عندما ولِد، لم تكن الحياة صافيه، كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، كان الهدوء قد بدأ يسود المدينة، والضجيج يسود روحه التي تحاول رؤية النور، كانت أمه تلتقط أنفاسها المتسارعة بينما صراخها المتقطع يزداد كلما اقتربت اللحظة، فدائماً ما يكون الهدوء حميداً إلاَّ في تلك اللحظة.. يكون مقيتاً ومُرعباً.
الجميع في الخارج يتمنى أن يستمر الضجيج ويعلو، فتلك إشارات الحياة التي يريدونها.. ولا شيء سوى الحياة.
لم يكن يعلم عندما ولِد أنَّ حياته داخل الرحم أرحم، كان يدفع بنفسه خارجاً ليُنهي آلام أمه التي لا تنتهي، كان متلهفاً للخروج.. لكنه لم يكن يُدرك حجم المعاناة التي تنتظره في الخارج، فهو ولِد في بلاد تكره ذاتها، لم يكن يعلم مدى التناقض الذي يُعاني منه قومه في ذاتهم ومُعتقداتهم، لم يكن يستوعب لماذا كانوا يبغضون بعضهم إلى هذا الحد، كان يرى في حركاتهم تشويشاً عجز عن تفسيره الفلاسفة.
على الرغم من الوهن الذي كان يعتري عقول من حوله، إلاَّ أنه كان يستغرب من القوة التي كانوا يتمتعون بها تجاه شهواتهم، كان مشدوهاً عندما أدرك أنَّ إرضاء الشهوات عندهم هو مدار الكون، فلأجلها يطلبون العلم، ولأجلها يكدُّون ويعملون ولأجلها يحاربون، وفي سبيلها يشربون دماء بعضهم.
لم يكن يفهم كيف سيكبح شهواته التي لا تنتهي، فكلما نضج جسده أكثر.. كلما ازدادت غرائزه وتعلَّق بها، تلك اللعنة التي لن تتركه يهنأ يوماً، ففي كل لحظة كانت تطرق بابه.. كانت تترتعد جوارحه لا يدري كيف السبيل، كانت نارها تأكله من الداخل.. ويقف الحزين عاجزاً لا يدري كيف السبيل.
هل يا تُرى.. كان يُدرك أنَّ هجرته خارج رحم أمه لن تكون الأخيرة؟ هل كان يتخيل كمية الوثائق التي سيجمعها ليُثبت للعالم الناجح أنه عبدٌ صالح كي يقبلوا به؟ هل كان يُدرك أنه حتى بعد القبول.. سيبقى ممزقاً بين أصقاع الأرض؟ كل ذلك كان البداية فقط! كانت دهشته بالحياة كبيرة كلما قارنها مع مسكنه الأول في ذلك الرحم المائي.
لم يكن يعلم أنه سيبقى يعمل فقط ليُعطي غيره، كان يجهل أنَّ جميع مَن حوله لا يرون فيه سوى صرة من المال، لم يكن يُدرك أنه سيبقى طيراً مُهاجراً لا يجد عشه الذي ينتمى إليه.
ستنتهي حياته يوماً ما، لكن قبل الرحيل.. سيورث ذريته قضايا خاسرة لم يُفلح يوماً في حلها، أهمها.. معرفة وجهته في هذه الحياة.
كلما خلد إلى النوم كي يستريح، كان يستيقظ في اليوم التالي منهكاً أكثر، كان في فراشه كقطعة اللحم التي تتقلب في مقلاة، لم يكن يفهم لماذا حُرِم من الراحة في كل شيء.. حتى في نومه.
كانت أيامه متشابهة، لا يستطيع أن يُفرِّق بينها، كأنها توائم تسير في نفس الإتجاه، لا يستطيع أن يغير اتجاهها أو حتى أن يستمتع بتفاصيل الرحلة.
كان خوفه في كل ليلة يزداد، ليس من السير في اتجاه واحد، بل لأنه كلما رأى بارقة أمل للخلاص، كان يخشى أن يبوح بها في العلن، كان يخشى من قومه وأقرب الناس إليه، في كل يوم كان يقينه يزداد أنَّ عجزه الحقيقي هو البوح بما يجول في خاطره.
كان يبحث عن سبيل للعودة إلى ذلك الرحم، لكنه لم يجد سوى جدران بيته تأويه، فهي وحدها التي تستمع له بإنصات.. دون الخوف من ردة فعلها البربرية.
إستمر في عزلته حتى تيقن أنه لن يجد بعد هذه الجدران أفضل من الحفرة المظلمة، كان يؤمن أنه هناك سيقوى على البوح بأفكاره التنويرية لقومٍ تحت التراب قد أدركوا الوجه الكامل للحقيقة.
فعلى ما يبدو أنَّ مَن سبقونا إلى هناك هم وحدهم الأحياء.. ومَن بقي بيننا هم حقاً الأموات!
للمرة السادسه أرجع اقرأ المقاله يالله كل يوم ارجع ادرك ان الانسان ضعيف و يزيد يقيني اننا لم نخلق من أجل هذه الحياه