أنا لست متديناً

|

حسين يونس

مازال (كلوب هاوس – Clubhouse) يكشف لنا خبايا المرحلة التي تمر بها أمتنا العربية من عيوب وميزات، تحديات وفرص، ازدهار وانحطاط. وعلى الرغم من أن وتيرة تواجدي على تلك المنصة أصبح يقل رويداً رويداً بسبب كثرة الأشغال وقلة الوقت، إلاَّ أني أصبحت أحرص على الاستماع أكثر من التحدُّث، وأن أنتقي الغرف التي أقضي وقتي فيها.

لقد وجدت في الاستماع فرصة ذهبية لفهم ثقافة المجتمع وتناقضاته المتراكمة التي خلَّفتها الديكتاتورية من جهة، والجهل من جهة أخرى، وفوق كل هذا.. رغبة جامحة للظهور وإرضاء الآخر أكثر من إرضاء الذات!

في كل يوم أدخل هناك أجد نمطاً عاماً للخطاب الذي يستهوي الجموع.. البساطة التي تميل إلى التخدير، فعمق الأفكار يُنفِّر الحضور ويجعلهم مُضطرين إما لتشغيل عقولهم للتفكير أو اكتشاف عيوبهم التي لا يرغبون في اكتشافها، فلا يوجد أجمل من المجاملات وطيب الكلام وبشاشة الوجه من دون مُنغصات، الأمر الذي سيُبقينا على السطح نخشى الغوص إلى ما هو عميق.

بل حتى أني فهمت كيف يقفز الناس إلى القمَّة وكيف أنَّ أعداد المتابعين التي يحظى بها شخص ما.. تجعله يتصدر ضيافة الغرفة التي يتواجد فيها حتى وإن جهله أصحابها، فكثرة الأعداد وجاهة، واستضافته في صدر الغرفة سيُضفي عليها وزناً وهيبة ويزيد من أعداد المستمعين، وهذا كله طبيعي جداً ولا يقتصر فقط على أمة العرب، فالعجم أيضاً يمرُّون بنفس الأمر وهذا شيء بشري.

لكن ما لفت انتباهي مؤخراً، هو تباهي الكثير من المسلمين بأنهم ليسوا مُتدينين، يقولونها بنبرة فخر كإنجاز علمي يُضاف إلى سيرتهم الذاتية، أو كإنجاز حضاري يرفع من شأنهم اجتماعياً، (فالأديان باتت سلسلة تَجرُّ البشر إلى قاع الحضارة) يقول أحدهم، (الأخلاق ليست حكراً على الأديان، ويمكن التحلي بأسمى الأخلاق من دون الحاجة إلى الأديان) يقول آخر.

عندما أسمع مثل هذا الكلام أفهم شيئاً مهماً.. أنَّ الناس لا يفهمون ماهية الأديان وسبب وجودها، فهي بلا شك تحثُّ على الأخلاق وتُتَمِّم مكارمها، إلاَّ أنَّ مهمتها الحقيقية ليست محصورة في الأخلاق.. إنما الدعوة إلى توحيد الإله الخالق وعبادته، وقد لا يكون الإسلام مهماً في وقتنا الحالي لنهضة الشعوب أخلاقياً – كما يرى البعض – لأنَّ المنظومة الإنسانية المعاصرة في دول العالم الأول تتمتع بأخلاق سامية لدرجة جعلتهم يتخلون عن الأديان، حتى وإن اعترى تلك المنظومات نقص أو خلل، إلاَّ أنها بالعموم أثبتت نجاعتها وقدرتها على عبور مرحلة الدنيا بأمان، وهذا أمر لا ينتقص من الديانات السماوية في شيء، لأنَّ مهمتها الحقيقة ليست الأخلاق فقط، إنما توحيد الخالق كما ذكرنا آنفاً، والأخلاق هي ثقافة متطورة عبر الأزمان، إلاَّ أنَّ التوحيد ثابت كثبات الجبال لا يتغير ولا يتبدَّل.

