الإستشارة هي الجسر الآمن الذي ينقلك من الحيرة والتردد إلى الوضوح والإقدام، فهي بطبيعتها تحوي في داخلها الخبرة الفريدة والحكمة الرشيدة والنصيحة السديدة التي تلزم الشخص السائل، كما أنها بطبيعتها تشمل جميع مجالات الحياة اليومية من عمل ودين وعلاقات وغيرها من الأمور المهمة للفرد التي يخشى إن استمر فيها على نفس الوتيرة أن تؤدي به إلى خسارة وندم، فلو أفردنا هذه المقالة لشركات الإستشارات الإدارية، لوجدنا أنَّ طاقم مستشاريها عبارة عن علماء متخصصين وملمِّين تمام الإلمام بحقول العلوم الإدارية وإعادة هيكلة المنشآت العامة والخاصة، ومهمتها الرئيسية العبور بالعميل من الفوضى إلى النظام، ومن الخسارة إلى الربح، ومن الفشل إلى النجاح.
هذا كله وارد وموجود في شركات الإستشارات الغربية أو الغير عربية، ولكن الناظر إلى حال شركات الإستشارات العربية والمتابع لهرطقاتها في علوم الإدارة، يتعجب من أين يأتون بأفكارهم التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع ولا تفيد العميل بأي شكل من الأشكال، فلو تعمقت بطرق عملهم لوجدتها عبارة عن قص ولصق لقراءات عشوائية من الإنترنت، وتنسيقها بشكل جميل ومُلفت للنظر في ملفات ملونة مدعومة بصور تستلطف قلب العميل وتستهويه، كما يتم عرض الملف من قِبَل أوسم مستشاريها الذي يكون في بزَّة باهظة الثمن يتكلم بنبرة تخرج من جوف الحلق لتضخيم الصوت لإيهام العميل بإحترافية المستشار، ويستمر بتكرار المصطلحات الإدارية التي لا يفهم هو معناها مثل: “الأهداف الإستراتيجية” و”إدارة المخاطر والأزمات” و”ترتيب الأولويات” و”ضمان الجودة” … وغيرها من المصطلحات الإدارية القيمة التي تعكس كل منها بحد ذاتها علماً جماً. فيُعجب العميل بما يسمع ويرى، ويقع بالفخ وتبدأ اللعبة التي غالباً ما تنتهي بطرد الشركة المُستشَارة خارج المنشأة الضحية.
لماذا تنجح المشروعات الإستشارية لدى الغرب بينما تفشل لدى العرب؟ سؤال مهم لابد من الوقوف عنده، المُعضلة تكمن في سذاجة العميل ووثوقه بالشركات الإستشارية التي تبعيه مطبوعات وملفات لا يستطيع فهما أو تطبيقها لأنها أصلاً لا تناسبه ولم تُنشأ من أجله، فتبقى النصائح والإرشادات وإجراءات العمل في حدود تلك المطبوعات ولا تخرج منها، ويفشل المشروع ولا يجد من يُنقذه، وهذه المشكلة سببها:
-
رغبة الشركات الإستشارية بجني الأموال الطائلة دون جهد.
-
عدم توفر الموارد البشرية القادرة على تقديم الإستشارات المطلوبة.
يكون هَمّ الشركات الإستشارية الأول الإلتزام بالشق الأول، وهو الرغبة الجامحة في جني الأموال الطائلة من غير جهد أو تعب، لكن ماذا تفعل بالعقد المُبرَم بينها وبين العميل؟ عندها تواجه الشق الثاني من المشكلة وهو عدم قدرتها على توفير الإستشاريين المتخصصين باهظي الثمن، فتأتي بخريجي جامعات لا يفقهون شيئاً في الإستشارات وليس لديهم أي خبرة، وتحضهم على تأليف أي شيء وإرساله للعميل، وليتها إنتهت إلى قضية شح الموارد المتخصصة لكان الأمر أهون بكثير، ولكنها لا تأتي بهم أبداً لندرتهم وغلاء أجورهم، وهنا تترتب مشلكة أخرى شرعية في المال المَجني، قضية “بيع الغرر” الذي حرمه الإسلام ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر )) صحيح النسائي للألباني 4530، وفي هذا جاء النهي عن بيع ما في صلب الفحل أو بطن الناقة أو الطير في الهواء أو السمك في الماء، وعن كل ما فيه غرر – أي جهالة وعدم تحديد للمعقود عليه – ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد الناس في زمانه يبيعون الثمار في الحقول أو الحدائق قبل أن يبدو صلاحها وثمرها، وبعد تعاقدهم يحدث أن تصيبها آفة سماوية، فتهلك الثمار، ويختصم البائع والمشتري، فيقول البائع: قد بعت وتم البيع، ويقول المشتري: إنما بعت لي ثمراً ولم أجده، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها.
وليس كل غرر ممنوع، فإن بعض ما يباع لا يخلو من غرر، كالذي يشتري داراً مثلاً لا يستطيع أن يطلع على أساسها وداخل حيطانها، ولكن الممنوع هو الغرر الفاحش الذي يؤدي إلى الخصومة والنزاع أو إلى أكل أموال الناس بالباطل كا يحدث في حالة الشركات الإستشارية، فإذا كان الغرر يسيراً – ومردّ ذلك إلى العرف – لم يحرم البيع.
