منذ نشأتي وأنا أرغب بزيارة الولايات المتحدة الأمريكية للتعرف عليها عن قرب، فما سمعته عنها وشاهدته عبر وسائل الإعلام المرئية وغيرها جعلني شديد الرغبة في الحصول على رحلة لزيارتها إن لم يكن هجرة دائمة، فأمريكا الشمالية كانت ومازالت مُبتغى المواطن العربي وأرض أحلامه. وقد تحقق ذلك بالفعل في بداية شهر مايو من العام الحالي عندما إنتُدبت من قِـبَـل شركتي لحضور مؤتمر علمي خاص بالشركة الأم IBM، وقد قضيت في الولايات المتحدة 20 يوماً زرت فيها شمالها الشرقي وجنوبها الغربي للمدن التالية:
- مدينة لاس فيغاس في صحراء نيفادا حيث المؤتمر المُنعقد والمشهورة بالعروض الفنية الساحرة والفنادق الضخمة جداً، كما تُسمى مدينة الخطايا لكثرة نواديها الليلة وصالات القمار.
- مدينتي لوس أنجلوس وسانتا مونيكا في ولاية كاليفورنيا، أغنى وأغلى ولاية على الإطلاق، بل يقال أنَّ ميزانيتها تساوي ميزانية حكومات أوروبا مجتمعة.
- مدينة سيويل في ولاية نيوجيرسي، وهي مدينة سكنية حديثة كانت غابة وبنيت فيها الفلل والقصور.
- مدينة فيلاديلفيا في ولاية بنسيلفانيا، العاصمة الأولى للولايات المتحدة وبداية إنطلاقتها.
- مدينة منهاتن في ولاية نيويورك المدينة العريقة والمشهورة بأبراجها المبنية منذ أكثر من 100 عام، فهي أبراج حقيقية تتجاوز الـ 80 طابقاً … بالتأكيد ليست كالتي في بلداننا العربية حيث تجد كلمة برج مكتوب على مبنى لا يتجاوز العشرين طابقاً.
أمور كثيرة جداً لفتت إنتباهي وشغلت بالي لعلي لن أتمكن من حصرها كلها في مقال واحد، ولكن من أهم تلك الأمور هو أنَّ كل ما يُعرض على شاشات التلفاز صنيعة السينما الأمريكية مبالغ فيه لدرجة عدم الصحة، فالشعب الأمريكي مثله مثل غيره من شعوب الأرض الكادحة، له همومه ومشاكلة يجري وراء لقمة عيشه، فهو ليس كما يصور لنا في الأفلام السينمائية أنهم فاحشوا الثراء وكل شيء جميل ومنمق لا تشوبه شائبة، فعلى سبيل المثال أسفلت طرق المركبات في الولايات المتحدة سيئ جداً، بل يكاد يكون أسوأ من أسفلت طرق في أسوأ دولة عربية، الشيء الذي فاجأني فعلاً، فعامة الناس يعزون السبب إلى كثرة المركبات التي تعبر الطرقات كل يوم، بينما العقلاء يعزون السبب إلى الفساد الإداري في حكومات بعض الولايات، فالولايات المتحدة ما هي إلاَّ منطقة متواجدة على الكرة الأرضية، فهي ليست جنة الخلد ولا أرض الكمال، كما أنَّ الشعب الأمريكي أقل الشعوب أناقة في العالم، لا يكترث للباس والمظهر الحسن كالأوروبيين، وليست هذه الأمور التي تهمني، ولكن ما يهمني الأمور النفسية والإجتماعية والقانونية التي كانت سبباً رئيساً في نهضة ثقافة البلاد وتميِّـزها عن سائر البلدان رغم تعدد دياناتها وأعراقها، فمن لم يزر الولايات المتحدة لم يرى العالم بعد، وأنا شخصياً لم أتخيل ولو لحظة أن الولايات المتحدة الأمريكية تحوي في داخلها كل هذا الجمال والحرية والإستقرار النفسي والمهني والعلمي، فعندما تتنزه في شوارع أمريكا يخالجك شعور لطيف لا أستطيع وصفه، نوع من السكينة الهادئة سببها الحرية الحقيقية الصرفة، فأنت لا تقلق على محارمك مضايقات الشباب الطائش، لا أحد يكترث لأحد، لك كامل الحرية في فعل مل شئت وفي لبس ما شئت، فالحال ليس كما في بلداننا العربية لا يشغلنا سوى غيرنا، بينما في أمريكا الناس لديهم ما يشغلهم، لديهم إهتماماتهم ومشروعاتهم ومخططاتهم، وأمور الآخرين ليست من إختصاصهم ولا يكترثون لها، كما أنك لا تتعرض للتهميش لأنك لست من مواطني البلد، الجميع يبتسم في وجهك، وإن لم يبتسم الوجه فلطف كلامه الممزوج بالتحيات المتتالية والإطمئنان على حالك يكفي.
من الأمور الأخرى التي لفتت إنتباهي الفرق الكبير بين البيض والسود واللاتينيين، إذ أننا في الدول العربية نمتلك نفس الفئة تماماً ولكن تحت مسمى مختلف، فعندنا أسمهم الحَضَر والبدو والهنود، فمن المعروف أنَّ الحَضَر في بلداننا العربية أكثر تمدناً وأكثر نشاطاً، بينما تجد البدو أكثر تأخراً وخمولاً في العمل. كذلك في أمريكا، فالأبيض تجده أنشط وأكثر تفانياً في الخدمة، بينما تجد الأسود أكثر كسلاً وميلاً إلى الراحة، أما اللاتينيين فهم كالهنود في الخليج العربي، هذه مشاهداتي الخاصة ولك عزيزي القارئ أن تتفق معي أو تخالفني، ولكن إيَّاك أن تنعتني بالعنصري، فمبدئي في هذه الأمور هو مبدأ الله جلَّ في عُلاه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } الآية 13 سورة الحجرات، ورسوله الكريم: (( يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فيبلغ الشاهد الغائب )) الحديث 64469 السلسلة الصحيحة للألباني.
إذا نظرنا إلى نظام الولايات المتحدة والدول المتقدمة التي تساوي بين الآدميين على أرضها لتعجبنا أشد العجب، فعدد الأعراق التي شاهدتها في الولايات المتحدة يفوق التصور من روس، مكسيك، هنود، عرب، أفارقة، لاتينيِّين، سكوتلانديين، إرلنديين، إيطاليين، آسويين … إلخ، والشاهد هنا أنهم كلهم أمريكيين، وهذا نجاح منقطع النظير في إدارة الدولة، أما نحن العرب في الخليج العربي فنبقى أجانب في نظر المواطنين حتى ولو بعد 50 سنة من العمل الجاد والعطاء المتميز، وكما ذكرت في إحدى مقالاتي السابقة أنَّ الولايات المتحدة عدد سكانها يفوق عدد سكان الدول العربية مجتمعة، أي ما يزيد عن 300 مليون نسمة، أعراق مختلفة وديانات مختلفة ولهجات متعددة، بينما نحن العرب نفس العرق ونفس الدين ونفس اللغة ومع ذلك لم تنجح حكوماتنا العربية بتوحيدنا وإدارتنا على الإطلاق. كيف تسنَّى للغرب ذلك؟ ما هي معادلة النجاح عندهم؟ وما هي المبادئ الإدارية المستخدمة؟
بينما كنت جالساً في مطار « جون كندي » أنتظر إقلاع الطائرة، أخرجت جهاز الحاسوب وبدأت أمعن التفكير في سر نجاح الدولة الأمريكية وأخذت أسطِّر نقاط النجاح من فهمي الخاص، وشعرت أنَّ الله أذن لي بفهم وإدراك نقاط مهمة تُسهِّـل فهم المعادلة، والذي فاجئني بالفعل هو أنها معادلة سهلة جداً وغير معقدة جعلت من الولايات المتحدة رقم واحد في العالم، ومثيلاتها كذلك يستخدمون نفس المعادلة مثل كندا والمملكة المتحدة وفرنسا والسويد وغيرها من الدول المتقدمة، فملخص ما شاهدته هو أنَّ الولايات المتحدة لم تحكم العالم عبثاً أو بمحض الصدفة، بالتأكيد كان هنالك أسباب مهمة وأساسية جعلتهم يقودون العالم بدون منازع، ومن أهم هذه الأسباب:
- حق العيش مكفول لكل من يندرج تحت مسمى كائن حي، آدمي كان أو بهيمي.
- توكيل المسئولية لأهل الخبرة.
- لا يهم من تكون أو من أين أتيت حتى تكون مقبولاً.
- القانون يسري على الجميع ولا لمبدأ الإستثناءات.
- الشعور بالمسئولية والمصلحة العامة أولاً.
بينما لو نظرت إلى حال أمتنا العربية فستجدها تعاني الفشل تلو الفشل للأسباب التالية:
- حق العيش مكفول لأبناء العشيرة، ومن ثم أبناء الدولة، وإن تبقى شيء فيطول الأجانب منه نصيب.
- توكيل المسئولية لأهل الثقة.
- الحسب والنسب والأصل والفصل أساسيات القبول.
- قاعدة الإستثناءات هي القانون.
- المصلحة الخاصة أولاً واللا مبالاة هي الشعور السائد.
خمس بنود أساسية تحدد مصير أمة بأكملها، والله لن تنهض أمتنا ولن تصبح لها قيمة من دون هذه القواعد الخمسة حتى وإن دانت بدين الإسلام، فالإسلام وحده لا يكفي وأركان الإسلام وحدها لن تُعيننا على النهوض من جديد، والجهاد والقتل والتفجير لن يُعيد الأمة إلى نصابها، كثير من الدول العربية تستطيع أن تقود العالم لو طبقت هذه البنود الخمسة واستيعاب العقول العربية المهاجرة إلى الغرب لو تبنت برنامجاً نهضوياً حقيقياً، ولكنهم آثروا البداوة على الحَضَرية ورضوا بأن يكونوا سود الولايات المتحدة على أن يكونوا بيضها.
سأتناول في الأسبوع المقبل بإذن الله هذه البنود الخمسة بالتفصيل لأهميتها البالغة في نهضة الدولة والفكر العربي.
أشكر الأخ “رءوف شبايك” على تعليقه، والذي كتب تعليقاً اليوم للمرة الأولى في شبكتي، وأنا سعيد جداً بهذا الإهتمام والتعليق الذي يتطلب مني مقالات طويلة مطولة للإجابة عن مثل هذا التساؤل، وهذه هو أسلوب شبايك المميز … (لا تقل فقط ما هي المشكلة … ولكن قل لي أيضاً ما هو الحل! )، أسلوب جميل ونافع بكل تأكيد.
بإيجاز … نعم لابد من طريقة يتبنها الفرد العربي للوصول إلى إلى ما وصل إليه الغرب، فالمعادلها في شقها الأول تعتمد على الفرد وفي شقها الآخر تعتمد على الدولة، ولكن يجب التنويه إلى أنَّ الشق الذي يعتمد على الفرد أكبر وأثقل بكثير مقارنة مع الواجب والواقع على كاهل الدولة.
هذا ما ذكرته في نهاية مقالتي: “أما زلت تؤمن بالصدفة؟” والتي تلت “لم يحكموا العالم صدفة”، فقد حثثت الفرد بإدخل قواعد النهضة والحضارة إلى بيته وأن لا ينتظر الدولة بأن تبدأ بذلك … لأنها وبكل بساطة لم ولن تبادر أبداً.
أضف إلى ذلك أنَّ محور البنود الخمسة التي ذكرتها في مقالتي أو غيرها يكمن في كلمة واحدة … ألا وهي “المسئولية” … نعم المسئولية، فما يميِّز الغرب عن العرب هو الشعور بالمسئولية، والمسئولية المقصودة هنا ليست فقط توفير المأكل والمشرب والمسكن لأفراد العائلة … بل هي تتعدى كل ذلك بكثير، فهي تشمل نواحي الحياة العامة والخاصة كقيادة المركبة والتعامل مع المنزل والمجتمع والعمل على المصلحة العامة أولاً ومن ثم الخاصة وخلق روح المبادرة للشروع في الإصلاح وعدم إنتظار الدعوة، وتبني سياسة العطاء في العلم والمال وكل شيء بدلاً من سياسة الإستهلاك … الحديث يطول … يطول جداً، ومشكلة أمتي أنها إستهلاكية من الطراز الأول والإتكالية من العيار الثقيل، أنا أحياناً أشعر بإحباط شديد عندما لا أجد من أشاطره أفكاري، لإني وبكل بساطة لا أجد من يهتم لمثل هذه الأفكار، وقليل جداً ومن يفهما، ولكن أعلم أنه عاجلاً أم آجلاً ستنضج العقول العربية وستنعم أمتي بالحضارة، لا أدري متى وكيف … ولكن لابد لأمتي أن تنضج عما قريب.
لعلي سأخصص في المستقبل القريب إن شاء الله مقالات تشرح آليات النهضة الإنسانية من القاع إلى القمة.
أشكر أخي شبايك مرة أخرى على المبادرة بالتعليق وإشعال أفكار جديدة تنشط الفكر والحوار … لهذا نكتب!
لقد لمست وترا حساسا، لكن يا طيب، لم تقل لنا، ما الحل في رأيك، كيف نصل إلى ما وصولوا إليه، وكيف نصلح أنفسنا، من القاعدة لا من القمة!!
أخي الكريم طالب، جزاك الله خيراً على مشاركتك وأشكرك على تعليقك المهم، فالتعاون في إيضاح معاني مهمة أمر لا يمكن تجاهله.
بكل تأكيد أنَّ القواعد الخمسة موجودة في ديننا الإسلامي الحنيف ولا يختلف العقلاء على أنَّ الدين الإسلامي منظومة متكاملة من العدل والحضارة والرقي، ولكن كما تفضلت أنَّ المشكلة هي في عموم وخاص المسلمين … وليس في الدين، ومقولة الإمام « أحمد بن حنبل » المشهورة: ( أنَّ الدين لا يُقاس على الرجال، وإنما يُقاس الرجال على الدين ) خير دليل على ذلك، بمعنى آخر فشل إقامة العدالة في بلاد المسلمين لا تعنى بالضرورة فشل دولة الإسلام، فالمقصود المسلمين وليس الإسلام، فمن يعتقد أنه بأركان الدين فقط سيخلف الله في الأرض فقد أخطأ.
والنقاط الخمسة أخي طالب موجودة عند أمم لم يدينوا بدين الإسلام ولا حتى دين سماوي، دولة الإسلام ستزيد من العدالة عدالة، ولكن هذا لا يعني أنه لا يمكن إقامة تظام عادل بدونها، والدليل على ذلك أنَّ « النجاشي » كان حاكماً عادلاً قبل إسلامه، فالنفس البشرية تميل إلى النظام والعدل وهذا لا يحتاج بالضرورة إلى نظام إسلامي، ولكن الإسلام سيؤكد على النظام العادل ويحافظ عليه.
فالعدالة لا تحتاج منَّا إنتظار عودة الصحابة أو ظهور المهدي أو نزول عيسى بن مريم عليه السلام، هذا ما قصدته والله من وراء القصد.
كل التقدير لك استاذي. فقد أبدعت بالتعبير ووفقت في اختيار الاخبار والصور، فعلا الاعلام كان يصور لنا عكس ذلك.
أخي الكريم تعليقي على الجملة التالية:
(والله لن تنهض أمتنا ولن تصبح لها قيمة من دون هذه القواعد الخمسة حتى وإن دانت بدين الإسلام، فالإسلام وحده لا يكفي وأركان الإسلام وحدها لن تُعيننا على النهوض من جديد)
وددت أن أذكركم بأن دين الاسلام يشمل القواعد الخمسة المشار إليها. والأدلة من القران والسنة كثيرة لاأريد سردها خشية الاطالة. لكن لعلك كنت تقصد أن الغالبية العظمى للمنتسبين للاسلام اليوم لا يطبقون هذه القيم، ولا يعيرونها الاهتمام المطلوب، فهم ركزوا على جانب العبادات العملية ونسوا الجانب الاخلاقي والمعاملة الحسنة.
من أروع ما قرأت خاصة أنني كنت أنتظر عنوان المقال وجاء فوق التوقع، فعلاً لم يحكموا العالم صدفة.