لا شك أن الوضع الحالي الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط بات معقداً للغاية خصوصاً فيما يخص مستقبل الأردن الأمني، فما تشهده الحدود الأردنية الشرقية اليوم يُشكل خطراً لاحتمالية نشوب قتال طويل الأمد قد يمتد داخل الأراضي الأردنية لا يقل ضراوة عن القتال الدائر في سوريا والعراق. إحتمالية هذه المواجهة أعادت إلى الأذهان أحداث أيلول عام 1970م عندما دعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى إقامة سلطة وطنية في الأردن في عهد الملك الراحل الحسين بن طلال، الأمر الذي هدد الملكية الهاشمية أنذاك وأدى إلى مواجهات دامية مع الفصائل الفلسطينية إنتهت برحيلهم إلى لبنان، تاركين خلفهم رصيداً سلبياً مازال عالقاً بالأذهان حتى يومنا هذا.
داعش … أو الدولة الإسلامية كما أطلقت على نفسها جماعة البغدادي وانصاعت أغلب شبكات الإعلام العربية لهذه التسمية، باتت ملامح دولتها بالتشكل سريعاً على ما يبدو، خصوصاً بعد التقرير الذي بثَّته قناة (السي إن إن – CNN) الأمريكية للصحفي الألماني «يورغين تودنهوفر – Juergen Todenhoefer» بعد زيارته العميقة التي قام بها إلى داعش بصك أمان مختوم من الخليفة البغدادي يأذن له بموجبه بزيارة دار الخلافة وتفقد أروقة الدولة الممتدة على الأراضي العراقية السورية، وأكثر ما لفت إنتباهي في التقرير ما قاله الصحفي عن قدرة داعش:
هم واحد بالمائة فقط من العالم الإسلامي، ولكنهم يملكون قوة تدميرية مماثلة لتسونامي نووي، إنه أمر لا يُصدَّق وغير معقول، وما زلت مُندهشاً وغير قادر على التصديق!
شئنا أم أبينا … بتدبير أمريكي أو غير أمريكي، باتت داعش حقيقة على الأرض تهدد أمن المنطقة بالكامل، وكما قال الصحفي «عبدالباري عطوان» في إحدى مقالاته هذا العام:
الخوف على الأردن هو الأكبر، وداعش لا تحتاج فيزا لدخول المملكة!
في الأسبوع المنصرم زار الملك عبد الله الثاني البادية الجنوبية للأردن، إلتقى خلالها بشيوخ عشائرها، وخلال هذه الزيارة أبدى الملك صراحة قلق القيادة الهاشمية من إمكانية توسع داعش في جميع دول المنطقة، داعياً إلى تجنيد أبنائهم في الجيش العربي الأردني، مؤكداً أيضاً على أنَّ الأردن سيدعم عشائر الأنبار في العراق دعماً مفتوحاً لحماية المحافظة السُنيِّة من تدفق داعش، والتي تُعتبر آخر نقطة أمان للأردن قبل الإشتباك المُحتَمَل مع الجيش الأردني.
ما الخيارات المتاحة للأردن إذا ما سقطت محافظة الأنبار بيد داعش؟ في الحقيقة خيارات الأردن ضئيلة ومُرَّة، إذ من المتوقع أن تعرض إسرائيل خدماتها العسكرية على الأردن من أجل صد عدوان داعش، وطبعاً بالمقابل، ستضطر الأردن إلى دفع ثمن باهظ لإسرائيل التي لا تقدم شيئاً بالمجان! أو ستضطر الأردن إلى عقد هدنة مع داعش، الأمر الذي قد ترفضه داعش جملة وتفصيلاً، فلا يوجد أي مصلحة لداعش بعقد مثل هذه الهدنة مع دولة يعتريها الفقر والفساد من كل جانب، والذي ستستغله داعش لصالحها عندما تبدأ بترويج قدراتها المالية لمواطني الأردن وأنها قادرة على نشلهم من الفقر الذي يُعانون منه منذ عقود من خلال ضم الأردن لأراضي الخلافة ونشر خيرها النفطي في جميع أرجاء دولة الخلافة، ولا يُستبعد أبداً أن تلقى مثل هذه الدعاية رواجاً بين أوساط الشعب الأردني المُعدَم الذي يُشكل فقراؤه ما لا يقل عن 70% من مُجمل سكان الأردن … أي غالبية الشعب الأردني، أضف إلى أنَّ داعش ستروج أيضاً لقدراتها العسكرية في مواجهة إسرائيل وتحرير كامل التراب الفلسطيني المُحتل، وهذا الأمر أيضاً سيلقى رواجاً كبيراً بين أطياف الشعب الأردني المُحب لفلسطين من جهة، والذي يُعاني من استغلال إسرائيل لموارده من دون أي رادع من جهة أخرى.