لكن السؤال المهم الذي كلما سألته لأحد.. لا أجد له جواباً: ماذا عن مرحلة ما بعد الحياة؟ هل المنظومة الأخلاقية المعاصرة قادرة أن تَعبر بنا تلك المرحلة الصعبة والطويلة جداً؟

إن كنت عزيزي القارئ من أتباع الديانات السماوية، فبالتأكيد أنك مؤمنٌ بوجود حياة بعد الموت ومؤمن بيوم الحساب.. فإما جنَّة وإما نار، وإن أنكرتها.. فلا حظ لك في أيٍّ من تلك الديانات (وأخص الإسلام بالذكر) حتى وإن بقيت تُردد أبد الدهر أنك مؤمن بها، فالإيمان يجب أن يكون كاملاً غير منقوص، حتى وإن كنت عالي الأخلاق، بشوش الوجه وطيب القلب، فقوانين الآخرة التي وضعها الله ثابتة لكل الأنبياء وأساسها التوحيد، فهي ليست مَتجَراً (Shopping Store) ننتقي منه ما يُناسب مقاساتنا ونترك منه ما لا يناسبنا، بل الانصياع والاستسلام التام خصوصاً لما هو ثابت لا خلاف عليه كعقيدة التوحيد، واستثني هنا الاختلافات الفقهية التي فيها سعة وفيها آراء مختلفة.

منذ أيام كنت في إحدى الغرف التي تتكلم عن العيب والحرام والأذى الذي ألحقته تلك الكلمات في مجتمعاتنا، طبعاً النقاش كان مفتوحاً والناس كانوا يتكلمون وفقاً لما يعتقدون، إلاَّ أنَّ أحدهم قال (أنا لست متديناً، ولكن أحمد الله على وجود الإسلام في بلدي)، وأسهب يشرح لنا فكرته وأنَّ الناس في وطنه مُنعدمو الأخلاق لا يتقيدون بنظام ولا يحترمون الشأن العام، ولولا اعتناقهم الإسلام.. لتحوَّلوا إلى حيوانات مفترسة تأكل بعضها بعضاً. وتساءل (لا أدري كيف سيكون حال البلد إن لم يكن للإسلام وجود في حياتهم؟).

طبعاً أنا مُتفهِّم للمنطق الذي انطلق منه الرجل في حديثه، لكن ما لا أفهمه.. أنه خلال كلامه كان ينفي أي فضل للإسلام كدين في الارتقاء بأخلاق مُعتنقيه، وبقي يكرر أنَّ الأخلاق غير مرتبطة بدين (أنظروا إلى الغرب.. يتمتعون بأخلاق عظيمة وهم لا يؤمنون بأي دين!) هكذا ختم كلامه المتناقض!

المشكلة التي يقع فيها هؤلاء الناس أنهم يعجزون عن رؤية الصورة الكاملة، فقط يرون جزءاً من منها ويتعامون عن الجزء الأهم فيها، وعلى الرغم من أنه خلال حديثه قد نسب الفضل للإسلام بعدم تحوُّل وطنه إلى حظيرة حيوانات، إلاَّ أنه في نفس الوقت يريد التخلُّص من هذا الدين لأنَّ هنالك شعوباً أخرى قد تمكَّنت من بلوغ قمة الأخلاق من دون الحاجة إليه أو لغيره من الأديان.

لو سلَّمنا – فرضاً – بصحة وجهة نظره من أنه يمكننا فعلاً الاستغناء عن الأديان في إدارة شؤون حياتنا الدنيا، فما عسانا فاعلون في حياتنا الآخرة؟ كيف لنا أن نتجهَّز لها من خلال الأخلاق الحميدة البعيدة عن عقيدة التوحيد؟!

عندما تسأل هذه الأسئلة بكل وضوح وشفافية، تنكشف الخبايا والنوايا ما بين جاهل وغافل، وترى أمامك وجوه تائهة وعقول مُسطَّحة لا تقوى على الرد ولا تدري كيف تُكمل الحوار، وأكثر الأجوبة شيوعاً على تلك الأسئلة (أنا على يقين من أنَّ الله سيدخلنا الجنة لأنه رحيم)، عندما تسمع هذا الجواب.. اعلم مباشرة أنك تخاطب أناساً لا يفهمون أياً من الكلام الذي يتفوهون به، وهو جواب أسوأ من كل الكلام الذي سبق، ولم يزد الطين إلاَّ بلّة.

الإيمان برحمة الله دون توحيده وتعظيمه وتوقيره لن يُدخلك الجنَّة ولن يضمن لك نيل رحمة الخالق، الإيمان بالله يجب أن يكون إيماناً متكاملاً لا يعتريه خلل أو نقص، إيمان شامل مُتسق من دون أن تخجل من إظهاره والإشارة إليه، فقولك (أنا لست متديناً) هو إهانة لله ودينه الذي أمرك باتباعه وإظهاره على رؤوس الخلائق قبل أن يكون إهانة لك، فالله سبحانه قوي يحب القوي، ولا يحب الوهن لدينه وعباده، لأنَّ الضعف عدوى تنتشر في أرجاء المجتمع كانتشار النار في الهشيم، الأمر الذي رأيته جلياً في (كلوب هاوس) من المسلمين الذين ينشرون فكرة (أنا لست متديناً).

