنها حتى الآن.

رغم صعوبة السفر ومشقته إلاَّ أني وجدت في صدري متعة ونشوة لما تعلمته من خبرات جديدة بمخالطة شعوب الأرض، فاعتزاز الأتراك بتركيتهم ألهب في صدري شوقاً لفلسطين التي لم أرها إلاَّ مرة واحدة وأنا في الرابعة من العمر … أكاد لا أذكر منها شيئاً، كما أيقظ في نفسي حس المسئولية، فالأتراك والبولنديُّون يعشقون بلدانهم ويتفانون في خدمتها، وهذا تلمسه في مطاراتهم ونقاط التفتيش، وبما أني لا أملك وطناً، فسأبقى أحاول جاهداً إقناع من أعمل معهم وعندهم في شتى بقاع الأرض أن يتحلوا بمثل تلك الصفات الراقية في خدمة الوطن وأي إنسان يمشي على أرض الوطن.

9 رأي حول “إختلاف الحضارات متعتي”

  1. اعجبتني الطريقة التي فككت بها الشعوب التي زرتها، اتمنى ان لا اضطر في حياتي ان اجرب طائرة تهتز كثيرا!!

    رد
  2. رداً على تعليق ريم حسن :
    أوافقك الرأي يا ريم، لا يوجد بديل للوطن … أبداً، كما أنَّ الشعوب الأخرى لا تقبل من يأتيها من خارج منظومتها الإجتماعية لأسباب عديدة … على رأسها … العنصيرية القبلية والتي يتمتع بها المسلمون العرب بشكل لا يصدق.

    لم يبقى لأهل فلسطين إلى الله … ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    نحن الفلسطينيون لا نُكن في قلوبنا لإخواننا العرب إلاَّ كل خير، ونحبهم كثيراً ونتمنى أن يستوعبونا ولا يجعلونا نكثر من الهجرة والتنقل بين بقاع الأرض … لأننا تعبنا كثيراً من الترحل ولدينا رغبة قوية في الإستقرار والعمل والولاء للبلدان التي تستضيفنا، ولكن … الواقع شديد الألم … ولا أحد يدري ماذا يخبأ لنا المستقبل من مفاجئات !

    كل التوفيق،

    رد
  3. رداً على تعليق نورة ( اخصائية اجتماعية – تحت التدريب) :
    أختي الكريمة نورة، أشكر مرورك وتعليقك الدافيء، ومرحباً بك صديقة جديدة.

    أجمل ما ميز تعلقيك، هو قراءتك لما بين السطور والإنتباه إلى الأجزاء النفسية الحساسة للكاتب، أنا أؤكد لكي أنك ستكونين محترفة جداً في تخصصك بإذن الله.

    لك مني جزيل الشكر وأتمنى أن أراك دائماً في الموقع لتضيفي على النقاش لمساتك النفسية الدافئة والتي نحتاج إليها بكل تأكيد، وأتطلع شوقاً للصلاة معاً قريباً بإذن الله في المسجد الأقصى المبارك حفظه الله وحرره من براثن اليهود.

    كل التوفيق،

    رد
  4. استمتعت كثيراً بقراءة كل جزء من هذا المقال، خصوصاً المتعلق بالدولة التركية والتي يستهويني تاريخها وحاضرها..

    واستوقفتني – كما استوقفت أختي نورة – عبارتك ” بما أني لا أملك وطناً “..

    كم هو ظلم أن يفتقد الإنسان وطناً بجمال أرض وتاريخ فلسطين!!!

    فمهما وجد الفلسطيني من ظروف مواتية في أي بقعة من العالم، فهي لن تساوي نسمات حقول وتلال فلسطين.. وهكذا هو حال كل أصيل ..

    رد
  5. المقال رائع جدا.. أعجبني وصفك الممتع وقلمك الرشيق..

    ربما كانت تعليقات الأخوة حول رحلاتك الجميلة .. ولكن بالنسبة لي استوقفتني عبارة واحدة و” خنقتني الدموع” وأنا أقرأ “بما أني لا أملك وطناً” ..

    لاأدري بم أعلق ولكن أسأل ألله أن يحقق أمنيتك بالعودة الى فلسطين الحبيبة بعد تحريرها قريباً..
    وأن يرزقنا جميعاً صلاة في المسجد الأقصى قبل الممات..

    رد
  6. يقال “رب ضارة نافعة” اعتبر أن الأزمة العالمية فادتنا [ان خفت الزحمة في دبي وان شاء الله مع مترو دبي إلي قريب راح يفتح بتخف الزحمة زيادة، لكن للأسف تخف الزحمة من دبي وتزيد في أبوظبي وتلاحظ بلوح السيارات أن أغلبيتهم من دبي!

    زرت مرة تركيا ولاحظت إلي لاحظته أدام الله عز الإسلام فيها وفي جميع الدول العربية والإسلامية !

    رد
  7. ألف الحمد لله على السلامة ومقال ممتاز شمل السفر والاقتصاد وديموغرافية البلاد. نستمتع بقراءة مقالاتك دائماً.

    رد
  8. حمدا لله على سلامتك يا ابا محمد. اعجبني في مقالك قوة ملاحظتك لامور ربما تغيب عن ذهن الكثير. بارك الله فيك ولا جف قلمك.

    رد

أضف تعليق