نردين .. رواية من فلسطين 🇵🇸

|

حسين يونس

في ليالي كندا الباردة من هذا الشهر، كان صقيع الشتاء الشمالي يُلقي بثلجه علينا كما يُلقي العدو بذخيرته على أهل فلسطين، إذ إنخفضت درجة حرارة مدينة تورونتو إلى 20° درجة مئوية تحت الصفر، تماماً كما إنخفض مؤشر الحياة هناك .. في فلسطين. لكن شاء القدر أن يجمعني بما يُدفيء برد الروح ويجمع شتاتها، رواية .. إلتحف القلب المتجمد في بحر الرأسمالية بصفحاتها الحيَّة لتُعيد إليه النبض من جديد، أحيَت روحاً ممزقة بين أصقاع الأرض باحثة عن وطن، وطن في الغربة لا يمكن له أن يتجاوز جدران المنزل الذي تعيش فيه، خصوصاً إذا كان هذا الوطن هو فلسطين، فأقصى درجات المواطنة المسموح بها .. خارطة على الجدار تُذكرك ببيت جدك في مدينتك الأم، وعَلَم فلسطين ترفع له القبعة تحية وتمجيداً لما بقي من حدود دولة المنفى في خيالك.

منذ أن بدأت قراءة الرواية، لم أتمكن من فراقها إلى أن انتهيت منها تماماً، قرأتها في غضون يومين إثنين .. قرأتها في خلوتي، وأنا أجلس مع العائلة، وأنا في المترو في طريقي إلى العمل. « ربِّ إني وضعتها أنثى » لم تكن مجرد رواية عادية كتلك التي تقرأها من أجل الترف الأدبي أو الربح المادي، هذا السرد الواقعي لِما كان من تاريخ الآباء والأجداد بين غربة ومنفى، مقاومة وصمود، سجن وتعذيب، غدر وخيانة، أمل ونصر، أنثى وحيدة ترمَّلت أو تيتَّمت بقيت صامدة شوكة في حلق العدو .. هذا كله أعاد الحقيقة إلى نصابها الطبيعي في هذه الليالي المُحرَّفة، وحتى لا ننسى قصة شعب مازال يُعاني من ويلات المؤامرة والغدر والخيانة، كان لزاماً تسليط الضوء على هذا الإصدار القيِّم، ليستمر التاريخ شاهداً على صفحات زماننا السوداء.

الكاتبة الروائية « نردين أبو نبعة »

« نردين أبو نبعة » روائية أصلها ثابت وفرعها في السماء، أديبة حرة جذورها في فلسطين وثمارها في الأردن، أعادت إلى الأدبِ أدبهُ النقي من دون اللجوء إلى الكفر والإلحاد للتعبير عن الغضب والإستياء كما جرت عادة الكثير من الأقلام، أقلام ركيكة عجزت عن فهم أسباب الأزمة الحقيقة وافتقرت إلى الفكر النقي، فكان شذوذ النص حليف ما كتبوا إلى يوم الدين.

في الرواية بلاغة لوقفات كثيرة عكست واقع الفلسطيني في الداخل والمهجر، سأقتبس بعض الجماليات اللغوية والوقائع للتعليق عليها بشكل مُقتضب من خبرتي ورؤيتي الخاصة بما يُناسب سياق المقال، وسيكون الإقتباس بين أقواس مع أرقام الصفحات من الرواية.

تبدأ الرواية مع لحظة العبور إلى فلسطين، تشتد الخيانة بأبشع صورها، ويغدو الإحتلال بلباس عربي .. تماماً عند نقطة حدود رفح القابعة تحت إدارة الجيش المصري، وكأنَّ لسان حاله يقول لكل من يُحاول زيارة فلسطين .. إيَّاك أن تعاود المجيء مرة أخرى .. إيَّاك أن تُؤرِّق مضاجع السادة في إسرائيل، وكأن غزة واقعة بين فكَّي كماشة .. الفك الإسرائيلي من الشمال، والفك المصري من الجنوب، وبينهما روايات زَيف عن أهل القطاع لتبرير تهمة التخابر، فتقول الرواية تعليقاً على هذه المعاناة لمن يستلم موافقة العبور إلى غزة:

( نَخرج من الغرفة الضيّقة كضيق عقولهم وعواطفهم – ص17 )

( يُذكّرونك بأنَّ الإحتلال مازال على صدرك – ص17 )

* * *

عندما يغيب الوطن، تغيب معه الحياة بأسرها، فلا مكان بعده يصلح للحياة، فيُصبح اللاجيء الفلسطيني مُضطراً بين كل حين أن يبحث لنفسه وأهله عن موت جديد في مكان آخر، فتقول الرواية:

( ثمَّة وطن قد فقدته هناك .. فكل البلاد بعده سواء – ص18 )

( وكأن قَدر الفلسطيني البحث عن حتف جديد – ص19 )

* * *

خلال رحلات الفلسطيني الكثيرة بين أقطار الأرض باحثاً عن مُستقر، يجد شيئاً ما يُذكره بوطنه .. حتى لو كان هذا الشيء ثمار البرتقال على شجرة، فتقول الرواية ببلاغة رائعة:

( ما أصعب أن يكون وطنك في يديك ولا يكون – ص21 )

* * *

وخلال هذا التنقل والكدِّ في البحث عن القوت والأرزاق، تبدأ الذاكرة بشكل عفوي بمحو ما بداخلها في محاولة للحياة من جديد، فتقول الرواية:

( جاء ليُعلمني الحذر من عبث الغربة بذاكرتي – ص21 )

* * *

الأم الفلسطينية ليست كباقي الأمهات، فهي تضطر في كثير من الأحيان بسبب الغربة وفقدان المُعين أن تكون هي الأم والأب .. وهي تعلم أنَّ الشكوى للعبيد لن تأتي بشيء، وهذا ما حدث معي عندما تركنا الكويت إبَّان الغزو العراقي وإتجهنا إلى الأردن، فلولا أن قيَّض الله أمي لإدارة أسرتنا .. لذابت العائلة تماماً، تقول الرواية:

( أمي كانت قوية لدرجة أنها أغرت القارب بأن تكون شراعه على ضعفها ورقَّتها – ص26 )

( مقولة « لويس هولتز – Louis Holtz »: لا تخبر الناس عن مشاكلك، فثمانون بالمائة لن يهتموا، والعشرون الباقون سعداء لأن لديك مشاكل – ص27 )

* * *

لفتة مهمة إلى ضرورة تأصيل فكرة الوطن المُحتل في قلوب وعقول أبناءنا وبناتنا من الجيل الجديد، وإلاَّ ومن دون أن تشعر .. ستجد أنك تحيا بشخصية العربي الحرِّ القنوع، وأولادك يَحيَون بشخصية الغربي الغِرِّ الخنوع، تقول الرواية:

( هل أحكي لك أني ما فقدت بوصلتي ببعدك عني لأنَّ أخي الحبيب صنع لي تعويذة من التيه؟ – ص31 )

( أشعر بتأنيب الضمير لأنَّ أطفالنا الذين ولدوا في المنفى بلا ذكريات .. بلا أهل أو أقرباء – ص80 )

* * *

لا أنسى كيف بذلت والدتي الغالي والنفيس للإنفاق على تعليمي الجامعي بعد وفاة والدي، وكيف وسَّع العِلم آفاقي، وفتح الأبواب المؤصدة أمامي، تقول الرواية:

( لقد كان يُطارد النجاح والتفوق في ذلك الفتى الذي بعثره هَجر الأب ولملمته الكتب – ص31 )

* * *

اليوم أصبح من الصعب البوح بالحقيقة الكاملة، فبمجرد المحاولة .. سيُهاجمك الجميع ولن يبقى لك صديق، فالكل يُفضل العيش في الغيبوبة على أن يواجه الحقيقة، فعلى سبيل المثال، من الصعب جداً اليوم المطالبة بفلسطين الكاملة في المحافل الدولية، ولا يمكنك البوح بهذا الطلب إلاَّ بين أحبابك ومن تثق بهم، ولكنك تعلم أن لله أمراً آخر سيأتي لا محالة .. فلا يبقى أمامك سوى الإستمرار بالمقاومة من خلال الصمت والصبر، تقول الرواية:

( أحدق في الدم السائل غزيراً من فمي، الصمت .. الصبر هما شكلا المقاومة الجديد – ص35 )

* * *

أعجبني جداً تعريف الإرادة في الرواية، فأنا حملتها على مَحمل آخر غير الذي جاءت عليه، فقد يستفيد من هذا التعريف مُهرطقوا زماننا الذين يهذون بما لا يعلمون ليُرضوا الأقوى، فلو فهموا معنى الإرادة .. لالتزموا الصمت، ولسَلمت شريعة الله من التحريف، ولظهرت الهزيمة بوجهها القبيح ولونها الحقيقي من دون أي مساحيق تجميل، تقول الرواية:

( لا يستطيع أحد أيَّاً كان ومهما بلغت قوته وحيلته أن يُجبرك على التلفظ إلاَّ بما تريد .. إنها الإرادة – ص37 )

( يرفض السير على الخط الملون الزاهي .. خط الإستسلام – ص40 )

* * *

الرواية هنا تتحدث عن معانة السجين في السجون العبرية وكيف أنها تدريب على القبر، وأنا حملتها على الإغتراب من خلال تجاربي العالمية في التنقل بين القارات، وليت من كان قبلي من أهلي بقي في فلسطين ولم يزج بنا في سجون الإغتراب .. لكنها الضرورة .. عفى الله عنهم وعنا، تقول الرواية:

( أيُعقَل أن يشتاق السجين حتى للحرف؟ ما أوجعه من ألم، أن تشتاق لتجرب صوتك بالحرف العربي – ص44 )

( هي بروفة إفتراضية للقبر – ص45 )

( من كان يظن أن ضوء الشمس والحرف العربي سيصيران أقصى ما يتمناه سجين فلسطيني؟ – ص46 )

( يكفي أنَّ تجرب الغربة لتكتشف أنَّ الإنسان اخترعها ليستطيع الإفلات – ص187 )

( تشهد غربتي أني ما تركت وطني إلاَّ ليخضرَّ عود عائلتي – ص187 )

( فالغريب يَضيق بالغربة وإن اتسعت، والسجين يَتسع بالسجن وإن ضاق – ص188 )

* * *

عندما يُحبس الجسد في سجن الغربة، تُحلق الروح بشوق إلى الوطن .. ولا يكون هذا التحليق إلاَّ للسجين، تقول الرواية:

( حبس الجسد = تحليق الروح بعيداً – ص47 )

* * *

لابد من ثورة على الذات وعلى العادات الإجتماعية الرذيلة لفسح المجال للقيم الإنسانية من أن تعود كما أرادها الله سبحانه وتعالى، هذا هو الربيع بوجهه الحقيقي .. وليس ذاك الذي حوَّل الجموع إلى قطيع من الثيران الهائجة .. تأكل بعضها بعضاً هبائاً منثورا، تقول الرواية:

( عندما يبتعد الإنسان عن قناديل القيم الإنسانية ويسقط في وحل الجبروت الظالم، تسقط إنسانيته وتتفوق عليه أحقر المخلوقات – ص50 )

* * *

يعتقد الإنسان بأنه يحفظ لنفسه حياة كريمة حرة بتخليه عن دعم المقاومة والمقاومين .. أو بتخليه عن الوطن، والبقاء في خانة التردد وعدم إتخاذ موقف واضح تجاه القضية، لكن الحقيقة غير ذلك، فللإحتضار صور أخرى قد تبدو أقبح وأقسى .. كما هو الحال لصور السجن الأخرى، تقول الرواية:

( الناس تحتضر من الخوف والعجز – ص68 )

( إكتشفت أنه لا وطن للذين يقفون على الحياد ولمن يقفون مواربة .. لا إلى هنا ولا إلى هناك – ص84 )

( إنَّ السجن الحقيقي هو الخوف – ص108 )

* * *

الغربة عن الأهل وقلة العزوة .. مؤلمة جداً، لا يعلمها إلاَّ من اكتوى بنارها، وأقبح ما في الغربة .. عندما لا تجد من تبوح له عن معاناتك .. أو يموت لك عزيز دون أن تراه .. تماماً كما مات والدي مُغترباً في اليمن .. فلم نكفّنه ولم ندفنه، تقول الرواية:

( كم هو حارق طعم الدمع عندما يسيل إلى الداخل .. رائحته رائحة البارود – ص133 )

( إنَّ المعاناة تصبح متعة بالصحبة – ص152 )

( الموت صعب .. ويكون أصعب عندما لا نستطيع أن نودع الأحباب وأن نُلقي النظرة الأخيرة – ص200 )

* * *

أعجبني تصوير الكاتبة لكلمة “مُستوطَنة” بـ “مُغتَصِبة” في ص236.

* * *

في نهاية الرواية، أعجبني جداً التعبير الذي ساقته الكاتبة للفراق عن الوطن مجدداً بعدما تمكنت من ترابه، تقول الرواية:

( كيف سأرحل بمحض إرادتي .. كيف سأتجاهل ملامحي التي استعدتها هنا؟ – ص240 )

* * *

لن يسعني المقال أن أقتبس كل ما أعجبني، وإلاَّ .. لجاريت الكاتبة بكتاب لا يقل عدد صفحاته عن عدد صفحات الرواية، لكن في ختام هذه المقتطفات سيسعني أن أشكر « آل أبو نبعة » على هذه الزهرة التي أهدوها من نبعهم للشعب العربي أجمع، فلهم منا كل الشكر والتقدير.

دمتم بخير.


* تحديث – 30/04/2014: تم نشر المقال أعلاه في جريدة الرأي الأردنية بتاريخ 11 أبريل 2014 بعنوان: واقعُ الفلسطيني وبلاغة التصوير.

كل الشكر والتقدير لمن ساهم في نشر كتاباتي وأعمالي.

رأيان حول “نردين .. رواية من فلسطين 🇵🇸”

  1. بالرغم من كل الحواجز و القيود و القوانين التي يفرضونها على شعبنا الفلسطيني اينما كان .. لا زلنا نحن الشعب الأقوي .. شعب لا يقهر .. لا بالقتل و لا بالموت و لا حتى بالتطهير العرقي .. و لا زالت تجربتنا في الإحتلال و إغتصاب كل ما يمكن اغتصابة لدينا تحفزنا على البقاء على قيد الحياة بالرغم من القهر و الظلم و القمع الذي يتعرض لة هذا الشعب العظيم .. وما زلنا نصدّر للعالم أجمع أرقى انواع الأدب و العلوم المختلفة … و مع آننا كفلسطينيين عشنا في كل بقعة على وجة الأرض .. و حملنا الجوازات و الجنسيات المختلفة .. إلا أننا لا زلنا نحلم … بفلسطييننا و ستبقى في القلب دائماً .

    رد
  2. مهما إختلفت الأقلام ،ومهما إختلفت المسافات ،ومهما إختلفت الأفكار ،الهدف واضح ،ستظل فلسطين في قلوبنا.

    رد

أضف تعليق