مازالت قضيتنا الفلسطينية في عامها الـ ٧٣ من تاريخ نكبتها تتصدر المركز الأول ليس فقط في العالم العربي.. بل في العالم أجمع لأهميتها الإنسانية ومكانتها الدينية، الأمر الذي أدَّى إلى محاربتها بشتى السُبل ومن جميع الاتجاهات في محاولة لتمييعها ومحيها عن الوجود وجعلها قضية ثانوية لمجموعة من الخونة باعوا أرضهم لليهود، ناهيك عن الإرهابيين الإسلاميين في داخلها الذين يريدون جرَّ الأمة إلى صراع مع الإسرائيليين لا فائدة منه.
لكن على الرغم من كل تلك الجهود الشيطانية للقضاء على فلسطين وقضيتها، إلاَّ أنها مازالت فارضة نفسها وبقوة، وفي كل مرة يعتقد الصهاينة أنهم تمكَّنوا من فلسطين وأهلها وحاولوا اختبار جهودهم البائسة تجاهها من خلال تدنيس البلاد والعباد والمقدسات، تفاجؤوا بهبَّة الملايين حول العالم الذين يصطفون دفاعاً عن القضية وأهلها، ليقف العدو حائراً لا يدري متى يمكنه جني ثمار العقود الماضية لمسخ القضية وفصلها عن العروبة والإسلام.
السؤال المهم الذي يجب أن نسأله لأنفسنا اليوم في ذكرى النكبة.. ما الذي جنيناه من أحداث فلسطين الأخيرة؟ هل هناك أي فوائد تُذكَر؟
في الحقيقة الفوائد كثيرة على الرغم من أنها لا تخلو من تضحيات أهل فلسطين الذين سطَّروا العزة بدمائهم الزكية، ونذكر منها..
وحدة الشعب: هل تذكرون عندما كتبت لكم عن مُصطلح (الأسرَلَة) بعد زيارتي الأولى لفلسطين عام ٢٠١٦م؟ والمقصود بـ (الأسرَلَة) هو المشروع الإسرائيلي المَعني بتحويل الشيء عن أصله ليصبح إسرائيلياً، والشعب الفلسطيني في الداخل الإسرائيلي أهم الضحايا المستهدفة من هذا المخطط الخبيث منذ عقود طويلة، بحيث يُصبح فلسطينيو الداخل إسرائيليين قلباً وقالباً من دون أن يعتنقوا اليهودية، ويمكنكم قراءة مقال (الإنكار) الذي كتبته يومها حول هذا الموضوع المهم.
من أهم الأمور التي يهدف لها مشروع الأسرَلَة هو تخلي فلسطينيي الداخل عن باقي فلسطين وعن إخوتهم في الضفة الغربية وقطاع غزة بما فيها مدينة القدس ومُقدَّساتها، ومن وحي الأحداث الأخيرة تبيَّن لنا أنَّ هذا المشروع الصهيوني قد فشل فشلاً ذريعاً وبات مشروعاً بائساً لم يزد الشعب الفلسطيني إلاَّ وحدة وتَمسُّكاً بأرضه التاريخية من النهر إلى البحر، فقد ثار فلسطينيو الداخل في جميع مُدن الـ ٤٨ من تل أبيب إلى يافا وحيفا وعكا واللد من أجل القدس وغزة، فأثبتوا للاحتلال أنهم وإن كانوا يحملون جنسيات إسرائيلية إلاَّ أنهم يحملون في داخلهم قلوباً فلسطينية نقية، وأنَّ القدس الشريف ومقدساته خط أحمر لم ولن يتخلوا عنها حتى لو بعد مليار سنة ضوئية.
من أجمل ما قرأت اليوم في هذا الصدد ما غرَّد به الفنان المصري «عمرو واكد»: (منذ أن ولدت وحتى الأسبوع الذي مضى لم أرَ في حياتي كلها فلسطينيي الضفة والداخل وغزة يمشون في طريق واحد سوياً.. طريق الحرية، وإذ بهم يسحبون كل شعوب العربية والعالم خلفهم في تضامن غير مسبوق دفاعاً عن العدالة والإنسانية والبقاء. أرجوكم تماسكوا ولا تجعلوا أي شيء مهما كان يفرقكم مرة أخرى).
أيضاً من المنشورات الجميلة التي استوقفتني اليوم وأنا أكتب هذا المقال، ما كتبه الناشط الفلسطيني من عرب الداخل «ربيع زيود»: (في هذا العيد، استبدلنا طعم اللحمة بطعم اللُحمة، والله لإن طعمها أطيب وألذ!).