السؤال المهم، القائلون بهذه الجملة.. لماذا يرددونها في كل مناسبة ومجلس؟ في الحقيقة هم يريدون إرضاء فئة ما، يريدون أن يُثبتوا لهم أنهم (Cool) وحضاريون حتى يكونوا مقبولين! وكان أولى بهم أن يكونوا مقبولين عند الذي خلقهم جميعاً.

كلمة أخيرة، من الجدير بالذكر أنَّ جملة (أنا لست متديناً) مشهورة في دول أوروبا وأمريكا الشمالية، ومن الشائع جداً أن تسمعها هناك، واليوم باتت منتشرة بين المسلمين مع الأسف الشديد، ومعناها (أنا لست مؤمناً ولا مُلتزماً بدين مُعيَّن) وإن قالها المسلم.. فكأنه يقول (أنا لست مؤمناً بدين الإسلام ولست مُلتزماً بوحدانية الله وشريعته) بمعنى آخر.. هو ليس مؤمناً بذلك الإله الذي ينتظر أن يرحمه في الآخرة!

هل رأيتم (تناقضاً عقائدياً) و (تسطيحاً فكرياً) و (شيزوفرنيا إيمانية) أكثر من ذلك؟!

رأيان حول “أنا لست متديناً”

  1. لا حول و لا قوة الا بالله فعلا اصبحنا نعيش في زمن القابض على دينه كالقابض على جمرة من النار لأنه باتت بديهيات الدين الاسلامي لا توجد في كل شخص مؤمن بالله و اليوم الاخر … بصراحة اصبحنا نعيش في وضع مرعب حقا و نحن نعيش في صدر ثقافة الدول الاسلامية العربية و منبع الدين الاسلامي الذي كان السبب الاساسي في تطور الأمة العربية و الحضارة الاسلامية و مرجع نجاح اغلب حضارات الدول المتطورة او دول العالم الاول لكن السؤال الذي حقا اصبح عندي.هاجس كل يوم اطرحه في نفسي هو انه اذا كنا نحن اصحاب ال subnormal في الدين مقارنة للمجتهدين و اصحاب العلم الراسخ الذي لا يموت (رجال الدين و العلماء) نخاف على ابنائنا و ذرياتنا الباقية في زمن شاعت فيه الفتن في بؤر الدين الاسلامي ؟ كيف لهم ان يواجهوا هذا الجهاد الجد صعب و المكلل بالمخاطر و المتاهات الالكترونية و الثورات الصناعية الغير مشهودة منذ وطأت اول رجل …. فعلا قضية الوحيد و التدين اصبح لنا هوس غير طبيعي بالرغم من اننا نعلم أنه لازال الخير في امة محمد حتى الساعة لكننا اصبحنا لا نستطيع مع الاسف التفريق بين الخير الصافي و المغلوط و المدلس … نسأل الله العفو و العافية و ان يقينا من فتن آخر الزمان

    رد
  2. اتفق معك تماما. الرسول صلى الله عليه وسلم قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. اذا كانت الأخلاق هي الهدف الأساسي فلماذا بعث النبي؟!! لا شك انه الأخلاق مهمه و لها تأثير كبير على صلاح الدنيا و صلاح الدنيا من صلاح الاخره. لكن الأساس في الإسلام الإيمان و العباده الاثنان مرتبطان ببعضهما البعض. فصل العمل بالأخلاق الحميده عن الدين هو فصل الغايه عن الوسيله. الغايه هي عباده الله وحده و توحيده هذا المفهوم اذا اختفى أصبح من الاسهل التحكم بعقل الشخص و زرع مفاهيم مغلوطه و تحريف مفهوم الخلق الحميد بما يتناسب مع نزاعات الإنسان و رغبات الانسان الخاصه. مثل مفهوم حقوق الانسان و تقبل الآخرين المفهوم توسع ليشمل فئات مثل المثليين و المنحرفين.. انا مت الأشخاص الذين وقعوا في هذا الخطأ سابقا (انا لست متدينا) لا يا خي انا متدينه و ملتزمه ان شاء الله.

    رد

أضف تعليق