هل يمكن للإبداع أن يكون صدفة؟ وإذا كان كذلك، فلماذا هذه الصدفة لا تأتي إلى بلداننا العربية؟ لماذا غيوم الإحباط والفشل هي وحدها التي تلبد سماءنا وتغرق أرضنا بمائها؟ قد يكون العَالِم وُجِدَ في مكان ما بالصدفة، ولحسن حظه أنَّ هذا المكان كان الإبداع فيه ليس صدفة، فأصبح المحظوظ نابغة، ولكن المهم هنا أنَّ البلاد التي نبغ فيها صدفة لم تكن البنية التحتية للإبداع قد وجدت فيها صدفة، فالعقل والمنطق ومن قبلهما القرآن الكريم جميعهم يُقرُّون أنه لا يوجد شيء جيد أو سيء بمحض الصدفة، فالدولة التي أبدعت وتميزت كانت قد اختارت أن يكون لها خطة عمل لتبلغ ذلك المَبلغ، أما التي فشلت ولم تحظى بالنجاح وبقيت عالة على العالم قد قامت هي الأخرى باختيار، ولكنه من نوع آخر، فقد كان اختيارها ألاَّ تخطط أبداً، وهو بحد ذاته تخطيط للفشل، فهي عاشت كما قال ابن الخطاب رضي الله عنه ( سبهللة )، قال رضي الله عنه: ( إني لأكره أن أرى أحدكم يمشي سبهللاً )، وسبهلله تعني عبثاً أو دون هدف.
ما علينا، المهم ألاَّ نخطط نحن الأفراد للفشل في بيوتنا، باتخاذ غرفة الجلوس مُصلاًّ والتلفاز قِبلَة، فنكون وقتها قد حكمنا على إبداعنا وإبداع أسَرِنا بالإعدام، { رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } الأعراف من الآية 47.
فاجأني صديقي العزيز « لؤي علي » بمعلومة عن العالم المتقدم نزلت علي كالصاعقة، فخلال حديث شيق دار بيننا عن الإبداع والتميز في مجال إدارة المال والأعمال، قال لي مصارحاً: ( عزيزي حسين، هل تعتقد أنه بحماسك وتفانيك في العمل، وشعورك المستمر بالمسؤولية، ورغبتك الدائمة في المبادرة أنك ستكون متميزاً لو عملت في شركة ما في كندا؟ ) قلت: ( بالتأكيد )، قال: ( أنت واهم )، قلت: ( لماذا؟! ) ، قال: ( إنَّ هذه الأمور التي تتمتع بها هنا في الوطن العربي وتحاول جاهداً حثَّ الجميع عليها، هي من المُسلَّمات هناك، بل تكاد أن تكون فطرية، ولا أحد يستغرب أنك مُبادر ومتفان في عملك لأن هذا هو الأصل، ولا تتوقع من أحد أن يشكرك على ذلك لأنه أمر بديهي … طبيعي كشرب الماء وتناول الطعام )، قلت: ( على رِسلك، إذاً ما الذي يدعو للإعجاب هناك؟ ) قال: ( يجب وبكل بساطة أن تكون فوق المتوقع – Outstanding – فوق التصور، هكذا فقط تستقطب أنظار مديريك إليك ).
هل علمت عزيزي القارئ لماذا يبدعون؟ كما أنَّ التفاني في العمل وروح المبادرة والشعور بالمسؤولية شيء طبيعي في الدول المتقدمة، فحافز مواطني تلك البلدان لتقديم المزيد أمر طبيعي كذلك، وكما أن الخمول والكسل والمحسوبيه وإيكال الأمور لغير أهلها أمر طبيعي في بلداننا العربية، فحافز المواطن العربي لتقديم المزيد والمزيد من الخمول والكسل والروتين الضار أمر طبيعي كذلك، ولن يأتي الإبداع إلى بلداننا ولن يقرب صوبنا ما دمنا نرى الرجل الصالح مبدع، والمبادر مبدع … بعبارة أخرى … ما دمنا نرى الأمور البديهية الطبيعية إبداع! فلن نرى أبداً الإبداع الحقيقي.