لكن الغريب أنَّ هذه الأحداث التي كشفت لنا اليوم أنَّ مشروع الأسرَلَة قد فشل في فلسطين.. كشفت لنا أيضاً أنه قد نجح خارجها، فقد أفرز لنا هذا المشروع (صهاينة عرب) ولاؤهم للكيان الصهيوني متجاوزون جميع الحدود الإنسانية والعقائدية من دون أن يرف لهم جفن. وعلى الرغم من هذه الوحدة الفلسطينية التي أفشلت مشروع الأسرَلَة كان أولئك المؤسرَلون يتصدَّرون الإعلام العربي ومواقع التواصل الاجتماعي بكل وقاحة وصفاقة، وقد أطلقت عليهم في كتاب (أرض الميعاد – روايتي عن عالم لا نفهمه) مُصطلح (العرب الفاسدة) كتصنيف رابع إضافة لما صنَّفه علماء الاجتماع والتاريخ من (العرب البائدة، العرب العاربة والعرب المُستعربة)، فالعرب الفاسدة هم الذين فسدوا من العاربة والمُستعربة وأصبحوا في هذا الزمان صهاينة أكثر من الصهاينة أنفسهم يتكاثرون كالذباب، يأمرون بكل رذيلة ويَنهون عن كل فضيلة، يبثُّون الهزيمة النفسية في أرواح العرب والمسلمين، فبات خطرهم الباطني على الأمة أكبر من خطر العدو الظاهر.
وحدة الأمة: مهما فعلت الحكومات العربية بشعوبها ومهما حاولوا تجميل الشر وإخفاء قبحه إلاَّ أنهم فشلوا في ذلك أيما فشل، ليُضيفوا فشلاً جديداً إلى لائحة فشلهم الطويلة جداً، فالوحدة التي أظهرتها الشعوب العربية أثبتت أنَّ فلسطين الرقم الأصعب الذي عجز المجتمع الدولي عن السيطرة عليه رغم كل القوانين الدولية التي وضعها لإضعاف وإذلال العرب والمسلمين، فبقيت فلسطين وشعبها ومقدساتها في وجدان الأمة العربية والإسلامية وستبقى إلى يوم الدين، وهذا أمر مازال يُشكِّل مُعضلة لإسرائيل ومَن وراءها، لدرجة أنَّ رئيس وزرائها غرَّد في نوفمبر ٢٠١٧م قائلاً: (إنَّ أكبر عقبة أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا، بل هي الرأي العام في الشارع العربي الذي تعرَّض على مدار سنوات طويلة لدعاية عرضت إسرائيل بشكل خاطئ ومنحاز)، الأمر الذي أطلق بين شعوب العربية هاشتاق (#أنا_عقبة) ليؤكدوا من خلاله أنهم عقبة في طريق إسرائيل، وأنهم كشعوب هم آخر حصون الدفاع عن فلسطين.. ولا أحد غيرهم.
إحياء القضية عالمياً: على الرغم من تكاتف الظالمين مع بعضهم البعض، إلاَّ أنَّ الرأي العام العالمي – بشكل غير مسبوق – قام بدعم القضية الفلسطينية وعلى أكثر من صعيد، ففي الوقت الذي رفعت النمسا علم إسرائيل على مبانيها الحكومية تضامناً مع جرائمها، ومنع القضاء الفرنسي التظاهرات الداعمة لفلسطين، وتأكيد أمريكا حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها تجاه الفلسطينيين الأبرياء، جاءت ردود الشارع الغربي مغايره – تماماً – لحكوماتها الظالمة والشريكة لإسرائيل في جرائمها، ليُجاهروا علناً برفضهم لجرائم إسرائيل وتهجير الفلسطينيين من مُدنهم والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في وجوده على أرضه التاريخية، غير مُكترثين لما يُسمَّى بـ (معاداة السامية) وتلك القوانين الفاسدة التي وضعها المجتمع الدولي لإضفاء غطاء شرعي لجرائم الاحتلال، الأمر الذي أكَّد على أنه لا خير في المجتمع الدولي (القلق) ولا خير في نظامهم العالمي الظالم المُستبد، وأنَّ الشعوب مهما كان عِرقها أو لونها أو دينها فهي ترفض – بفطرتها الإنسانية – الظلم مهما تم تجميله وكانت مُبرراته.
