لو نظرنا اليوم إلى الأفكار (الموجَّهة) في الإعلام بشتى أنواعه والتي يتعرض لها العقل البشري عموماً والعربي خصوصاً، لفهمنا حجم التحدي الذي يتعرض له الإنسان في هذا الكون، تحديات كبيرة هدفها تسطيح العقل وجعل صاحبه تائهاً غير قادر على الفهم أو الإستفادة من قدرات تلك الآلة العظيمة التي يحملها فوق كتفيه.
سأستعرض قضية بسيطة في ظاهرها، عميقة في مضمونها، كارثية في نتيجتها.. ألا وهي قضية المنهج!
النهج أو المنهج الذي يستند عليه الإنسان في نظرته إلى الأمور، غالباً ما يتزعزع ويختفي إذا خلا من الموضوعية وسيطرت عليه العاطفة، لتبدأ بعدها تناقضات في المنهج لا تنتهي، وهذه القضية مع الأسف الشديد أصبح لا يخلو منها إنسان مهما كان عالماً أو عاميَّاً.
لنأخذ مثلاً رجال الدين وكل ما يندرج تحت ذلك المُسمَّى من مشايخ ودعاة وعلماء، وهي شريحة مهمة في مجتمعاتنا الإسلامية ولا يمكن الإستغناء عنها، خصوصاً في زمن (الجهل والتسطيح) و(التحريف والتبديل) و(الكفر والردَّة) الذي نعيشه اليوم، ولا يوجد مسلم حقيقي يؤمن بالله ورسوله إيماناً نقياً كما ينبغي لم يتأثر بتلك الشريحة المحترمة.
قوة تأثير هذه الشريحة في المجتمع، جعلتها مُستهدفة من قِبَل تجَّار المال والسياسة والأسلحة التي لديها أهداف كثيرة مُتداخلة ومُتشعبة، فالطاغية لا يُشكل خطراً على الأمة بالقدر الذي يُشكله (الإعلاميون) و (رجال الدين) الذين تم استخدامهم لصناعته، ولو حاول داعية ربَّاني التصدي لهؤلاء التجَّار، لانتهى به المطاف إما في بيته تحت الإقامة الجبرية، أو في غياهب السجون إلى أن يستسلم وينساق، وإن كان صاحب مبدأ وأصرّ على موقفه.. سيبقى مكانه في تلك الغياهب إلى أن يلقى ربه من شدة الذل والتنكيل والتعذيب، والأمثلة على ذلك كثيرة لا مجال لذكرها.
هذا الإختراق لهذه الشريحة المهمة وضع أُسساً منحرفة لمنهج الدعوة في هذا الزمان الأسود، وأصبح الداعية بوقاً لمَن يُنفق عليه من الطغمة الحاكمة ومَن يواليها، وكله من أجل المال والشهرة ومجد زائل، ولا يمكن لهذا الكلام أن يخفى على أحد إلاَّ إن كان عاميَّاً جاهلاً يتلقى دينه من منابر الإعلام، وليس في حلقات العلم الشرعي في المساجد والجامعات.
لكن دعني ألفت إنتباهك عزيزي القارئ إلى أنَّ مشكلة اليوم لم تعد في تُجَّار الإسلام، إنما في الدهماء الذين يتبعونهم دون تفكير أو فهم أو وعي! حاولت أن أقف على الأسباب التي جعلت الناس تنساق كالأنعام وراءهم، فلم أجد غير الأسباب التالية:
- تجَّار الدين يفصِّلون الإسلام حسب هوى الزبائن: تجد مسلمة تقول: (لقد ارتديت الحجاب بسبب ذلك الداعية) وعندما تنظر إليها.. لا ترى حجاباً.. بل ترى قبعة على الرأس وملابس الضفادع المخصصة للغواصين!
