أم الهزائم

|

حسين يونس

لا أخفيكم أنه منذ أن خرج علينا تاجر البيت الأبيض بخطابه الذي أقرَّ فيه نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، وأنا في حالة بؤس شديد! فعلى الرغم من أنَّ القدس قبل خطابه كانت مُحتلة.. وبقيت بعد خطابه كذلك، إلاَّ أنَّ الأمر قد أثَّر بي كثيراً، ومنذ تلك اللحظة وأنا أحاول أن أفهم أسباب ذلك الحزن الذي اعتراني، فنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، هو كنقل مفاتيح مركبة جارك التي لا تملك.. من جيب معطفك اليمين الذي كان لك وسُرِقَ منك.. إلى الجيب اليسار في نفس المعطف، فالأمر بالنسبة لي سيَّان ولا يعني لي الكثير في ظل ضياع كامل المعطف، وهذا ليس استخفافاً بالمدينة المُقدَّسة، ولكن اجتناباً للفخ الذي نُصب لنا منذ عقود، وقبلته عقولنا وأرواحنا دون أن نعي حجم الكارثة التي لحقت بنا جرَّاء ذلك الفخ، وبكل سذاجة.. أصبحنا نكافح من أجله وننافح عنه.. حتى ضاع كل شيء!

خَلُصت بعد أيام إلى أنَّ الذي أحزنني فعلاً ليس قرار ترامب، بل الهزيمة النفسية التي وصلت لها الشعوب العربية المسلمة التي وضعت مصيرها في يد أعدائها وجلست تنتظر – بكل بلاهة – أن يهب لها الأعداء الحرية والكرامة.. وهذه أم الهزائم!

حاول أن تخرج قليلاً خارج تفاصيل المشهد لتتأمَّل بشمولية أكبر ما أعنيه، وستجد أنَّ المشكلة تكمن فينا نحن وليس في أعدائنا، فالأعداء يقومون بما يجب القيام به لتحقيق مصالحهم، أما نحن.. فآثرنا الجلوس والنظر إليهم كيف يقومون بتحقيق تلك الأهداف، مُنبهرين بإنجازاتهم وكأنَّ تحقيقها مُعجزة، حتى عبدناهم تمام العبادة كما يُعبَد الإله، وارتكبنا نفس الجريمة التي ارتكبها بنو إسرائيل منذ آلاف السنين يوم تركوا موسى وحيداً وعبدوا العجل الذهبي، ونحن تركنا محمد وحيداً وعبدنا العجل الغربي، حتى بتنا في التيه سواء وغرقنا في الهزيمة، ومن شدة الهزيمة.. لم نُبقى لنَعَام الأرض أي حُفر يَدسُّ رأسه فيها.. فقد استولينا عليها كلها!

ما حدث لنا اليوم هو نتيجة طبيعية وحتمية لعبادة العجل، ومَن كان ينتظر غير تلك النتيجة ما هو إلاَّ أحمق من العيار الثقيل! فمَن كان يعتقد أنَّ الدبلوماسية تُعيد أرضاً مسلوبة.. فهو معتوه، ومَن كان يعتقد بأنَّ التنازل عن جزء من أرضه يحفظ له ما تبقَّى منها.. فهو مجنون، ومَن كان يعتقد بأنَّ الأعداء يعقدون صفقات سلام مع الأمم المنهزمة.. فذلك أحمق بالرضاعة، ومَن سمع كلام الله الذي حذِّر فيه من مغبَّة إسترضاء المخالفين {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ} ولم يقتنع به.. فقد حجز لنفسه مقعداً دائماً في مزبلة الأمم المتخلفة، ولك أن تتخيل مصير أمة اجتمع فيها كل ما تقدَّم.. فهي زائلة لا محالة.

من المهم التفريق بين سيناريو الديانات الغير مسلمة عندما تحيا متعايشة مع المسلمين في أرض الإسلام، وبين أن تكون تلك الديانات في صف الأعداء تريد استعبادنا وزوالنا، فمَن يحيا منهم على أرضنا.. له ما لنا وعليه ما علينا ونفديه بدمائنا ولا نطلب منهم تغيير دينهم مهما كانت الظروف، وهذا خلاف الحال عندما تكون أنت في أرضهم، فهم يُردونك أن تنسلخ تماماً عن دينك حتى وإن تخفَّوا خلف شعارات الحرية والعَلمَانية ولم يبوحوا بنواياهم جِهَاراً، ولنا عبرة في محاكم التفتيش الإسبانية التي خيَّرت المسلمين في الأندلس بين اعتناق النصرانية أو الموت، فقد كان ذلك في القرون الوسطى، أما في القرون الحديثة فالخيار لم يختلف كثيراً، فإما أن تعتنق مبادئهم التي يدَّعون أنها ديمقراطية، وتُقرِّ بحق وجود إسرائيل والشواذ ونبذ مبادئ الإسلام وغيرها من الشروط الغير أخلاقية، وإما أن تموت جوعاً في بيتك لا يقبل بك أحد.. لا جامعة ولا عمل إلى أن تفارق الحياة في بيتك الخشبي البائس من شدة الذل والقهر، تقتات على نجس المساعدات الإجتماعية من دون ذرَّة كرامة، فلن يرضوا عنك حتى تكون واحداً منهم، فصَدَقَ الله العظيم.. وكذبوا هم وشعاراتهم.