إحياء المقاومة: العجيب أنه في الوقت الذي يدعم (الظلمة) بعضهم البعض ويبررون لبعضهم سفك دماء الأبرياء، ترتفع أصوات (الصهاينة العرب) بشيطنة المقاومة الفلسطينية بشتى فصائلها والذَّم فيها، ومطالبة الشعوب العربية بالتخلي عنها والوقوف ضدها، وتسخيف قيمة المقاومة والحط من قدرها، وتعظيم قيمة الإنسانية في غير موضعها، وترى خطابهم القذر يعمل على رفع قيمة (إنسانية الأعداء) في الوقت الذي لا يتمتع فيه العدو بأي حس إنساني.
طبعاً أي عاقل شريف يُدرك تمام الإدراك أنه لا يمكن لأي أمة على وجه الأرض تحرير أرضها ونيل عِزَّتها من دون مقاومة عسكرية تصون كرامتها وتحفظ شرفها وتضع حداً لتجاوزات المُحتَل الغاصب، والأحداث الأخيرة في فلسطين جاءت لتُحيي تلك الفكرة على الرغم من تواضعها مقارنة مع الترسانة العسكرية التي يملكها جيش الاحتلال، والأهم أنها نقلت المعركة إلى الداخل الإسرائيلي الذي بات متخبطاً رغم تفوقه في العُدَّة والعتاد.
لكن السؤال المهم.. لماذا إحياء المقاومة مهم لنا كشعوب؟ هل سمعتم بـ (متلازمة غليان الضفدع – The Boiling Frog Syndrome)؟
في القرن التاسع عشر ما بين ١٨٦٩ إلى عام ١٨٧٥م، قام علماء ألمان بإجراء تجربة أطلقوا عليها اسم (غليان الضفدع – Boiling Frog) فأحضروا أطباقاً مملوءة بماء عند درجة حرارة معتدلة ثم وضعوا في كل طبق ضفدع، وأخذوا يرفعون حرارة الماء تدريجياً بمعدل بسيط جداً، وكانوا يعتقدون أنه فور ارتفاع درجة حرارة الماء إلى ٢٥ درجة، فلن تتمكَّن الضفادع من تحمُّل تلك الدرجة وسيحاولون القفز من الماء للهرب، وعلى عكس المتوقَّع، فقد فاقت درجة حرارة الماء الـ ٢٥ درجة إلى أن وصلت درجة الغليان وبقيت الضفادع في الماء المغلي إلى أن ماتت!
يمكنكم مشاهدة التقرير التالي الذي يصف التجربة:
بعد هذه التجربة، بدأ العلماء الألمان بطرح سؤال مهم: (ما الذي قتل الضفادع؟)
يقول المحللون في محاولة للإجابة على هذا السؤال أنَّ الذي قتل الضفادع ليس درجة الحرارة العالية للمياه، إنما هو اعتقادها الخاطئ بأنها قادرة على التكيُّف مع تلك الدرجة وتحمُّل حرارتها المرتفعة، والنتيجة كانت عدم قدرتها على اتخاذ قرار القفز في الوقت المناسب، وبناءً عليه خَلُص بعض المُفكرين والفلاسفة من أنَّ نتائج هذه التجربة لها رمزية مهمة جداً لما يمكن أن يحدث للإنسان إن حاول التأقلم مع الضرر، سواء كان ضرراً مادياً أو معنوياً.
في الحقيقة استوقفتني تلك التجربة وقارنتها مع الشعب الذي يتم احتلاله وإذلاله على مر عقود طويلة وبشكل مُمنهج، ما الذي سيؤول إليه حاله إن لم يقاوم؟
تصف هذه التجربة فكرة مهمة جداً وهي غلي الضفدع مع غياب ردة فعله لأن الأمر يتم بشكل تدريجي وبطيء، ويُلجأ إلى هذه التجربة لتفسير ردود أفعال الناس على التغيرات الهامة التي تحدث لهم أو لمَن حولهم بحيث تُستخدم كمثل لعدم قدرة الناس على التعامل مع التغيرات السلبية التي تحدث ببطء وبشكل غير ملحوظ. وجوهر هذه التجربة هو أنَّ الناس يجب عليهم أن يقاوموا التغييرات السلبية التي تحصل لهم تدريجياً حتى لا يعانوا من خسائر مُفجعة بعد فوات الأوان.
أطلق العلماء على هذه التجربة (متلازمة غليان الضفدع) والتي تُشير إلى الإرهاق العاطفي الذي يحدث للإنسان عندما يجد نفسه مُحاصراً في موقف يعتقد أنه من المستحيل الهروب منه، ليستمر في تحمله حتى يحترق، فالمراحل التي يمر بها ذلك الإنسان تجعله يحافظ على نفسه ببطء في حلقة مُفرغة تُضعفه عقلياً وعاطفياً إلى أن ينتهي بالإرهاق التام.