- تجَّار الدين ينقلون جانباً واحداً من الدين ويتركون آخر: تجدهم يُبشِّرون أتباعهم بالجنة ولا يذكرون النار أبداً. ودائماً يُرددون أنَّ الله سبحانه وتعالى {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}، ولا يذكرون أنه سبحانه أيضاً {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}. وهذا أمر يحبه الناس، فالعامة يحبون مَن يُخدِّرهم، ويُبغضون مَن ينقل لهم الحقيقة {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.
قد يكون هنالك أسباب أخرى لكن أكتفي بما تقدَّم، والشاهد من هذا الإستشهاد إظهار العبء الواقع على أكتاف العامة الذين يعتقدون أنهم غير محاسبين إذا اتبعوا (الفتاوى السريعة في هدم الشريعة!).
يقول سبحانه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}، وقال أيضاً {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}، فلن ينفعك شيخك يوم القيامة عندما تقف بين يدي الله يسألك: (طلبت كل علوم الأرض ولم تطلب أساسيات علوم الآخرة.. لماذا يا عبدي؟ ألم تعلم أنَّ أساسيات الإسلام فريضة كي يصلح دينك؟) ماذا ستقول له وقتها؟ كلنا مسؤولون أمامه يوم القيامة وكلنا سنُحاسب لأننا عطَّلنا عقولنا واتبعنا غيرنا من دون فهم أو إدراك {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}.
لابد من الإنتباه إلى أنه قد أصبح لدينا اليوم شيء اسمه (تَديُّن) وشيء آخر اسمه (تَذيُّل)، والفرق بينهما هو كالفرق بين (البصير) و (الضرير)، فالأول لله والثاني للدُعاة! يقول سبحانه {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}، بالتأكيد لا يمكن أن يستوي (المتَديِّن) الذي استعمل عقله لفهم دينه مع (المُتَذيِّل) الذي عطَّل عقله ورضي بأن يكون ذيلاً لغيره حتى لو كان شيخاً أو داعية، وكلٌ باختياره {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}.
كما أنَّ للعاملين في حقل الدعوة تناقضات في المنهج، فلمتابعيهم أيضاً تناقضات في الإتباع، فمن تناقضات دهماء هذا العصر، أنهم يغضبون إذا تم انتقاد قدواتهم (دعاة آيدل)، في الوقت الذي يُرحبون بنقد العلماء الربانيين الأجلاء الذين أوصلوا لنا هذا الدين نقياً أمثال الأئمة الأربعة و«ابن تيمية» و«ابن القيم» وغيرهم من العلماء المشهود لهم في التاريخ. فلابأس بشتم «ابن تيمة» ونعته بأنه نواة الفكر الداعشي، ولا بأس بالنيل من «حسن البنا» ونعته بأنه بذرة الإرهاب المعاصر، ولكن إياك أن تقرب دعاة الفضائيات!
وإذا نعت أحد أبواق الفضائيات بأنه مُنافق، يقولون لك (وهل شققت عن قلبه؟)، وكأنهم لم يعوا بعد أنَّ النفاق في هذا العصر قد انفجر وظهر ولم يعد خفياً كما كان الحال مع منافقي المدينة في العصر النبوي.
يقول رسول الله ﷺ ((آيةُ المنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدَّثَ كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خانَ))، ودعاة آيدل (شيوخ الكباب) في هذا العصر اقترفوا كل ما تقدَّم بل وزادوا عليه.. مُباركة سفك دماء المسلمين، وعبادة الأوثان من الطغاة وغيرهم، والبكاء تحت الطلب لاستغفال الدهماء ودغدغة عواطفهم!
تبرأ رسول الله ﷺ من «خالد بن الوليد» لأنه سفك دماً بغير وجه حق، ولا يريد الدهماء أن نتبرأ مِمَن بارك سفك دماء الآلاف من المسلمين! حسبي الله ونعم الوكيل {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
هؤلاء ليسوا دعاة، وليست لهم قُدسية أو حصانة في ديننا، هؤلاء أصبحوا أوثاناً تتبعهم الدهماء بحثاً عن السهل في الإسلام حتى تشوَّه دينهم وأصبح قبيحاً كالثوب المُرقَّع!
