هويتنا في كندا

|

حسين يونس

دخلت يوماً إلى مكتب إدارة البرج الذي أسكن فيه في مدينة ميسيساجا، ولاحظت وجود مسؤول جديد ذي ملامح عربية، وبعدما تبادلنا الحديث بالإنجليزية، سألته: هل أنت عربي؟ فنظر لي بنوع من القرف، وقال: نعم. فتبسمت وقلت له: لماذا لا نتكلم بالعربية ما دمنا عرباً؟ فقال لي: لأن كل المصائب من العرب! ففهمت أنه لا يرغب في التحدث بالعربية أو حتى الإيحاء لأحد بأنه عربي.. لأنه يبدو – في نظره – أنَّ كل مصائب كندا من العرب، لذلك هاجر إلى الغرب كي يتخلص من العروبة وينتهي منها إلى الأبد.

طبعاً لم أنغِّص عليه حلمه بالانسلاخ عن أصله بلفت انتباهه إلى ملامحه العربية التي ستبقى تطارده إلى قبره، فتغيير الهوية شأنه وهو حر به، ونحن نعيش في بلد ديمقراطي كل مَن فيه يتحمل مسؤولية اختياراته، ثم سألته: من أين أتيت بهذا الرأي؟ فنظر إليَّ مستغرباً وقال: إذا لم يكن العرب.. فمَن إذاً؟! قلت له: كلامك غير صحيح، ولا يستند إلى أي حقائق واقعية.

وكان في هذه الأثناء يقف في المكتب رجل عربي آخر يعمل مع ذلك الشاب في نفس الشركة التي تدير البرج فأيد كلامي وقال له: معه حق.. التجربة أثبتت أنَّ العرب ليس لهم أي شأن في المصائب التي تحدث في كندا. فنظر إلينا معاً باستغراب وقال: كيف؟ قلت له: كم عدد العرب في كندا؟ فسكت ولم يُجب، فقلت: وفقاً لوزارة الإحصاء الكندية عدد العرب لا يزيد على ٣٩٠ ألفاً، أي ما يُعادل ١,٢٪ من تعداد السكان الكلي لكندا، وهذه نسبة لا يمكن لها أن تقوم بأي مصائب خصوصاً في دولة مثل كندا، هل تعلم لماذا؟ قال: لماذا؟ قلت له: لأنَّ دولة مثل كندا لديها ما يكفي من إمكانيات لمراقبة وإدارة هذه الفئة القليلة جداً، والنظام قادر على سحقها تماماً لو دعت الحاجة، ناهيك عن أنَّ هذه النسبة ليست مجتمعة في مكان واحد حتى تكون فاعلة اجتماعياً، بل هي مبعثرة بين المقاطعات والأقاليم الـ ١٣، يعني بالمنطق والعلم والأرقام أنت مخطئ جداً!

وقبل أن أنسحب قلت له: هل تتابع الأخبار المحلية؟ قال: نعم. قلت له: خلال السنوات الخمس الماضية كم مرة سمعت بمجرم عربي ظهر على التلفاز؟ العرب الذين وُجِّهَت ضدهم اتهامات لم يتجاوزوا عدد أصابع اليد خلال السنوات الخمس الماضية، فلماذا المبالغة إذاً؟ لم أنتظر الجواب، فانسحبت وتركته.. علَّه يفكر.

فقدان الثقة بالهوية العربية ليس حصراً على هذا الشاب المسكين، بل هي مشكلة منتشرة بكثرة ومتفشية بين أبناء الجالية، فالغالبية العظمى تُعاني من تلك الأزمة، وهنالك من يدعو جهاراً نهاراً إلى التخلص من تلك الهوية.

وفقاً لتقارير مختلفة من الشرطة الكندية، العرب هم أقل نسبة في لائحة الإجرام في كندا، والكثير لا ينتبه أنَّ غالبية العرب في كندا هم من طبقة متعلمة، لكن ليس لها هوية واضحة مع الأسف الشديد، فهي تحيا في منطقة ضبابية بسبب تشرذمها بين سفارات سايكسبيكو، الأمر الذي أدى إلى غيابها تماماً عن المشهد الكندي، وظهر هذا جلياً خلال الانتخابات الفيدرالية الماضية التي أطاحت بحزب المحافظين، فلم يحدث أن خاطب رؤساء الأحزاب الكندية الجالية العربية باسمها أو ألقوا لها بالاً.

نشرت صحيفة “ناشيونال بوست” الكندية في عام ٢٠١١م دراسة إحصائية لتعداد المسلمين المتوقع بحلول عام ٢٠٣٠م، وأشارت تلك التوقعات إلى أنه سيصل عدد الجالية الإسلامية في كندا إلى ٢,٦٦١,٠٠٠، أي ما نسبته ٦,٦٪ من تعداد كندا الكلي، واليوم وحسب تلك التوقعات، فقد وصل تعداد المسلمين إلى ١,٣٧٠,٢٥٠ نسمة، أي ما نسبته ٣,٨٪.