في الحقيقة لقد عايشت إحدى تلك الشركات العربية التي تدعي أنها مبنية على أسس شركة غربية محترفة، وأنها قادرة على حل مشاكل العميل والرقي به إلى النجاح، فسحروني بكلامهم لدرجة أني لم أنم في تلك الليلة التي قابلتهم فيها أنتظر الصباح حتى أحصل على عقد توظيفي كمدير مشروع لديهم، وعملت لمدة ثلاثة أشهر متواصلة مديراً لمشروع إعادة هيكلة إجراءات وقوانين منشأة ما، ورأيت كيف يحتالون على العميل المسكين، وعندما كنت أتساءل لماذا تفعلون هكذا بالعميل؟ أين إستشارييكم؟ كانت مبرراتهم أنهم لا يملكون الآن هذه الموارد، قالوا لي إعتمد على نفسك وابحث في الإنترنت عما يُناسب هذا العميل، وماذا كانت النتيجة؟ العميل نفسه طلب إلغاء العقد بعدما اعترفوا بأنهم غير قادرين على إتمام المشروع.
كل شيء ينشأ في الغرب أو عند غير العرب يكون جميلاً ومفيداً، ويصبح بشعاً وبلا قيمة عندما يصل إلى أيدي العرب، لماذا يا أمتي إرتضيتي أن تكوني أساس دعائم الفشل والإحتيال ولم ترتضي لنفسك أن تكوني من دعائم النجاح والحلال؟ ما الذي ينقصك؟ لماذا كل هذا التخلف؟ لماذا هذا التفكير المؤقت الذي لا يأتي بأي نتيجة؟ أين الإستراتيجية وبعد النظر؟ أين البناء وركائز النجاح؟ فالأمر قد يكون أفضل لو شعرت تلك الشركات بمسئوليتها تجاه المجتمع، هم يهدمون ولا يبنون، يُعلمون الجيل الصاعد النصب والإحتيال والتسول في شبكات الإنترنت على معلومات عامة لا تنفع أحد، لا أقول سوى حسبي الله ونعم الوكيل، فالله مطلع على خفايا الأمور، وسيأتي سبحانه بقوم أفضل منهم يعلمون الحلال والحرام، بنَّاءون مجتهدون، أحرار الفكر والعقل، يرسمون لهذه الأمة مجدها ويصنعون نجاحها، وحتى ذلك الحين، إحترس من وهم الشركات الإستشارية المتخصصة في تقديم إستشارات النصب والإحتيال.
رداً على تعليق ريم حسن
بالضبط هذا ما نعانيه في مؤسساتنا العربية، اللا مسؤولية … والقشورية، وهاتان صفتان ملازمتان للإنسان العربي. فقط ما يهمه المصلحه الخاصة والمظاهر الزائفة.
لا يوجد مكان للجوهر … أو للمصلحة العامة.
أذكر موقف حكاه لنا أستاذنا في أحد مواد الماجستير، وهو ينصحنا بالتركيز على الهدف الحقيقي، حيث قال أنه عندما كان يدرس اللغة في أمريكا قبل ٢٠ سنة تقريباً، سألت الأستاذة الطلاب عن طموحاتهم بعد التخرج، فقال أستاذنا مباشرة: أريد أن افتتح شركة تحمل اسمي..
ابتسمت الأستاذة وقالت: جميل، لكن ماهو نشاط الشركة؟
قال: لا يهم، المهم أن تحمل اسمي!
ابتسمت الأستاذة وقد بدأت علامات التعجب تظهر عليها ثم سألت زميله السعودي: ماذا عنك؟
فابتسم هو الآخر وضرب على صدره بفخر قائلاً أنه سيفتتح شركة تحمل اسمه..
فكان رد الأستاذة المتفاجئة هو: What is going on in Saudi Arabia!
يقول أستاذي: وإلى الآن، لم أكن فهمت بعد مالذي تقصده الأستاذة!
ثم وجهت سؤالها لفتاة معنا، فبدأت هذه الفتاة تصف شركة الأدوية التي ترغب بترأسها، والخدمات التي ستقدمها شركتها.. وكأن الشركة قائمة أمامها تراها رأي العين!
حينها شعر أستاذنا وصديقه بإحراج كبير من ثقافة الـ ” أنا ” التي أفقدتهم ماء وجههم ذلك اليوم..
وهذا أحد الأسباب الوجيهة لسطحية كثير من الشركات، حيث أن كل ما يهم مجلس الإدارة هو مصلحة الـ ” أنا “، وليس المجتمع..
فعندما يخططون لنشاط ما لا يرون صورة مجتمع متميز كنتيجة لجهودهم، إنما يرون صورتهم والكاميرات محيطة بهم، أو صورتهم وهم يتسلمون المبالغ الهائلة.. وحتى إن تفضلوا بتقديم أي خدمة للمجتمع، فإنهم يتأكدون ١٠٠٠ مرة من وجود التغطية الإعلامية الشاملة لكل التفاصيل.. أي أنهم لا زالوا يعملون لمصلحة الـ ” أنا “..
فعن أي مسؤولية أو إبداع أو أمانة سنتحدث إن كان المحرك هو الـ ” أنا ” !