عصر ما بعد الذهب

|

حسين يونس

كلما تتبعت أحداث عصرنا الحالي، تيقنت من أننا نعيش اليوم عصراً فريداً من نوعه بكل المقاييس، سواء على المستوى السياسي أو المالي أو الإجتماعي، تغيير كبير وسريع – لم نعهده من قبل – لكل جوانب حياتنا اليومية، فلم تعد الوظيفة آمنة، وهاجس خسارتها هو الأمر الطبيعي الذي يُقلق الموظف كل يوم، وتغيير العمل كل بضع سنين بات الأمر الطبيعي، إما بسبب استغناء الشركات عن موظفيها لتوفير المال، أو بسبب إستقالة الموظف لإنشاء عمله الخاص.

كما لم يعد النفط ذا قيمة إذ – كما هو معلوم – أصبح أرخص من الماء، وباتت الدول التي تعتمد في إقتصادها على النفط مهددة بالعودة إلى العصر الحجري إذا لم تجد موارد أخرى يُعتمد عليها، ويبدو اليوم أنَّ أسطورة الذهب قد إنتهت ولم يعد له تلك القيمة الإستثمارية التي تستحق إنفاق الأموال الطائلة عليه كما كان الحال في العقود والقرون الماضية، كما أصبح من الصعب التعويل عليه في إستثمارات حقيقية يمكن لها أن تأتي بربح ملموس، وعوضاً عنه، الإستثمار في العقارات وأسهم الشركات والعملات الأجنبية مثل الدولار الأمريكي والجنية الإسترليني بات أفضل وأنجع. ففي عام ١٩٧١م قامت الولايات المتحدة الأمريكية خلال حكم الرئيس نيكسون بفك إرتباط الدولار الأمريكي بالذهب، وبقي الأمر كذلك حتى يومنا الحالي، لدرجة أنَّ الدولار الأمريكي أصبح ينافس الذهب والنفط في الإستثمار، وتحويل الأموال إليه من العملات الأخرى بات أكثر أماناً من الذهب، وفي بعض الأحيان أسرع وأكثر ربحاً، خصوصاً إذا كانت عملة بلدك غير مرتبطة بالدولار الأمريكي كما هو الحال في كندا، الأمر الذي يتيح المجال للأفراد بالمضاربة بتحويل المال من وإلى الدولار الأمريكي.

هل تعلم أنَّ كندا اليوم هي الدولة الوحيدة التي تمتلك أقل مخزون من الذهب من بين مجموعة الدول الصناعية السبع (G7)؟ فقد أوردت صحيفة هافينغتون بوست بنسختها الكندية خبراً عن مخزون كندا من الذهب، فقد باعت الحكومة الكندية كميات كبيرة من الذهب وصلت إلى ٢٢ ألف أونصة بقيمة ٣٥ مليون دولار، وبقي لديها فقط ٧٧ أونصة بقيمة ١٣٠ ألف دولار، فالحكومة الكندية باتت تعتقد بأنَّ الذهب لم يعد إستثماراً ناجحاً بعد اليوم، وتجميده في خزينة الدولة يكلفها الكثير من الأموال مقابل عائد إستثماري غير مجدي.

وقال المتحدث الرسمي بأنَّ الحكومة لديها سياسة طويلة الأمد لتنويع محفظتها الإستثمارية من خلال بيع السلع المادية – مثل الذهب – من أجل إستثمار عائده في أصول يتم تداولها بشكل أكثر سهولة.

طبعاً هذه الحقيقة التي توصلت إليها الحكومة الكندية تخالف كل ما تربينا عليه منذ الصغر من أنَّ الذهب هو الإستثمار الآمن، وكلما حصَّلنا الكثير منه، كلما رافقنا نوع من الأمان المادي في مستقبلنا، وقد يكون هذا الأمر صحيحاً ما دام هناك طلب على الذهب، ولكنه لم يعد مصدر إستثمار لتكاثر المال، إنما فقط مصدر لحفظ قيمة أصول مدخراتنا.

أذكر أني في عام ٢٠١١م ذهبت لشراء بعض الذهب في مدينة تورونتو لتخزينه من أجل مضاعفة المال بعد سنين، ولكن ما تفاجأت به هو نظرة المجتمع الكندي للذهب والتي هي مختلفة تماماً عن نظرتنا له في الشرق، فنحن العرب نرى أنه أصل المال، بحيث يتم إستبدال الخام منه بالمال من دون أية ضرائب، خصوصاً إذا لم يكن ذهب للزينة، ولكن في كندا يتم التعامل مع الذهب على أنه منتج (Product) كأي منتج إستهلاكي يخضع للضرائب، وعملية شراءه تخضع لرسوم إدارية كأي منتج آخر في البلاد، الأمر الذي جعل الإستثمار فيه غير ناجع على الإطلاق، فعندما قمت بحساب الضريبة والرسوم الإدارية وجدت أني سأخسر المال بدلاً من إستثماره، ناهيك عن الضريبة التي يجب عليك دفعها لحظة بيع الذهب، فإذا قمت ببيع الذهب بربح أياً كان، يخضع ذلك الربح لضريبة الدخل، ويتم تحديد نسبة الضريبة بناءاً على الدخل السنوي للفرد بحيث قد تصل إلى ٥٠٪ بالمائة.

وهذه الثقافة ليست حكراً على كندا، فقد علمت أنها أيضاً ثقافة الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية الضريبية، والشعب الكندي وغيره من الشعوب الغربية ليسوا مهووسين بشراء الذهب وتخزينه كما هو الحال في الشرق، فنساؤهم نادراً ما يلبسون الذهب، وإذا لبسنه أو إقتنينه يكون ذلك الذهب الفاتح اللون الذي يميل إلى لون الفضة، فالأصفر منه لم يعد يواكب الموضة الحديثة وهو أيضاً غالي الثمن، أضف إلى أنه لا توجد محلات بيع ذهب كثيرة في البلاد، ولا يوجد شيء إسمه (سوق الذهب)، وإذا أردت شراء أونصات من الذهب بشكل آمن للإستثمار، فيجب عليك التوجه إلى البنوك والمصارف المالية حتى لا تقع في عملية نصب تُخسرك الكثير من المال.

أعتقد أننا اليوم كأفراد يجب علينا تطوير فكرة الإستثمار بحيث تصبح حقيقية مواكبة للعصر الحديث الذي نعيش فيه، وهذه حقيقة من ضمن حقائق كثيرة تعلمتها من هجرتي إلى كندا، فمنجم الفيسبوك أو الجوجل بات أجدى نفعاً وأغلى ثمناً من منجم ذهب في شمال كندا أو جنوب أفريقيا !

أضف تعليق