السياسيون في كندا أذكياء، فهم يعلمون أنَّ الجالية العربية بحد ذاتها ليس لها رؤية محددة وواضحة، ففي حقيقة الأمر ينتمي كل فرد عربي إلى سفارته في العاصمة أوتاوا وليس إلى أمته العربية، الأمر الذي دفع زعماء الأحزاب الكندية إلى مخاطبة الجالية باسم “الإسلامية” عوضاً عن “العربية” لأنها تعتبر الهوية الأكبر والأقوى والأعم والأشمل كما تبين الأرقام والإحصائيات، ولها رؤية واضحة ومطالب لا يختلف عليها أحد كالحصول على تراخيص لبناء المدارس الإسلامية والمساجد والمقابر الإسلامية والكثير من المطالب التي لا يشترك معنا فيها أحد من الديانات الأخرى.

والأهم من ذلك أنَّ الغالبية الساحقة من العرب هم مسلمون، فلو كنت مكان هؤلاء السياسيين، هل كنت ستلجأ خلال الحملات الانتخابية إلى التعامل مع هوية مُشرذمة كالعربية؟ أم أنك كنت ستوفر الجهد والمال والوقت لمخاطبة هوية أشمل ولها حشد أكبر كالإسلامية؟ ناهيك عن أنه إذا أراد السياسيون مخاطبة الجالية.. سيذهبون إلى المساجد والمراكز الإسلامية – كما فعل الجميع – ولن يذهبوا إلى مراكز العرب أو سفاراتهم.

أنا أعتقد أنَّ مُسمى “الجالية الإسلامية” سيوحد الجميع تحت الدولة الكندية ودستورها مقارنة مع مُسمى “الجالية العربية”، وهذا ما فعله اليهود، فإن لم يلجأوا إلى هويتهم الدينية، كانوا سيبقون متشرذمين بين دول العالم المختلفة التي جاؤوا منها، ونحن أيضاً من باب أولى أن نلتفت إلى مصالحنا كي نستفيد ونفيد بحكمة العقل والمنطق.

لاشك أنَّ هنالك مَن لا يريد لنا هذا، ويعتبر أنَّ مُسمى الجالية الإسلامية سيُفرق الجمع بدلاً من توحيده، والحقيقة غير هذا على الإطلاق، فالجالية العربية في المهجر استثمار خاسر وقصير الأمد لن يأتي بأي ثمار، ولو كان لها قيمة حقيقية.. لأثمرت في الوطن العربي، ولما اضطررنا للهجرة والبحث عن وطن بديل. ولو سألت نفسك عزيزي العربي: إلى من ستلجأ إذا انحرف ولدك وبدأ يتعاطى المخدرات، أو بدأت تظهر عليه بوادر الردة والخروج عن الإسلام، أو بدأت تظهر عليه بوادر التطرف والإرهاب؟ إلى مَن ستلجأ لحظة وفاة أحد أفراد عائلتك لإنجاز غُسل الميت وصلاة الجنازة ومراسيم الدفن؟ إلى مَن ستلجأ لحظة عقد قران ابنك أو ابنتك؟ إلى مَن ستلجأ إذا جاءك من يُريد أن يعتنق الإسلام؟

إلى سفارة بلدك العربية.. أم إلى المساجد والمراكز الإسلامية؟ حتى عندما نتجمهر من أجل قضية عربية مثل فلسطين، يكون في صف المظاهرة الأمامي عجم المسلمين قبل عربهم؛ لأنهم يعتبرون فلسطين قضية إسلامية وهي ليست حكراً على العرب وحدهم. قليل من الصراحة ينفع!

منذ فترة اجتمعت مع أحد البنوك في كندا لأستفهم منهم تفاصيل القروض السكنية (Mortgage) من البداية إلى النهاية، علَّ وعسى أن أجد منفذاً شرعياً يمكنني من شراء بيت.. لكني لم أجد، وفي نهاية الاجتماع سألت الموظف إن كان البنك يُقدم قروضاً إسلامية كما هو الحال في بريطانيا، فقال لي: لماذا سيقوم البنك بتقديم القروض الإسلامية… إذا كان العرب والمسلمون يأخذون القروض الربوية؟ طبعاً معه حق، لماذا؟

الشاهد من هذه القصة أننا لو لم نتوحد تحت مسمى فعَّال للجالية، لن نحصل على شيء… وسنخسر جميعاً، واليوم لدينا حكومة جديدة متسامحة مع المسلمين والأقليات، فلماذا لا نستغل الفرصة ونعمل معاً على مصالحنا في ظل نصوص الدستور والصالح العام الكندي؟ إن بقينا نُصر على اتباع سياسة تجاهل الحقائق والركض خلف السراب… سيقضى هذا الأمر على كل أمل لنا في النجاح كجالية عربية مسلمة في كندا.

وأتساءل: مِن أجل مَن كل هذا.. مَن المستفيد؟

أضف تعليق