زمن إبليس

|

حسين يونس

قرأت منذ فترة مقالاً طويلاً للكاتب «رولف دوبلي – Rolf Dobelli» بعنوان (حمية الأخبار – Diet News) يتحدث فيه عن الضرر الكبير الذي تُحدثه نشرات الأخبار في عقولنا. وذكر في كتابه (فن التفكير بوضوح – The Art of Thinking Clearly) أنَّ الضرر الذي تُحدثه نشرات الأخبار في عقولنا، مساوٍ للضرر الذي يُحدثه السكر في أجسامنا.. إن لم يكن أشد! وجلست فترة من الزمن أحاول أن أتبع نصائحه في تجنب نشرات الأخبار السامة التي ليس لها أي فائدة مرجوة سوى توتير العقول وإحداث الخلل فيها كي لا ترى الحقيقة بوضوح، لكن – مع الأسف الشديد – فشلت في الإمتناع.. وعدت لمشاهدتها مرة أخرى بحكم العادة السيئة.. ومازالت المحاولات مستمرة.

الطريف في الموضوع أنَّ الكاتب يتكلم عن نشرات الأخبار الغربية، والتي كنت أستمتع جداً بمشاهدتها عندما كنت في كندا، فهي لا تخلو من الأخبار الإيجابية التي تستعرض الديمقراطية ونظام البلاد في إدارة الميزانية وكشف الفساد والكثير من الأمور الي تبعث الأمل والحيوية في نفوس مَن يشاهدونها، وكنت أقول في نفسي (كيف بهأي رولفلو شاهد نشرات الأخبار العربية؟!) بالتأكيد سيُصعق من شدة الكآبة والإحباط التي ستعتريه من كل جانب.. لو شاهدها لساعة واحدة فقط!

ففي هذه الأيام حالكة الظلام، تجلس أمام شاشة التلفاز لمشاهدة الأخبار، وما أن تنتهي من مشاهدتها.. تبدأ الكآبة تتسل إلى نفسك والإحباط يملأ قلبك، وجسدك قد أنهكه التعب وكأنك صعدت جبلاً شاهقاً، وضغط دمك قد إختلَّ.. لا تستطيع التحرك من مكانك، كأنك تناولت جرعة من السم الذي أفسد عليك صحتك، وتنظر إلى زوجتك وأطفالك والشر يقدح من عينيك من هول ما شاهدت في تلك النشرات.. وتقول في نفسك: (تباً لكم.. مَن أنتم.. لماذا أنتم هنا؟!)، وبعدها تأتي النشرة التي تليها لتعيد نفسها من جديد، ونجلس بكل صفاقة لنشاهدها المرة تلو المرة.. وكأنها قيام ليل أو عمل يُقربنا إلى الله، والمشكلة أننا لا نفهم لماذا نشاهد الكلام نفسه مرة أخرى؟! ربما نبحث عن شيء ما؟ أو ربما أصبحنا مُغيَّبين لا نملك السيطرة على عقولنا البائسة؟

أنظر في كل يوم إلى مكتبتي بشفقة.. أصبحت أُراكِم الكتب ولا أقوى على تناول واحد منها لأقلِّب صفحاته، أنظر إلى مشاريعي المُهملة وأتساءل.. من أين سأجلب العزيمة لاستئنافها من جديد؟!

كنت أنوي اليوم تكملة حديثي عن قضايا التربية التي بدأتها منذ أسابيع، لكن على ما يبدو أنَّ الحالة المأساوية التي تغزو الروح العربية قد طالتني أنا الآخر جرَّاء تجرُّع سموم تلك النشرات الشيطانية.

