أن تبلغ الـ ٤٥

|

حسين يونس

قد يكون العمر للبعض قصة تُحكَى، ولآخرين محطات تستحق الوقوف عليها، وقد يكون لآخرين مجرد وقت يمضي.. أو مجرد رقم لا يعني لهم الكثير، لكن قليلون هم الذين يُدركون قيمته التراكمية الآخذة في ازدياد بسرعة البرق من دون استراحة، ليُصبح الرقم الأصعب في حياتنا.. فارضٌ نفسه من دون هوادة أو استئذان، واثق الخطوة ليلاً نهاراً لا يرجف أو يرتعد.

ماذا يعني لي أن أصل في هذا اليوم (٨ مايو/أيار) إلى محطة الـ ٤٥ في شهر مُبارك مثل هذا الشهر الكريم؟

في الحقيقة يعني لي الكثير، فقد أدركت تمام الإدراك نعمة الله التي آتاني إذ أمهلني حتى اللحظة، في الوقت الذي منذ شهور قريبة وارينا الثرى أصدقاء لنا كانوا أصغر منا سِناً، فهذه النعمة ليس بعدها نعمة في زمان وتيرته سريعة والتوبة فيه باتت لحظِيَّة من شدة الهرج والفتن، فالحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، ورَحِمَ الله مَن فقدنا وأسكنهم فسيح جنانه، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

من الأمور التي يحظى بها الإنسان عندما يصل هذا العمر، القدرة على إدراك الحقيقة بوضوح، فلم يعد يفتنُني سَحَرة فرعون بكلامهم المعسول، ولم يعد يُثنيني عن الحق تهافت الملايين على أمر ما.. مهما علا صوتهم وكَثُر عددهم.

أدركت عندما وصلت إلى هذا العمر أنَّ اختياراتي في الحياة باتت محدودة، فلا كل الطعام يناسبني، ولا كل الأفكار تستهويني، ولا كل الأماكن مريحة، ولا كل الأصحاب أصحاب، والوقت بات أثمن من الذهب، فأصحبت حريصاً في اختياراتي، والخُلاصات الحكيمة للأقوال والأفعال هي غايتي، فلم أعد أحتمل القيل والقال، والنكد والعتاب وطول الكلام وكثرته، فلا أغضب إلاَّ لما يستحق ومِمَن يستحق، وأسرتي باتت خياري الوحيد الذي دائماً ما يُريحني مهما ازداد عدَّاد عمري وتبدَّلت أحوالي.

مما أدركته أيضاً عندما بلغت هذا العمر أنَّ الاستغناء نعمة عظيمة أحفظ معها مكانتي وكرامتي، فقد أدركت أنَّ المال هو الحافظ الأكيد – بعد حفظ الله – من كيد الدنيا وشرورها، وأصبحت أتذكر كثيراً حديث الرسول محمد ﷺ الذي قال فيه ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِكَ عَلَيَّ عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي وَانْقِطَاعِ عُمْرِي))، وعلى الرغم من أهمية المال في هذه المرحلة العمرية إلاَّ أني أيضاً أدركت أنَّ الغَنيّ الحقيقي.. ليس ذلك الذي يَملك المال الوفير وحسب.. بل مَن استغنى عن صغائر الأمور وتَرفَّع عن توافه الدنيا وقشورها.

أهم ما يُميز هذه المرحلة من عمري أني أوقفت البحث – العبثي – عن جنَّة المأوى.. فقد أدركت أنه لا جنَّة على الأرض، فلا الغرب جنَّة.. ولا الشرق جنَّة.. ولا حتى الوطن جنَّة، فمهما سافرت إلى أصقاع الأرض وتنقَّلت فيها لن أجد الجنَّة، فقد أدركت – يقيناً – أنَّ الجنَّة ما هي إلاَّ أفكار جميلة في داخلي.. ليس بيني وبينها حجاب، أحملها معي أينما ذهبت ورحلت، فأجعل من أي مكان تطؤه قدمي جنَّة.. بسببي أنا ولا أحد غيري.

أدركت في هذه المرحلة أنَّ السعادة التي أنتظرها مِمَن حولي ليست سعادة.. إنما تَسوُّل مُذِّل! فالسعادة الحقيقية تُخلَق من الداخل وهي موجودة في وجداني مُنذ كنت في رَحم أمي، ولا يمكن لأحد أن يسلبها مني إلاَّ إن سمحت أنا بذلك.

عندما بلغت هذا العمر أدركت أنه مهما كانت جراحي عميقة وكسوري كثيرة، يجب أن أضمِّدها بصمت وأبقى صامداً لا أشتكي لأحد، فهنالك من الناس مَن سيسعد بانكساري، وقلة قليلة مَن قد تكترث لي.. لكنهم لن يستطيعوا مساعدتي، أما البقية.. فلا يكترثون أصلاً.

عندما وصلت إلى هذه المرحلة العمرية أدركت أنَّ دور البطولة الذي ألعبه في كل يوم لا يمكن التنازل عنه ولا يمكن التقاعد منه، فأسرتك والذين تُحبهم دائماً ما سيحتاجون إليك، فأصحبت أستثمر ليس فقط في عقلي وفكري ومالي، بل أيضاً في صحتي كي أستمر، فلا يوجد أقسى من الانكسار، ليس انكسار الجسد.. إنما انكسار القلوب التي تستند عليه.

في هذا اليوم من مولدي في الشهر الكريم، وقفت على عتبات المولى عزَّ وجلَّ أدعوه.. (إني ببابك مولاي قد بسطت يدي.. فاقبلني برحمتك كما قبلت عبادك الصالحين، وعِزَّتك وجلالك إني قد طابت نفسي من الدنيا ولم أعد أخشى على نفسي من الرحيل عنها.. إنما أخشى على ذويي من البقاء فيها، مولاي.. أنظر لحالي في خوفٍ وفي طمعٍ.. فهل يرحمني بعد جلالك من أحدٍ؟)

يا الله ما أجملها من مرحلة.. متَّعنا الله وإياكم بدوام الصحة والعافية.

3 رأي حول “أن تبلغ الـ ٤٥”

  1. ” فقد أدركت أنه لا جنَّة على الأرض، فلا الغرب جنَّة.. ولا الشرق جنَّة.. ولا حتى الوطن جنَّة، ”

    نفس المشكلة يلي عم عاني منها باستراليا
    اشتقنا لفيديوهاتك يا رجل

    رد
  2. تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال في هذا الشهر الكريم،
    وبارك الله فيكم استاذ حسين على هذه الكنوز التي ونقلها لنا من خبرتك بالحياة.
    وأنا طلب، لا تطقعنا لفترات طويلة استاذنا،
    خلينا نضل نستفيد ونستمتع بكتاباتك،
    صدقا من القلة اللي لما أقرأ لهم اتمنى ان يطول حديثهم.

    جزاك الله كل خير عنا، وييسر امرك لكل خير .
    دمتم بخير استاذ حسين.

    رد

أضف تعليق