أتوقع أنه أصبح معلوم لدى الجميع الآن لماذا يبدع المواطن العربي عندما يهاجر إلى تلك البدان، لأنه وبكل بساطة اختلفت لديه معايير التقييم ومفاهيم النجاح، لاحظ معي النقاط والمعايير التالية:
-
النظام … ثقافة.
-
التخطيط … ثقافة.
-
الإنضباط … ثقافة.
-
روح المبادرة … ثقافة.
-
الأخلاق الحميدة … ثقافة.
-
التفاني في العمل … ثقافة.
-
الشعور بالمسؤولية … ثقافة.
وأعني بالثقافة هنا أي أنها جزء لا يتجزأ من المنظومة اليومية للحياة، أي أنَّ الصفات المذكورة ليست شيئاً يدعو للتميز، بل هي من نخاع الثقافة الغربية، أما نحن العرب فتصوراتنا عن الإبداع بسيطة، الإبداعات التي تصلنا عن طريق العرب كلها مترجمة، وخلايا الإبداع في أدمغة بني يعرب قد تلاشت منذ زمن بعيد، وكأننا أصبنا بزهايمر الإبداع، فقط نقلد … نترجم … نكرر … إلى متى؟ والسؤال المهم هنا: إذا لم يكن الآن فمتى؟ أنظر ماذا نمتلك من نِعَم الله علينا:
-
الدستور: القرآن.
-
المنهج: السنة النبوية.
-
المال: البترول، الغاز، المعادن، و الزراعة.
-
الخبرة: تاريخ حافل منذ ألف وأربعمائة سنة.
-
العمالة: 300 مليون عربي ومليار مسلم.
-
الجغرافيا: أفضل بقاع الأرض على الإطلاق، وأكثرها استقراراً واعتدالاً في كل شيء.
العرب عندهم كل هذه الموارد، وهم أذلُّ أهل الأرض وأوهنهم، ماذا سيحدث لو حرمنا الله إياها؟
أتساءل:
لعلنا لم ندرك أننا نملك كل تلك الموارد أصلاً؟
لعلنا لا نعلم كيف نستغل تلك الموارد بما فيها القرآن الكريم؟
لعلنا لا نريد ذلك؟
لعلنا أعجبنا الذل والتبعية؟
لعل الفوضى هي السبب ونحتاج لبلوغ درجة النظام؟
لماذا خططنا للفشل؟
لماذا حُرِمنا وحَرمنا أنفسنا من الإبداع؟
لمصلحة من يصب كل ذلك ومن المستفيد؟
ملاحظة: هذا المقال شارك في تسميته ومحتواه الأخ « لؤي علي »، فله مني جزيل الشكر.
رداً على تعليق ندى الفجر
لا تكترثي أختي ندى لمجتمعنا وكوني مبادرة وامضي قدماً، فمجتمعنا سقيم عليل يحتاج إلى علاج. كما لا أخفيك أنني من الناس الذين يتأذون باستمرار من أعين الحاسدين، يعني الذي يحسدني لا يلزمه التفوه بأي كلمة حتى يصبني بمقتل … فقط يكفيه أن يُضمر في نفسه الحسد ليجعلني طريح الفراش وعافانا وإياكي بالله. ولكن وبفضل الله لم أكترث ووجدت الحل في محافظتي على أوراد الصباح والمساء لأكثر من 10 سنوات، وكما قال ابن تيمية رحمه الله: ( من دونها لا تحملني قدماي ).
فقط ركزي على مسؤولياتك وأديها على أكمل وجه كما وصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتزلي الفاشلين وتوكلي على الله وستنجزي عن أمة بأكملها.
للأسف مجتمعنا يرفض الروح المبادرة التي تعمل بجد وأخلاص وتفاني .، وترى ذلك أمر شاذ توهم من يتصف به بأنه مختلف ..!