لاحظ أنَّ داعش ستعتمد على تمددها في الأردن على العوامل التالية:
- القوة المادية: تُفيد بعض التقارير الإقتصادية أن ميزانية داعش تُقدَّر بحوالي ملياري دولار أمريكي من بيع نفط العراق وسوريا في السوق السوداء، كما أنَّ داعش ليست مُلزَمه بأية إتفاقيات مع البنك الدولي والدول العظمى لتسيير شؤونها المالية مما يُسهل عليها إنفاق المال من دون شروط.
- الدعم الشعبي: من أهم عوامل قوة داعش الولاء الشعبي الذي قد تحظى به داخل بعض الأقطار العربية، وقد شاهدنا خروج مسيرات في محافظة معان الأردنية تُحيي داعش وترفع راياته في وضح النهار، فلو افترضنا أنَّ بعض هؤلاء الموالين لهم فكرياً قد يتواجدون في محافظة المفرق الشرقية، فهذا سيُسهل سقوط الحدود العراقية الأردنية بأيدي داعش في وقت قياسي جداً!
- الخبرة القتالية: القدرات العسكرية التي يتمتع بها مقاتلي داعش لا تخفى على أحد، فمن أفغانستان إلى البوسنة والهرسك إلى الشيشان في مواجهة دول عظمى، واليوم في العراق وسوريا، كل هذه الأحداث شكلت فارقاً كبيراً بين قدراتهم وقدرات الجيوش العربية والتي لم تشهد قتالاً منذ عقود، فأعضاء هذا الكيان يتمتعون اليوم بقوة يشهد لها كبار الخبراء العسكريين في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي يزيد الضغط على الجيش العربي الأردني الذي خاض أكثر من حرب، لكنه ومع كل تعداده وعتاده لم يبلغ ما بلغه الجيش العراقي أو السوري من قوة، فالجيش العراقي … إنهار تماماً مع أول مواجهة برية ضد الأمريكان في بغداد عام ٢٠٠٣م، والجيش السوري لم يصمد في المناطق الشرقية والجنوبية أمام داعش وجبهة النصرة، رغم الدعم الكبير من إيران وروسيا والصين، ولا ننسى دعم مليشيات حزب الله في قتال الشوارع داخل سوريا، الشاهد أن الأردن لا يحظى بأيٍّ من هذه الميزات التي يحظى بها الجيش العلوي السوري اليوم رغم الدعم الأمريكي الظاهر للأردن، كما أنَّ الغرب عموماً لا يؤمن جانبهم على الإطلاق، ومن المُحتمل أن يتعاونوا مع داعش على حساب الأردن إن كانت لهم مصلحة، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
أنا شخصياً كنت من المشككين في قيام دولة داعش، لكن المستجدات على الأرض أثبتت غير ذلك، فدولتهم باتت واقع، ولا استبعد وجود سفراء لها وممثلين – غير رسميين – في كل من تركيا والعراق وروسيا والصين والولايات المتحدة وغيرها من الدول، وقد أعرب خبراء أمريكان أكثر من مرة عن إمكانية تفاوض الولايات المتحدة مع داعش كدولة ذات سيادة في الشرق الأوسط، الشيء الذي يُقلِّص فرص الأردن في النجاة من هذا المأزق الوشيك.
داعش إستراتيجياً أذكى مما نتخيل، فهم حالياً لن يتَّجهوا إلى دول الخليج وبالتحديد الحدود السعودية لشن أي هجوم، كما أنهم لن يقوموا بأي صدام مع الأنظمة الخليجية في الوقت الحالي لأن ذلك سيكلفهم الكثير، والقاعدة الشعبية المؤيدة لداعش داخل دول الشام قد تكون أكبر من القاعدة الشعبية المؤيدة لهم داخل دول الخليج لظروف عديدة من أهمها الفقر والفساد الذي تعاني منه دول بلاد الشام، الشيء الذي سيقصم ظهر الأردن، فقد أتى وقت حصاد عقود من الفساد أدت إلى فقر المواطن الأردني وإضاعة هيبته وكرامته بين شعوب العالم، هذا كله سيكون من مصلحة داعش في توسيع نفوذها في المنطقة الأردنية بدلاً من التوجه نحو الخليج لفتح جبهة ليست بالسهلة، ولا أستبعد إن تمكنت داعش من الأردن أن تتوقف عند حدود إسرائيل وعقد هدنة طويلة معها وتبادل سفراء دبلوماسيين. أعتقد أن هناك دوراً مهماً وكبيراً على دول الخليج في دعم صمود الأردن في مواجهة داعش، ولابد أن يحظى المُلك الهاشمي بدعم سخي لا يقل عن الدعم الخليجي للسيسي في مصر من أجل حماية منطقة الخليج العربي.
