مع آخر خيوط الغروب الرمضاني، حيث تترقرق أنفاس الليل الأولى، انقضى أجل وثاق إبليس. شهراً كاملاً قضاه مُصفَّداً، مُنْزَعاً من سلطانه، ليُطلَقَ سراحه الآن، يتنفس عبير الحرية المُرَّة، ويستعد لنسج خيوط فتنته من جديد.
ببطءٍ مُمِضٍ وهدوءٍ يشوبه إنهاك الأسر، طقطق مفاصله التي كلَّلها الصدأ، وفرك رسغيه المثقلين بآثار الأغلال، نفض عن ردائه البالي غبار السجن المؤقت. رفع عينيه المتورمتين من عتمة الأسر، فامتد بصره ليشمل أتباعه الذين اكتظ بهم الأفق، عيونهم مُعلَّقة بانتظار أوامره كالجَمرٌ المتّقدٌ، ترقب خططه الشيطانية القادمة. نظر إليهم بوهن، شبح تعبٍ عميق يخيم على ملامحه الذابلة، وقرناه اللذان كانا يوماً رمزاً لجبروته شاحبان يشهدان على ضعفه.
بصوت أجش، مهموس بالكاد يُسمع، طلب سيجارة. امتدت يد أحدهم بلفافة تبدو مُعدَّة خصيصاً لهذه اللحظة. حكَّها إبليس بظهر تابعٍ آخر فاشتعلت، وارتشف نفساً عميقاً ابتلع نصفها في زفير واحد. ثم قال بفتور: (لا يُمكن للخطط أن تُحاك في فراغ. أريد تقريراً شاملاً عن أحداث الأرض خلال فترة غيابي، ثم أوافيكم بما يلزم).
في لمح البصر، تجسد التقرير أمامه على شاشة مهيبة، تمتد آلاف الأمتار في صفاء السماء، تُحيي الأحداث بأبعادٍ تأسر الحواس، كأن المرء يعيشها لا يراها، لوحة كونية لم يرَ البشر لها مثيلاً.
بدأ العرض. استعراض للكوارث الطبيعية: جفاف يقضم الأخضر، فيضانات تغرق اليابس، براكين تثور بحممها، زلازل تمزق الأرض، حرائق تلتهم الغابات، أمراض وأوبئة تحصد الأرواح. لم يبدِ إبليس اهتماماً، فأشار إلى مساعده بتسريع العرض.
انتقلت الصور بسرعة إلى قضايا اجتماعية: فساد ينخر الضمائر، سرقات تستبيح الحقوق، عنصرية تزرع البغضاء، قتل يزهق الأرواح، إجرام يعيث فساداً، زنا يدنس الأعراض، طلاق يشتت الأسر، عقوق يكسر القلوب، رِدَّة عن التوحيد وكفر بالله. هنا، لمعت عيناه ببريق خافت ممزوجٍ بإعجابٍ خفيٍّ، بدا وكأنَّ البشر قد سبقوه إلى ما كان يُخطط له.
ثم توالت المشاهد السياسية: إرهاب يروع الآمنين، انقلابات عسكرية تُسقط عروشاً وتعصف بالاستقرار، غسيل أموال يُدنِّس الأيادي ويُلوِّث الاقتصاد، قادة دول متواطئون، مجالس نيابية متآمرة، منظمات عالمية فاسدة، حروب ضروس تُطيح بالأرواح، مجازر مروعة تُغرق الدم في الدم، إبادة جماعية تُنكر الإنسانية، تطهير عرقي، جثث تتطاير في السماء، قبور جماعية تبتلع الأحياء قبل الأموات، تشريد يُبدِّد الأحلام، ولجوء يمزق النسيج الإنساني ويُحيل البشر ظلالًا بلا وطن.
فجأة، رفع إبليس يده آمراً بإيقاف العرض. امتعض وجهه وفي عينيه وميضٌ من خيبة، قال بنبرة خافتة: (يبدو أنَّ الأرض قد استغنت عنَّا).
تساءل أتباعه بذهول: (ما الذي دعاك إلى هذا الاعتقاد يا سيدنا؟)
أجابهم بأسى: (ألم تروا كمّ الإجرام والفساد الذي ارتكبوه في غيابي وفي فترة وجيزة كهذه؟ إنها تفوق كل ما خطَّطت له)، نظروا إليه باستغراب ودهشة. فأكمل قائلاً: (أكثر ما يُحزنني ليس الشر ذاته، بل غباء البشر الذين ما زالوا يرونني أصل كل بلاء. والله يعلم أنَّ كل ما فعلته كان مُجرَّد وسوسةً لا أكثر).
سأله أحدهم: (وما أكثر شيء أدهشك في كل ما رأيت؟)
أجاب إبليس وعلى شفتيه ابتسامةٌ ساخرة: (ليس الجريمة نفسها ما أدهشني، بل الصمت المطبق الذي أعقبها. هذا إنجاز لم أشهد له مثيلاً منذ خلقة أبيهم آدم).
ثم استدار نحو القبلة، ورفع يديه إلى السماء، وقال بصوتٍ يمزج الخضوع باليأس: (ربي، أنت ترى كل ما يجري ولا يَخفى عليك شيء وأنت علاَّم الغيوب. ربي، أبرأ إليك من شياطين الإنس الذين فاقوا مهارتي وتفوَّقوا على أتباعي، حتى أصبحنا لا طاقة لنا بهم، فلا تؤاخذنا بما فعلوا).