شاهدت نشرة الأخبار المسائية بعد يوم عمل مرهق، وبعدها سألتني زوجتي عن مدى جدية الحكومة الجديدة في إلغاء القوانين المُجحفة التي أقرَّتها حكومة المحافظين السابقة مثل قانون (Bill-C51) الذي يُخول جهاز المخابرات الكندي المُسمى (CSIS) باختراق خصوصية المواطنين من دون إذن محكمة مُسبق، وقانون (Bill-C24) الذي قسَّم الكنديين إلى مواطنين درجة أولى وثانية، ناهيك عن التهديد الذي يُشكله هذا القانون على مزدوجي الجنسية، فإذا كنت تحمل الجنسية الكندية وجنسية أخرى معها، واتهمك أي مارق بالإرهاب فيمكن لوزير الهجرة أن يخلع منك جنسيتك الكندية من دون موافقة المحكمة العليا.
وهذا أمر مرعب بكل ما تعني الكلمة من معنى، إذ كيف يمكن لوزير التمتع بمثل هذه الصلاحيات في العالم الأول؟! في السابق كان على الحكومة رفع دعوى في المحكمة ضد الشخص الذي تنوي إسقاط جنسيته من خلال إتهامه بـ(الخيانة العظمى) والتقدم بأدلة مادية واضحة تثبت تلك الجريمة، وكانت الإجراءات تأخذ سنوات متتالية ليتم حسمها، وغالباً ما كانت الحكومة تخسر جلَّ تلك القضايا، فالعملية لم تكن بهذه البساطة أن يقوم أي وزير متطرف له انتماءات صهيونية بإسقاط الجنسية الكندية عن عربي مسلم بتهمة (حب فلسطين)!
طبعاً جوابي لها كان بالإيجاب، فأنا واثق من أنَّ هذه القوانين لا يمكن لها أن تستمر في دولة مثل كندا، وسيتم إلغاؤها في أقرب وقت من خلال التصويت عليها مجدداً في مجلس العموم الكندي، وثقتي نابعة من معرفتي بسياسة الحزب الليبرالي من جهة، والتوجه العام للشعب الكندي من جهة أخرى، فهو حزب يساري يُخالف رؤى حزب المحافظين اليميني المتطرف، وإذا لم يُلغِ الليبراليون أياً من تلك القوانين، فلن يبقى ما يميزهم عن حكومة المحافظين السابقة، والسياسة في العالم الأول تعتمد على مبادئ الحزب وتميزه عن الأحزاب الأخرى، أما الشعب فقد قال كلمته خلال آخر انتخابات فيدرالية والذي رفض مثل تلك القيود على حريته التي حاول حزب المحافظين سلبها على غرار ما قام به الجمهوريون في أمريكا، فكلاهما وجهان لعملة واحدة.
ثم سألتني سؤالاً آخراً غاية في الأهمية، يعكس مدى خبرتنا كعرب بالديمقراطية وثقافتنا البسيطة حولها وحول آلياتها، فقالت: “البارحة أقرَّ المحافظون تلك القوانين، واليوم جاء الليبراليون ليلغوها، وغداً قد يأتي المحافظون من جديد ليُعيدوا تلك القوانين إلى الحياة مرة أخرى.. هل هكذا سيكون الحال؟!”، فقلت لها: “بالطبع، فهذه هي الديمقراطية”، فقالت: “ولكن هذا أمر مرهق، كل حكومة تأتي تفعل ما تشاء وتغير كما تريد”، فقلت لها: “ومن قال إنَّ ممارسة الديمقراطية ستكون أمراً سهلاً؟ فمن مسؤولياتك كمواطنة كندية أن تحافظي على صوتك عالياً وتمارسي حقوقك الدستورية من خلال التصويت والانتخاب، حتى تضمني وصول الحكومة التي تريدين إلى سدة الحكم، تماماً كما فعلتِ في الانتخابات الأخيرة”.
الغالبية الساحقة من الجالية العربية لا تعي حقيقة الديمقراطية وكيفية ممارستها وعواقبها إن أُهمِلت، فالديمقراطية كلمة لاتينية تعني “حكم الشعب لنفسه”، فهي نظام مبني على الشعب ومن الشعب وإلى الشعب، وفي نهاية المطاف يتحمل مسؤوليتها والخيارات الناتجة عنها الشعب نفسه ولا أحد غيره، فإن أحسن الاختيار.. استفاد، وإن أساء… خسر، وإن اعتزلها.. سيُفرَض عليه ما لا يرغب ولا يطيق، وفي الانتخابات الفيدرالية الأخيرة اعتزل بعض العرب واجبهم الدستوري ولم يُدلوا بأصواتهم لأسباب غير وجيهة على الإطلاق، فإن لم تتمكن من الاختيار بين الجيد والسيئ وكان كل المُرشحين بالنسبة لك سيئين، فمازالت المسؤولية واقعة على عاتقك كي تختار من بين هؤلاء السيئين من هو أقلهم سوءاً، يقول شيخ الإسلام “ابن تيمية”: “ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين”.
الشعوب العربية لا ترى من الديمقراطية سوى شق واحد فقط متشكلاً في الحرية، ويغفلون عن الشق الأهم منها المتشكل في المسؤولية، ففي اعتقادي أنَّ الحرية والمسؤولية هما وجهان لعملة الديمقراطية، فمن أسس الديمقراطية الحقيقية أن تعطي الحق لكل فرد كي يُعطي أفضل ما لديه من قدرات لخدمة الإنسانية ومجتمعه الذي يحيا فيه، وهذا العطاء لا يمكن له أن يكون من دون تحمل المسؤولية، ولو تفكرت فيها عزيزي القارئ ستجدها مهمة عظيمة وليست بالهينة، فالديمقراطية ليست دمية نشتريها اليوم ونتخلص منها غداً، إنما مسؤولية تحتاج إلى عمل ومشاركة ومتابعة، وعدم التفريط بممارستها مهما كانت الظروف صعبة، فتجد العرب يبذلون الغالي والنفيس للهجرة إلى العالم الأول من أجل العدالة الاجتماعية والتمتع بالديمقراطية، بالمقابل لا يريدون أن يساهموا بأي شيء لإنجاح تلك العملية الحضارية الرائعة، وهذا نتيجة الفكر الاستهلاكي الذي نشأت عليه أمة العرب.
في الانتخابات الفيدرالية الأخيرة، قامت الجالية العربية والإسلامية في كندا بعمل رائع من خلال المشاركة الواسعة في العملية الديمقراطية، وجعلت لنفسها – أخيراً – قيمة فعلية في الساحة السياسية الكندية، ولم يكن هذا ليحدث لولا المشاركة وتحمل المسؤولية مع باقي أطياف الشعب الكندي، فالكنديون بمختلف ثقافاتهم ودرجاتهم الاجتماعية يمارسون الديمقراطية لأنهم تربوا في مدارسهم على أنَّ هذا الأمر واجب وطني يُمَكِّنهم من نيل حقوقهم، وذلك خلاف ما تربى عليه المواطن العربي، فالواجب الوطني عنده هو التقديس التام والكامل للزعيم الرمز الأحد الصمد القائد الأعلى والحاكم بأمر الله المُنزَّه عن كل نقص وخطيئة والمرفوع عنه الحجاب والذي يرى ما لا يراه المواطن ويعرف مصلحة الشعب الذي يجهلها الشعب نفسه!
طبعاً أنا هنا أتحدث عن كندا والعالم الأول، ولست بصدد نقد العالم الثالث والفنون الديكتاتورية التي يتعرض لها على مدار الساعة، ولكن الشيء بالشيء يُذكر، فرغم قتامة المشهد العام في العالم الثالث، إلاَّ أنه من الجدير بالذكر أنَّ شعوبه مشاركة في مسؤولية ما آلت إليه ظروفها المزرية، فعندما وصلت إليها الديمقراطية، ركلوها بالأقدام واستبدلوها بعبادة الأصنام، فالديكتاتورية متجذرة في بنيتها النفسية وكيانها ووجدانها مع الأسف الشديد، قال تعالى {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} الأنعام الآية ١٢٩.
كلمة أخيرة، أذكر في اليوم الذي رافقت فيه زوجتي إلى المحكمة من أجل قسم الحصول على الجنسية الكندية، خاطب القاضي الحضور وألقى عليهم كلمة رائعة فيما يخص ممارسة الديمقراطية والمشاركة في مسؤولية صنع القرار فقال: “إن عزلتم أنفسكم عن المجتمع ولم تمارسوا حقكم الانتخابي في كندا، فأنتم كأنكم تعطون مفاتيح بيوتكم لشخص مجهول لا تعرفونه ليديره بالنيابة عنكم، وهذه خسارة كبيرة”، وحتى تنجح في تفويض من ينوب عنك، فلابد من حصول الوعي وعدم الانجراف وراء ماكنة الإعلام، قال “نعوم تشومسكي” كلمة رائعة في هذا الصدد: “البروباغاندا (أي الدعاية) في الدولة الديمقراطية هي نفس العصا في الدولة الاستبدادية”.