لقد بات واضحاً مدى قلق القيادة الهاشمية من المخاطر التي تعصف بأمن الأردن بسبب نفوذ داعش ونشوب حرب وشيكة معهم، الأمر الذي بات يعتمد على صمود عشائر الأنبار السُنِّية في مواجهة هذا التدفق، لكن كما ذكرت آنفاً خيارات الأردن محدودة ومُرَّة، إما تعاون عسكري مع إسرائيل ضد داعش، وقد يكون الخيار الوحيد اليوم لصد هذا التدفق، لكن عواقبه الداخلية وخيمة جداً في وقت يتزايد فيه الغضب الشعبي الأردني جرَّاء أفعال إسرائيل الأخيرة من قتل القاضي الأردني «رائد زعيتر» عند معبر جسر الملك حسين، واقتحامات المستوطنين المتتكررة للمسجد الأقصى في الآونة الأخيرة، أو هدنة مع داعش قد يرفضها الخليفة البغدادي الذي من المحتمل أن يُطالب الأردن بدفع الجزية للبقاء عليها آمنة ضمن مُلكه!
رغم صعوبة الموقف الأردني خلال هذا العام الذي شارف على الإنتهاء، إلاَّ أنه مازال ينتظر الأردن الكثير من التحديات خلال العام القادم، وقد تكون أمرُّ وأصعب من العام الحالي، الأمر الذي بدأ يُؤثر سلباً على الإستثمارات الأجنبية في الأردن، فالكثير أصبحوا لا يرون الأردن مكاناً مناسباً للإستثمار في هذه الظروف السياسية الصعبة، ويبقى الأمل في خلق حلول عملية غير التعاون العسكري مع إسرائيل، قد يكون إحداها … فتح سفارة لداعش في العاصمة الأردنية بجانب سفارة إسرائيل.
أشكرك حسين على هذا المقال الأكثر من رائع
كنتُ قد كتبت مقالا حول المواجهة مع داعش ، فأعطتني خالتي رابط المقال للإطلاع عليه
بالفعل طرحك في مكانه ، قد توافقت معك في كثير من النقاط ، أهمها أن الأردن أصبح في مرحلة حرجة قد تصل نهايتها إلى المواجهة المباشرة و الحرب البرية مع داعش ، و لكن إن لم يدخلها الأردن بارادته سيدخلها مرغما يوما ما
قد أضيف إلى الخيارين اللذين ذكرتهما خيارا ثالثا و هو التحالف مع الخليج تحالفا ليس دائما كالاتحاد االخليجي ، و إنما تحالف مؤقتا لخوض حرب برية مع داعش ، فكلاهما بدائرة خطر داعش ، و لكن الأردن هي أقرب لذلك الخطر كما قلت حسب القاعدة الشعبية لداعش في كلا المنطقتين
ثم حيث أن لكل حرب تحتاج إلى قوة إقتصادية و قوة عسكرية لتذكيها ، فالخليج يتمتع بالقوة الاقتصادية ، و الأردن يتمتع بالقوة العسكرية نسبيا مقارنة بدول الجوار .
و قد أعتقد أن هكذا تحالف قد يحقق لها مرادها بدحر داعش من جهة ، و يحفظ لها ماء وجهها أمام شعبيته الداخلية بدلا من التحالف مع اسرائيل
أشكر مرورك أخي عمر وطرحك المتميز كما عودتنا.
في الحقيقة أنا أعتقد أنَّ خيار التحالف مع إسرائيل اليوم بات مطروحاً في الغرف المغلقة، ولعله لم يعد خياراً للأردن .. بل أمراً واقعاً.
الدعم الخليجي موجود بلا شك، ولكنه سيقضي على الأردن كما قضى على العراق من قبله، فسيتم نفخ الأردن كما تم نفخ العراق سابقاً بأنه حارس البوابة الشمالية، ومن ثم حروب طاحنة لسنوات طولية مع إيران، وبعدها جرَّ العراق إلى فخ الكويت، ومن ثم القضاء عليه وتفتيته كما رأينا اليوم.
في حالة الأردن السيناريو قد يكون مشابهاً إلى حد كبير، ولا أعتقد أنَّ الأردن اليوم لديه الكثير من الخيارات، ويمكن إختصار ما آل إليه حال الأردن في مواجهته ضد داعش بكلمات معدودة كتبتها في مقالي الجديد:
ورطوك يا وطني
كل التوفيق
اللهم احمي أمن الأردن وأهله يارب ويبعد عنا الاستعمار والتقسيم يارب