بالله عليكم.. من أين سيأتي التفاؤل وأنت ترى رجلاً يدخل قنصلية بلده فيتحوَّل إلى أُضحية، وأطفال يذهبون في رحلة مدرسية.. فيبتلعهم الطوفان ويعودوا إلى ذويهم بالأكفان، وآخرون تهطل عليهم القنابل كأنها أمطار موسمية، وآخرون يأكلون التراب من شدة الجوع.. وبلادهم أغنى من خزائن قارون، ورجال دين يتحوَّلون إلى صعاليك ومُهرِّجين يُحرِّفون الإسلام ويعبدون الأوثان.. وكأنَّ «محمد بن عبدالله» بات نسياً منسياً أو شخصية خرافية، والكذب والنفاق حرفة مَن يريد السمو في سماء المحافل الدولية، وأعداء الله والإنسانية يسرحون في بلادنا وكأنَّ السلام واقع والمقدسات نالت مكانتها في المراتب الشَرفية، ودول حوَّلت الإعلام لوسيلة انتقام.. كأنهم صبية في أزقة منفية.. والمقال لا يكفي لسرد الإنحطاط الذي نراه في نشرات أبى جهلٍ.. الذي تفوَّق عليهم في أخلاقه الجاهلية.

عقولنا أصبحت مُتحجِّرة، وآراؤنا أصبحت قاصرة، ونظراتنا أصبحت ضيقة، وأسأنا استخدام الحضارة وحوَّلناها فقط لوسائل انتقام لنُريح أنفسنا المريضة، فلا العلم ولا المعجزاتُ باتت تُسعِفنا، ولا تِلاوةُ الآياتِ تَجبرُ الكسر، وكل يوم نتقلب من غدر إلى غدر، حتى أصبحنا تائهين في دوَّامة الفشل، نتدحرج من شر إلى شر.

كتَّابُنا ومثقفينا باتوا دُمىً في يدِ مَن يدفع أكثر، وأقلامهم باتت تَخطُّ ما لا يليق بألقابهم، حتى أصبحوا أرخص من قرن الشيطان، والبلاهة لا تُغادر مُحيَّاهم البائس كلما ظهروا على شاشات البؤس ونشرات الضلال.

من أين سيأتي الخير وأخبار عالم الحيوان أفضل من أخبارنا؟ كيف سنُربِّي أطفالنا على الخير ونحن مَن يحتاج إلى تربية؟ من أين سننهض ونرتقي ونحن نُصفِّق لكل ذمٍ يَمَسُّ معتقداتنا واتهاماتٌ لا تنتهي تهوي بمبادئنا السامية؟ من أين ستأتي الديمقراطية ونحن نُردد مبادئ الشيطان لأطفالنا، ونرضعهم العنصرية والأنانية في حليبهم منذ الصغر؟

نعم نعم.. أعرف ما يدور في بالكم، مقال كئيب مليء بالتشاؤم، لكن هل سألت نفسك إن كان ما أقوله حقيقي أم لا؟ وإن كان كذلك.. فلماذا لا نتحدث عنه في العلن لنجد حلاً في الكتب التي نقرأها ولا نستفيد منها؟ ستقولون: (الفتنة نائمة لعن الله مَن أيقظها)، سأقول لكم أنَّ الفتنة الحقيقية هي أنَّ نتركها نائمة بدلاً من أن نوقظها ونقضي عليها، فالفتنة لا تنام مادام في هذه الأرض أمثالنا.

أكثر ما أتمناه اليوم هو أن أطبِّق حمية رولف لأطهِّر قدراتي العقلية، وأرفع من مهاراتي الفطرية، أريد أن أغادر هذه الكرة الأرضية إلى كوكب أجد فيه الإنسانية الحقيقية، حاملاً معي أحلامي وبعض القرطاسية، بحثاً عن الهدوء المفقود.. عليّ أصل إلى ذاتي الملائكية، وأزيل عنها ما أفسدته النشرات اليومية، فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، والله لن يُغيرنا حتى نُغيِّر ما بأنفسنا، ونُخرِج منها عفنها وأمراضها الدهرية، والقَدَر لا يصنع نفسه.. إنما نصنعه أنا وأنت.. ولا أحد غيرنا، فإما أن نبقى مفعولٌ به، أو نلعب دور الفاعل.. ولو لمرة واحدة في حياتنا الهزلية، فكِّر جيداً بتلك الكلمات واترك عنك المُنمَّقِ من الكلام الذي أسكر عقلك وجعلك في ذيل القافلة البشرية.

إستيقظ أيها العربي.. فلا باركَ اللهُ في نَومِ الجَاهِليةِ، الذي طالَ وأعدَمَكَ قُواك.. فإما أن تَعيَّ ما أمامك، وإما أن تَبقى كالدَجاجةِ تَأكُلُ ما وَراك!

أضف تعليق