علمتني الحياة أنه لتحقيق هدف كبير، لا يمكن القبول بتجزئته على الإطلاق، خصوصاً إذا كان هذا الهدف يخص تحرير وطن مُحتل، ففكرة القبول بالتجزئة سيؤدي بكل سهولة إلى التنازل عنه بالكلية، لتجد نفسك جزءاً ضمن أهداف الآخرين، تخدم مُخططاتهم الكبرى وأنت واهم بأنك تقوم بعمل شريف!

من الجدير بالذكر أنَّ قرار ترامب لن يكون له أي قيمة لو كانت الشعوب العربية المسلمة واعية لحقيقة الصراع، فوقتها نستطيع أن نقول له بملء الفيه (قرارك هذا.. بله واشرب ميته!)، ولكن في ظل الهزيمة النفسية وتسطيح العقل وتشويه العروبة والإسلام وتنامي الفكر العنصري والطائفي في أرض العرب، فنحن في أزمة كبيرة يعجز التاريخ عن استيعابها.

ضياع القدس لا يمكن له أن يُصبح حقيقة إذا استرجعنا عقولنا المسلوبة ونفوسنا المنهزمة، هذا هو التحدي الحقيقي الذي تواجهه أمتنا اليوم، فمَن كان يُصدِّق أن نسمع ما نسمعه اليوم من دعوات إنبطاح للأعداء وتخوين لأهل فلسطين بشكل قبيح لم يسبق له مثيل؟ وغداً سينتهي بنا المطاف في السجون إن تطاولنا على الكيان الصهيوني أو بصقنا على رايته بحجة احترام المعاهدات والقوانين الدولية، في الوقت الذي لا يحترم أحد حق الشعوب المقهورة في تحرير ذاتها.. ولو كان ذلك التحرير معنوياً أو فكرياً!

ما قام به العلج ترامب درساً قاسياً للمسلمين ليستفيقوا من بلاهتهم، فاللجوء لغير الله مَذلة، ومن الطبيعي أن يخذلنا العالم إذا لجئنا إليه ومصالحنا غير متقاطعة مع مصالحهم، ولكن الله لن يخذلنا. ولا أدَّعي هنا أنَّ الإسلام شرطاً لحصول النصر، ولكن النصر في ظل الإسلام مُشرِّفاً يجمع في طياته وحدة البشرية لخيرهم، أما النصر المُجرَّد من الإسلام يكون مشوَّهاً بالقومية العِرقية والطائفية، ولا يمكن له أن يشمل فيه طياته أعراق الأرض ودياناتها المختلفة.

لن تنكفئ محاولات الأعداء في الداخل والخارج عن تقويض قضية فلسطين وسلخها من أي صراع ديني، فقد نزعوا عنها صفة العروبة والإسلام وحشروها في زاوية ضيقة لشعب غلبان يبحث عن حريته وقوت يومه، وفي حقيقة الأمر أنَّ الصراع على فلسطين هو صراعاً دينياً محض، وإن كان الأمر غير ذلك.. فلماذا يستميت اليهود لانتزاع إعترافاً من العرب بأنَّ إسرائيل دولة دينية لهم؟

الأعداء لا يريدون أن تُحاط القضية الفلسطينية بهالة إسلامية، لأنَّ تلك الهالة هي الوحيدة التي أخرجت المسلمين في أرجاء الأرض غضباً من قرار ترامب، وإن استسلمنا نحن اليوم لذلك السلخ عن الإسلام، فسيخرج بعدنا أقوام من المسلمين حول العالم لا تكترث لقضية فلسطين البعيدة كل البعد عن أي روابط إسلامية، والله سبحانه سيُحاسبنا على ذلك لا محالة.

بقي أن أذكِّر أبناء جيلي بأننا دائماً ما كُنَّا ننتقد الأجيال السابقة التي كانت سبباً في (النكبة – ١٩٤٨) و (النكسة – ١٩٦٧) وضياع مُقدَّرات الأمة وثرواتها، وكنا نلوم قلة حيلتهم بسبب جهلهم وضعف عقولهم، فنحن لم نَتَجرَّع مرارة تلك الهزائم، ولكننا اليوم أظلتنا أم الهزائم (الصفعة – ٢٠١٧) ونحن في قمة العلم والمعرفة مقارنة مع مَن سبقنا، ناهيك عن تَغنِّينا بالتحرر والعَلمَانية.. فما نحن فاعلون؟!

رأيان حول “أم الهزائم”

  1. بالفعل شعور بالقهر والعجز ينتابنا جميعا ونحن نرى هذا الدعم اللامحدود للصهاينه من قبل الأمريكان، لكني لا أستغرب حدوث هذا الشي فالصهاينة قامو بالتخطيط وإعداد العده وبذلو الغالي والنفيس من أجل تحقيق اهدافهم، أموال مهوله تدفع هنا وهناك لدعم ترامب للفوز بالانتخابات الرئاسيه ولا يأتي هذا الحب لترامب من فراغ فزوج بنته يهودي والكثير ممن يشغلون مناصب معه هم يهود وخلفهم آلات ضخ أموال واعلام يدعمهم مثل فوكس نيوز، ما نحتاجه كعرب ومسلمين ان نوحد البوصلة باتجاه القدس وان تكون هناك خطط مدروسة وان نعد العدة، حيث لا ينقصنا مال لكن ينقصنا الإيمان

    رد
  2. لولا الغدر والخيانة لما نكبنا ونكسنا وهزمنا ، لا بد من اعداد العدة والتخطيط ، لا تحزن فكلنا يعمل لهذا الهدف ، فلسطين لنا لا محالة ، وان لم نرها سيراها اولادنا او احفادنا ، اعمل اليوم وستحصد غدا ، ونعوذ بالله من الطواغيت واتباعهم .

    رد

أضف تعليق