كيف لمجتمع وللأمة أن تنهض وهم يتصفون بتلك الصفات من الكسل والأهمال للأسف الشديد ..!
هناك من تنطفيء جذوة نشاطه ويخبيء ما يحمله من نشاط حتى لا يُحسد أو يُحارب ..! ويكتفي بأقل القليل .، والقّلة التي تجاهد وهي تحمل راية المباديء والقيم ليقينها بوصولها للهدف ..
شكراً لك ..
[ أنت جزء من منظومة المجتمع، سواء في البيت أو في العمل، والمسؤولية واقعة على عاتقك لا محالة، إذاً إفعلي ما عليكي فعله بشكل ممتاز لله وللمجتمع. ]
بالضبط.. شكراً جزيلاً للتوضيح..
رداً على تعليق ريم حسن
إياك أختي الكريمة أن تذهبي إلى الخيار الثاني (الإكتفاء بالحد الأدنى)، سيؤثر ذلك عليكي بشكل سلبي جداً.
بالتأكيد لابد من الإنطلاق قدماً وإبراز أفضل ما عندك، وإن لزم الأمر … غيري بيئة العمل، دائماً هنالك بيئة أفضل. واعلمي أنه لا مكان للبيئة المثالية في الوطن العربي، وهذه مسؤوليتنا لرفع مستوى البيئة التي نعمل فيها، فإذا عمل كل واحد منا بالحد الأدني .. لن ننهض أبداً ولن يرتقي معيار الجودة في بيئتنا العربية.
أنت جزء من منظومة المجتمع، سواء في البيت أو في العمل، والمسؤولية واقعة على عاتقك لا محالة، إذاً إفعلي ما عليكي فعله بشكل ممتاز لله وللمجتمع.
صحيح.. صحيح.. صحيح..
فعلاً لدينا ثقافة حياة كسولة مليئة بالإهمال، ربما تكون نتجت عن الظروف المحبطة التي مرت بها الأمة!
لكنها حتماً نتجت عن السلبية التي قوبلت بها هذه الظروف!!
وإلا لما أصبحت اليابان بهذا المستوى، بعد أن أصيبت بإحباط هيروشيما المرعب!
العيب هو في العقلية العربية.. لا ليس العقلية، إنما في تغييب هذه العقلية، لتمضي حياة الإنسان يحركها بعبث بمجاديف الكسل والإهمال، ويبقى بالتالي يدور في مكانه، مالم يتراجع للخلف!
سؤالي: في بيئة العمل التي لا تراعي الإبداع، بل تراه مدعاة لمزيد استغلال للشخص المبدع المتحمس .. يقع الموظف المبدع بين احتمالين:
١- أن يستمر على مستوى ابداعه، ويكون أكثر صرامة مع رئيسيه الذي ينظر له بمنظور استغلالي بحت.. < وهذه لها ضرائبها ..
٢- أن يتعمد إخفاء إبداعه في مجال العمل، ويوفره لمكان أخر! ويكتفي بالحد الأدنى من العمل< وبالتالي يعيش واقعاً لا يحبه، ويبدأ بالتعود على روح الكسل والإهمال!
هل من احتمالات أخرى؟ وطرق ليحافظ المبدع على نفسه في ظل هذا الوسط المُحبط؟
رداً على تعليق محمد بدوي
أرى أنك مازلت تفكر في الهروب 😉
بالطبع أنا لا انصح بالهروب، علاج المشكلة من جذورها هو الأصل وهو الخير بكل تأكيد.
لكن لابد من وقفة حقيقية تكشف الغطاء عن مشكلاتنا حتى نبدأ بالتغيير، وإلاَّ … فما الفائدة من كل ما نقرأ ونكتب، حتى تتمكن من تحديد الخلل، لابد من المقارنة مع من هم أفضل منك حتى تكتشف التقصير.