عندما ننتقد هذه الفئة الضالة المُضِلَّة، فإننا نُكسِّر أصنامهم حتى نصل إلى الدعاة الحقيقيين الذين حُرموا من الكلام وضاع صوتهم، فليس للإعلام أي مصلحة في إظهارهم لأنهم ليسوا (كول) وغير مُمتعين ولا يملكون ما يكفي من مهارات النفاق لتسلية الجمهور ورفع نِسَب المشاهدة.
على ما يبدوا أنَّ الكثير من الدهماء لم ينتبهوا بعد إلى أنَّ العلماء الربانيين في زماننا قد أصبحوا لا يتجاوزون عدد أصابع اليد، شئت أم أبيت.. هذه هي الحقيقة. قال رسول الله ﷺ ((إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعاً ينتزِعُهُ من العبادِ، ولكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً، اتخذَ الناسُ رُؤوساً جُهَّالاً، فسُئِلوا، فأفْتَوا بغيرِ علمٍ، فضلوا وأضلوا)).
وبعد كل هذا الفساد.. يخرج علينا دعاة (اللايكات) و (البكاء تحت الطلب) يقولون لأتباعهم: (ما تيجوا نتعايش؟! ما تيجوا نحب بعض؟!)، هكذا وبكل سخافة، إلى أن تجد نفسك قريباً في صفوف جيش الدفاع الإسرائيلي تدافع عن القتلة المجرمين بحجة التعايش والسلام المزعوم!
النقد هو الوسيلة الوحيدة للتطوير، ومن دونه.. لا يوجد أي أمل في التطوير والتصحيح، ويقول الفاروق رضي الله عنه: (أحبُّ ما أهدى إليَّ أصحابي.. عيوبي!)، والنقد أقل حقوقنا حتى نُوصل رسالة لمَن يُريد أن يعمل في هذا الحقل الصعب أنَّ المسلمين ليسوا أنعاماً ضالة.. بل لديهم عقول تفكِّر وتحلل وتنتقد!
لا أريد أن يُفهَم من هذا المقال أني أحاول أن ألعب دور الداعية الواعظ.. على الإطلاق! فهذه أصبحت مهنة وأنا شخصياً لا أرغبها، لكن مجال عملي أن أكتب وأنقد وأسلط الضوء على ما أراه إنحرافاً غاب من بين السطور عن عامة الناس. فلست داعية ولن أكون بإذن الله، ولا أنصحك بأن تقتدي بي أو بما أكتب.. فأنا إنسان أحمل على كاهلي الكثير من المعاصي، وإن اتبعتني من دون تفكير، قد أقودك إلى الهاوية! وستبقى عزيزي القارئ تُكرر نفس الخطأ في اتباع غيرك من دون تفكير!
قد نختلف مع بعضنا في أسلوب النقد ونوعية الألفاظ المستخدمة ومدى حدتها، وقد تختلف معي بعد هذا المقال وربما تكرهني وتحقد علي.. ولكن هذا كله لا يهم، وليس موضوعنا ولا ينبغي أن نتفق، وأنا لا أكتب كي أُرضي الناس، لكن المهم أن تعي وتفهم أنَّ الخيار خيارك اليوم.. إما أن تحترم نفسك وعقلك ودينك وتكون مع فريق (المُتدَيِّنين)، أو أن تُبقي على عقلك مُعطلاً في صندوق المهملات وتكون مع قطيع (المُتذَيِّلين)!
أخيراً، لا أجد أعمق مما قاله الإمام الشّافعي لأختم به: (لأن أستَرْزِقَ بالرّقصِ.. أحبُّ إليّ من أن أستَرْزِقَ بالدِّين!).
فإن فهمت ما كتبته لك اليوم.. فاحمد الله، وإن لم تفهم.. فابكِ على نفسك!
صحيح ١٠٠٪
نعم للنقد البناء التوعوي لاستفزاز العقول
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.