لا يوجد أسوأ من أن تتحول الشعوب إلى قِطعان راضية بالهزيمة كأنه أمر طبيعي، ولا يوجد أخطر على الشعوب من قبول الذل وكأنه شيمة حميدة، لذلك لابد أن نقاوم حتى لا تنتحر كرامتنا دون أن نشعر، لابد أن نقاوم حتى لا نكون مثل تلك الضفادع.
النصر يحتاج إلى تدريب وممارسة، والمقاومة تحتاج إلى خبرة كي تتطوَّر وتأتي بثمار يمكن لها أن تُكبِّد الأعداء خسائر تكسر ظهورهم، ولو قارنا نتائج المقاومة الفلسطينية اليوم بما كانت عليه منذ عشرين عاماً، سنجدها قد تطوَّرت وأصبحت أكثر إيلاماً للصهاينة، وأعداؤنا يعلمون تمام العلم أنه من الخطر بمكان السماح للعرب والمسلمين تطوير خبراتهم العسكرية من خلال مقامة حرة، فسوَّقوا لفكرة (المقاومة السلمية) من خلال المحافل الدولية والجمعيات الإنسانية التابعة للمجتمع الدولي والتي لا تأتي إلاَّ بذلٍ مُركَّب، إضافة إلى تسويق تلك المقاومة الخسيسة من خلال (العرب الفاسدة) الذين يحملون أفكاراً صهيونية ويملؤون إعلامنا العربي ويحظون بكل دعم لإفساد ما بقي من عقولنا السليمة، فيعملون ليل نهار على تخوين الفلسطينيين وتسخيف قضيتهم والتقليل من شأنها، وتجميل أعداء الله الصهاينة وجعلهم منارة التنوير العلمي والحضارة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية في المنطقة العربية، والأنكى من ذلك تبرير جرائمهم في حق أهلنا ومقدساتنا في فلسطين، والمساواة بين الجلاَّد والضحية، حتى استحى من أفعالهم غير العرب وغير المسلمين وكل مَن ينتمى إلى فصيلة البشر.
التمحيص والتطهير: استوقفتني يوم أمس تغريدة للكاتبة والشاعرة الكويتية «سعدية مفرِّح» قالت فيها: (وما يحدث في فلسطين حالياً فرصة لإلغاء متابعة بعض مِمَن أتابعهم.. إنه زمن الفرز!)، فقلت في نفسي (صدَقَت والله) فكلما ازدادت الأزمات كلما ازداد التمحيص والتطهير لصفوف العرب والمسلمين، وكلما سهل علينا فرز المنافقين الذين ترتفع أصواتهم بكل ذل وهزيمة لإثارة البلبلة وتفريق الصف، وهذه فائدة قديمة حديثة منذ عهد النبوة والتي كانت تكشف عن النفوس القبيحة ونواياها السيئة كلما عصفت أزمات بالأمة.
كلمة أخيرة، من الجدير بالذكر أنَّ ما يحدث اليوم في فلسطين من مقاومة لن يأتي بالتحرير الفوري، ومن السذاجة الاعتقاد بأنَّ النصر والتحرير على مرمى حجر، فالنصر يحتاج إلى الكثير من الأمور التي تنقصنا، لكننا – بإذن الله – نسير على الطريق الصحيح، فوحدة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج واستمرار المقاومة ومساندة الشعوب العربية المسلمة له ستأتي أُكلها يوماً ما إن استمر المسير، وأي محاولة لإيقاف هذا المسير لن تكون في صالح الفلسطينيين ولا في صالح الأمة العربية المرهونة حريتها بحرية أهل فلسطين، فقد أصبحت فلسطين اليوم هي البوصلة والميزان لصلاح هذه الأمة من فسادها، وقد أثبتت هذه الأحداث – بما لا يدع مجالاً للشك – أنَّ الذين داخل فلسطين هم الأحرار حقاً على الرغم من وجودهم تحت الاحتلال، وكل الذين خارجها من العرب هم القابعون حقاً تحت الاحتلال، فدعمنا للفلسطينيين في نضالهم ضد الاحتلال هو في الحقيقة دعم لحريتنا المنشودة خارجها.
بالمناسبة.. حتى هذه المقالة لن تُحرر فلسطين، ولكنها قد تُصحح الكثير من الأفكار الضالة والمنحرفة وقد تُعيدها إلى رشدها يوماً ما، وهذا جزء من الخطة الكبرى لمسيرتنا تجاه النصر والتحرير.