بوابة السماء

|

حسين يونس

إنتزعت هذه اللحظات بصعوبة حتى أكتب لكم هذا المقال من قلب فلسطين، ففي هذه الأثناء التي أتجه فيها من مدينة حيفا الخرافية إلى مدينة عكا التي وصلتها من مدينة تل أبيب ويافا مروراً بمدينة هرتسليا ونتانيا والخضيرة، لا يزال عقلي يسترجع صور المدينة العتيقة التي غادرتها صباحاً على أمل ألاَّ يطول فراقنا حتى أعود إليها في المساء لأبيت في أكنافها كما يبيت الطفل في حضن أمه المقدَّسة، مدينة إلهية كأنها بُنيت في السماء لتسكنها الملائكة، ونزلت إلى الأرض رحمة بها وبركة، كنت أبحث منذ عقود عن نفسي الضائعة، واليوم وجدتها … نعم وجدتها في القدس … في موطني … في فلسطين.

لم يكن سهلاً علىَّ إستيعاب تلك المشاهد، فقد شعرت برغبة قوية لإيقاف الزمن لأستمتع بما يدور من حولي، ففلسطين كالأم التي أنجبت إناثاً كل واحدة أجمل من أختها، لأرى نوعاً جديداً من الجمال لم أعهده على الأرض، فتضاريسها ليست كأي تضاريس، وآثارها التاريخية ليست كغيرها، في فلسطين … تقرأ قصة أهل الأرض والسماء معاً، وترى ما لن تراه في أي مكان آخر، ونظامي العصبي وصل إلى أعلى درجات التوتر وأصبح لا يقوى على إستيعاب مجريات الأحداث السريعة جداً، وأصبحت لا أفهم الأسئلة التي تسقط على عقلي كالنيازك … أنا هنا أخيراً؟ كيف تمكنت منها؟ كيف أسير فيها آمناً؟ مَن هو هذا الذي سمح لي بدخولها؟ إنه عدوي المُغتصب … مَن هذا الذي جعلها بهذا الجمال؟ إنه أيضاً عدوي المُغتصب !! ماذا لو زالت دولتهم وعادت إلى العرب، هل سيكون بمقدورهم المحافظة على هذه اللوحة الإبداعية؟ إذا كان الجواب نعم … فلماذا إذاً لم يصنعوا مثلها فيما هو تحت سلطتهم؟ فعلى ما يبدو أنه من السهل على العرب إدعاء المقدرة، لكن من الصعب عليهم إثبات هذا الإدعاء إذا ما أتت إليهم الفرصة!

عندما دخلت مدينة القدس لأول مرة، إنتابني شعور غريب لم أشعر به من قبل، فلما رأيت مسجد قبة الصخرة من بعيد يُنير الأرض جمالاً وهيبة، شعرت أني أسير في السماء بعيداً عن الكرة الأرضية، ولم يستغرق الأمر كثيراً لأستوعب حجم الخيانة التي تعرَّضت لها هذه المدينة المقدَّسة طيلة هذه العقود، مَعالمٌ دخيلة وغير أصيلة منتشرة في أرجاءها شوَّهت منظرها وحضارتها، وبقيت وحيدة صامدة تحافظ على نفسها من غدر الزمان، لم أكن أتخيلها بهذا الجمال، فكل مَن فيها وحولها يستمد جماله منها في كل إطلالة صباح، وجمال أهلها قد أضاف إليها رونقاً إستثنائياً لتختفي من ذاكرتي عشرات المدن العالمية التي كنت أعدَّها جميلة، ليصبح للجمال مفهوماً جديداً بدأت اليوم في تعلُّم أبجدياته.

وعلى الرغم من إدراكي التام بجواز زيارة هذه الدرة المفقودة وهي قابعة تحت الإحتلال، إلاَّ أني مازلت لا أفهم … لماذا هناك مَن يُصرُّ على تحريم تلك الزيارة؟ ما الذي يخشون منه؟ هل فعلاً يخشون على شعوبهم من التطبيع والإنصهار في أحضان العدو؟ كان أولى بهم الخوف على فلسطين منه، أم أنهم يخشون من أن تكتشف شعوبهم مدى قبح خيانتهم؟ أم أنهم يخشون من إحتمالية توسل شعوبهم لإسرائيل كي تحتل بلدانهم العربية كما إحتلَّت فلسطين … علَّهم يرون الحضارة في أرضهم ولو لمرة واحدة دون الحاجة إلى الهجرة بعيداً؟ سؤال مهم لم أجد له جواباً شافياً، ولكن الوقت وحده كفيل بالكشف عنه.

مازال في جعبتي الكثير لأرويه، ولكن ليس لدي ما يكفي من الوقت في الكتابة لأقضيه، وكل ما يسعني قوله اليوم أني سعيد جداً لأَنِّي رأيت فلسطين جميلة، ولكنني حزين جداً لأنَّ هذا الجمال لم يكن من صنع أيدينا … وللحديث بقية.

رأي واحد حول “بوابة السماء”

أضف تعليق