راقب كل كتابات المدونين والمواقع العربية، كلها ترجمات معتمدة على أدمغة الغرب 100%، إذاً الغرب أصبح الميزان الرئيسي لقياس الجودة ومرجعنا الأساسي للتطور.
أنا متأكد من أنك متفهم تماماً لنقدي المستمر للمجتمع العربي في كتاباتي، أتمنى لك كل الخير.
عزيزي لؤي و عزيزي حسين
عندما بدئت الاحساس في الالم بدئت في البحث عن العلة فوجدتها البيئة التي أعيش فيها فأول ما فكرت فيه هو الهرب منها , و الحمد لله أني لم أقم بذلك حتى الان
و لذا خفت أن نخسر شخصا مبدعا مثلك استاذي حسين
اتمنى التوفيق للجميع
رداً على تعليق محمد بدوي أخي محمد، الشكوى ليست عيب، فهي بداية التغيير، مع أني لم أكن أشكو، ولكني سلطت الضوء على حقيقة فهمنا للإبداع مقارنة مع الأطراف الأخرى في العالم.
رداً على تعليق فادي طعمه وأنت معنا إن شاء الله 😉
رداً على تعليق لؤي علي بالطبع أخي لؤي، إنها مأساة … ليس أقل من ذلك، ما فائدة البريد الإلكتروني إن كنت سأقوم بعمله … أو متابعته في كل مرة؟ يمكنك أن تتخيل الوقت الذي يضيع على ذلك.
رداً على تعليق محمد بدوي
أنا لم أراها شكوى وألم أخي العزيز محمد بدوي ولكني اراها اندهاش وتعجب بأن كل عوامل النجاح متوفرة في بلاد المسلمين سواء بأعدادنا أو بمواردنا ولكن لا نحظى الا بالقليل. حقيقة أنا كنت خائفاً من هجرتي العكسية الى بلاد المسلمين ولم أدري ما أتوقع من حيث متطلبات العمل فقال لي أحد الاخوة وهو خطى هذه الخطوة قبلي “بمجرد أن تعمل عُشر ما كنت تعمله في كندا ستتفوق”. للأسف أجد أن الجهد الذي أبذله هنا ليس بأقل من كندا بل أكثر ولكن معظمه يضيع في أمور لابد أن نكون قد اجتزناها منذ زمن. لماذا لا يكفي مثلاً أن أرسل بايميل الى موظف وأنا على قناعة أن العمل سيتم على خير وجه؟ هكذا فعلت عند وصولي وتفاجأت بأن العمل لا يتقدم ولا يُنجز. فلقيت لوماً أنني لم أتابع على ما أرسلت. فتفاجأت وسألت “وما المتابعة؟” قالوا أن أرسل الايميل ومن ثم أتصل هاتفياً لأتأكد من وصول الايميل وأؤكد على أهميته ومن ثم أذهب لزيارة الشخص على مكتبه ثم أكرر نفس الشيء مرة أخرى اذا لم يتم انجاز العمل. بالرغم من صعوبة هذا على منطق العمل الا أن الضربة القاضية كانت أنك ستتلقى اللوم اذا لم تتابع ولن يُلقى اللوم على الشخص الذي لم يتم عمله كما يجبب. يا له من جهد ضائع وسوء استخدام للتكنلوجيا مثل البريد الالكتروني. والذي زاد الطين بلة أن المنشئات العربية ما زالت لا تفقه فكرة العمل من المنزل والذي مارستُه في كندا مدة ثلاث أعوام مع أكبر شركة تكنولوجيا في العالم واستطعت انجاز الكثير وأن “أبدع” على الصعيدين المهني والشخصي.
لنحافظ على علو الهمة ونتخطى الصعاب. أنا متأكد من وجود أفراد طموحين مبدعين قادرين على التفيير أمثالك وأمثال الأخ محمد بدوي والأخ لؤي علي وغيركم انشاء الله كثير.
لعلي أراك تشكوا و تتألم و أتمنى أن أكون مخطئا
ولاتنسى قوله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون )