ينشأ المواطن العربي ويترعرع على مذهب الخَرَس العام: (ممنوع التعليق، فأنت لست مثلهم!) فيشبُّ وهو لا يستطيع أن يُعلِّق أدنى تعليق عن أي أحد ولأيِّ سبب، فتجده خجولاً إنطوائياً لا يُجيد النقد البنَّاء ولا إصلاح العيوب التي تتكلله وتحيط به عدا عن البوح بها.
فعلى سبيل المثال تسمع دائماً رجال الدين يحثون المسلمين على عدم مسِّ أي أحد من الرموز الدينية – وأنا أؤيد ذلك بلا شك – وعندما يصل حظر التعليق إلى درجةٍ مُبالغ فيها كعدم التعليق حتى على مواقف السلف التي أخطئوا فيها … فتصمت وتقول يكفيهم شرفاً أنهم رأوا رسول الله ﷺ أو كانوا قريبين من زمانه، وأنت لا تستطيع أن تبلغ مِعشار ما بلغوا، فتؤمن بهذا المبدأ وتعيش عليه ولا تبلغ منزلتهم لأنك تبرمجت سلفاً على ذلك، مع أن رسول الله بشَّر بكثير من الأعمال الفضيلة التي يستطيع أن يجتهد فيها المسلم في أي زمان ليصل إلى مراتب الصحابة والصالحين … لا علينا، فهؤلاء رجال دين ولا يجوز مناقشتهم حتى لا نكون من المُرجئة أو الرافضة.
ولكن أن يصل الأمر إلى منع الناس من الإستدلال والكلام على الرموز غير الدينية فهذا كثير، لعل ما استفزَّ حماستي في هذا الموضوع هو ما شاهدته على قناة أمير الشعراء الإماراتية في دورتها الثانية من إنتقاد بعض أعضاء لجنة التحكيم لأحد الشعراء المشاركين وتعليقهم على نصه بشكل سلبي لأنه إختزل أسماء الشعراء القدامى والمعاصرين في قصيدته، وقام بوصف المتنبي بالدفَّاق! وتمنى في قصيدته معانقة قصائد درويش … وهذا بنظر أحد أعضاء اللجنة غير ممكن!
أنا لا أدافع عن الشاعر، ومن الممكن أن شعره كان سيئاً، فأنا لست بشاعر ولكني أدافع عن حرية القول والتعليق لدى الفرد، فقد كان إستنكارهم هجومياً، فهم يرون أن المتنبي جهبذ الشعر العربي ولا يجوز وصفه بهذه البساطة، ودرويش قصائده عظيمة ولا أحد يستطيع معانقتها، وحُرم الشاعر من التأهل بسبب المتنبي ودرويش، وأنا متأكد من أنه سيكرههم بعد هذا الموقف حتى ولو أحبهم من قبل.
مبادئ العرب غريبة الأطوار، فهم كانوا سبب إستمراء أبنائهم للرذيلة والحرام، فهم لا ينهون أبناءهم عن الأمور المُشينة، فعندما تنتقد شاباً لإعتراضه فتاة لإقامة علاقة معها، يُقال لك: (دع الشاب اليافع يستشعر رجولته!) وإذا حاولت إنتقاد بعض الأعراف السيئة يُقال لك: (كيف تجرأت على أن تتطاول على عادات الآباء والأجداد؟!) هكذا هو حال وطننا العربي العجيب، أضحى هربي وليس عربي، فالكل يُريد أن يهرب بعيداً عنه ليشق طريقه في مجتمعات متحضرة، إسطوانات الهواء فيها مباحه ونسج خيوط الكلام فيها جائز.
أذكر أنه عندما جاء وقت إختيار جامعتي، لم يكن في جعبتي خيارات كثيرة سوى جامعات الدول المستقلة من (الإتحاد السوفيتي سابقاً) للدراسة فيها، وذلك لرخصها وضيق اليد أنذاك، فاستخرت وتوكلت على الله محاولاً الإندماج في مجتمعات أوروبا الشرقية، وعندما بدأنا الدراسة في السنوات الأولى وانخرطنا مع الطلبة الروس، وجدنا أنفسنا مكبلين في ذيل القافلة الحضارية، لا أدري لماذا كلما يبدأ النقاش في المحاضرة مع الأساتذة والمتخصصين، نصمت نحن العرب بحذر مراقبين كيفية نقاش الطلبة للأساتذة ولبعضهم البعض، وعندما يوجَّه سؤال لنا بالمشاركة … نجفل من الخوف، وتبدأ أطرافنا بالإرتعاش، ويغشانا الإرتباك فنتلعثم وننسى اللغة الروسية ولا نوفَّق بالإجابة.
هكذا هو حال العرب في البلاد الأجنبية، كنت أعود إلى شقتي الواقعة قرب الجامعة وأفكر ملياً لماذا يحدث هذا معنا؟ لماذا لا نستطيع الكلام والمشاركة بشكل فعَّال كحال باقي الطلبة؟ هل هو الخوف من الخطأ في اللغة؟ أم هو الخوف من ردود الفعل على المشاركة؟ أم هو الخوف من التعليقات وعدم إعجاب الآخرين بأجوبتنا التي قد لا توافق هوى ثقافتهم؟، فنحن العرب عباقرة في فنّ إرضاء الآخرين على حساب مبادئنا والتجاوز المستمر لفحوى المواضيع المطروحة.
صدقوني أنَّ خلاصة تساؤلي أسفرت عن أنَّ تقييد حرية التعبير وعدم إتاحة آباءنا لمناقشتنا وفرض آراءهم علينا دون أدنى مراعاة لما نُفكر فيه، كان هو السبب الرئيسي لذلك الخوف، أقول ذلك وأنا واثق تمام الثقة أنَّ الكثيرين ممن يقرأون كلامي يُشاركونني طرحي، ودليل ذلك أن شِـبَاك السلبيَّة إنفضَّت عن بيت كلامي وأطلق العنان لطيور أفكاري بالإنطلاق والإبداع بعد مرور بضع سنين على مخالطتي للمجتمع الروسي وتأثري بثقافتهم، أحمد الله ليلاً نهاراً أني لم أدرس في الجامعات العربية، يكفي ما عانيته في المدارس العربية، أذكر ذات يوم أني فُصلت تعسُفياً لمدة أسبوع بسبب مناقشتي لنائب مدير المدرسة الذي إعتبر هذا النقاش تجاوزاً لحدود الأدب بمفهومه الذي تربى عليه.
وتجد الإنصياع جلياً بين أتباع المذاهب الإسلامية وطلبة العلم الشرعي، إذ لا يستطيع التلميذ مناقشة فتوى واحدة بسبب العنف الفكري المُمارس في مجتمعاتنا العربية، تجده يُردد كلام شيخه كالبغبغاء دون فهم أو إقتناع، وعندما يتعرض للحرية في البلاد الأجنبية تجده ينحرف دون أدنى وازع، إلاَّ من رحم الله من أبناء الأمة الأصفياء، لو أنهم فقط سُمح لهم بالتكلم والنقاش والفهم لكانت قاعدتهم صلبة لا يستطيع دود الفساد نخرها، وهذا لا يتأتى إلا بحرية التعبير والتفكير، فكما أسلفت في إحدى مقالاتي السابقة أنَّ الحرية تصنع القادة، وهذا ما يُبرهن النقص الكبير الذي تعانيه الأمة في قادتها.
يدخل فتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رويَّ عن أبي إمامة الباهلي في السلسلة الصحيحة للألباني١/٧١٢، ويطلب منه أن يأذن له بالزنى بكل جرآءة، ويسترسل النبي بمناقشة الفتى ويُقنعه بأن هذه معصية عظيمة لا تُرضي الله ولا رسوله، كما أنه يأبى الشرفاء إرتكابها، فاقتنع الشاب ودعى له رسول الله بأن يُطهر الله قلبه من الزنا ويغفر له، ما أعظمك يا رسول الله، كم تنقصنا حكمتك في زمانٍ قلَّت فيه الحكمة، لو أن موقف هذا الشاب في زماننا لقُطع رأسه بدم بارد.
وختاماً، أشدُّ على أيدي أولياء الأمور أن يفرقوا ما بين جرأة أبناءهم على الخطأ، وبين ما أردت إيضاحه في مقالي من الجرأة الحقيقية على التعبير السليم والتفكير معاً، فأنا أعتقد جازماً أنَّ ذلك مفتاح النهضة والحضارة، فتكميم الأفواه وإرهاب المجتمع عن النطق بما يجول في خاطره لا يزيد الأمة إلاَّ إنحطاطاً.
بعد قرائتي للمقال … تفكرت قليلا في ما مررت به من مواقف خصوصا بعد تجربتي للدراسه في أمريكا، فعندما يطرح موضوع للنقاش اجد ابناء الدول الاوروبية مثلا يبدون رأيهم بكل اريحيه و اختلاف البعض معهم لا يشكل لهم تهديدا، بينما اجد نفسي حائرة بين ابداء رأيي والبحث عن رأي اقرب للسلميه، ان لم يتفق معه احد لا يختلف معه احد. هذا المقال جعلني حقا اعيد النظر في هذا الموضوع و أقيم نفسي من جديد .
استمتع بقراءة مقالاتك والتأمل في الأفكار التي تتضمنها،
شكرا لك
حياك الله أخي الكريم، سعيد حصولك على الفائدة.
شاكر مرورك ومشاركتك للقرَّاء خواطرك التي عشتها.
كل التوفيق
المشكلة تراكمية، بدأت لما اقصي الفهم واستبدل بالحفظ، ولما أقصى التفكير واكتفي بالنقل، فأتي جيل من المعلمين والمربين حفظ ولم يفهم، ونقل دونما تفكر، وقدّس ماليس بمقدس، وبالتالي متى ما وجد نفسه أمام مسألة تستوجب إعمال العقل، اكتشف أنه قد وقع في مشكلة لم يجرب حلاً لها في السابق، وبالتالي يلجأ لأساليب التسكيت والقمع والإقصاء..
خلال دراستي للماجستير مر بي الكثير من أعضاء هيئة التدريس السعوديين الذي حصلوا على شهاداتهم العليا من أمريكا، ورغم أنهم قضوا مالا يقل عن السبع سنوات هناك، مما يتيح لهم كسر الجمود العقلي الذي عاشوا به في واقعنا العربي، إلا أنه عندما يصل الأمر إلى الخلاف في وجهات النظر أو التفكير خارج الصندوق، يجد الطالب نفسه تحت النار، بسبب أنه خالف وجهة نظر أستاذه متعدد الثقافات!!
فأصبح الطالب المسكين يجد نفسه معرض للهجوم سواء من قبل أستاذه الذي درس في الخارج أو الآخر الذي لم يعتب عتبة بلاده!
مما يعني وجود عيب في تفكير البعض، والذي يعتقد أن مزيد من العلم والثقافة يعني مزيد من الإقصاء للرأي المخالف!! وكأنهم في رد فعل تجاه ما واجهوه في الماضي، لكنه رد فعل سلبي للغاية، حيث كرروا النموذج الإقصائي بشكل مختلف!
شكراً جزيلاً على المقال والخلاصة القيمة.. وفقك الله..
الحمدلله الذي وهب لي صديقاً للموقع أكاديمياً وذو خبرة طويلة في مجال المال والأعمال مثل الأخ “لؤي علي”، تعليقك اليوم مفيد جداً وذو قيمة عالية ويدل على مدى فهمك في هذا المجال.
أشكرك وأرجو الإستمرار في متابعتك، لأنك ستضفي فائدة متميزة على مقالات الموقع.
ان ديننا الحنيف هو دين العقل والمنطق والسؤال والنقاش سيزيد العاقل قناعة وحجة. من المحزن كيف نتعلم الخنوع والخوف من المواجهة الجريئة في السنين المبكرة من العمر وكيف تنتقل معنا الى اماكن أعمالنا. نخاف من المدير ورأيه دائما مقدس وهذا لن يؤدي الا الى الكوارث في القرارات وعدم التنوع الحميد فيها. المجتمعات المتحضرة تشجع على تنوع الرأي واجتماعاتهم التي يطلقون عليها Brain Storming Sessions هي خير دليل على ذلك. وينصحون بالابتعاد عن الوقوع فريسة ل Group Think حيث تتقارب الاراء كثيرا ولا يرون جميع الأوجه للموضوع بسلبياته وايجابياته.