نستمر ونكمل اليوم بإذن الله ما بدأناه في إدارة التفاوض، والتقنية السادسة من تقنيات إدارة التفاوض: ( شخص طيب / شخص شرير ) والتي تعتبر من أفضل تقنيات إدارة التفاوض ومناوراته، وأول من كتب عن هذه التقنية هو الكاتب والروائي الإنجليزي ” تشارلز ديكينز 1812 – 1870م” في روايته الشهيرة ” توقعات كبيرة “.
في المشهد الإفتتاحي للرواية، يكون الشاب بطل الرواية في المقبرة عندما يخرج عليه من بين الضباب رجل شرير كبير الحجم … مرعب جداً، هذا الرجل سجين ومُدان بجريمة، وقد كانت السلاسل تقيد قدماه. طلب السجين من الشاب أن يذهب إلى القرية ويأتي له بطعام ومِبرَد حتى يتمكن من إزالة السلاسل. لقد كان السجين في معضلة، ولكنه أراد أن يُخيف الشاب ليستجيب إلى طلبه، وبالمقابل يجب على السجين أن لا يضع كثيراً من الضغوط على الشاب حتى لا يتجمد في مكانه من الخوف، أو ينطلق كالسهم ليبلغ شرطة البلدة.
الحلّ لمشكلة السجين هو إستخدام حيلة ( شخص طيب / شخص شرير )، فقال السجين ليؤثر على الشاب: ” في الحقيقة أنت تروق لي، وإستحالة أن أقوم بأي عمل يؤذيك، ولكن يجب أن أقول لك أنه خلف هذا الضباب يوجد صديق لي ينتظر، ومن الممكن أن يكون شريراً ومؤذياً، وأنا وحدي من يستطيع التصدي له والتحكم به، فإذا لم تساعدني لكي أتحرر من هذه السلاسل، فمن الممكن أن يقوم صديقي بمطاردتك، لذلك يجب عليك مساعدتي، هل أنت تفهمني؟ ” ( شخص طيب / شخص شرير ) حيلة أكثر من رائعة لوضع العبء على الطرف الآخر وبدون مواجهة أو عداوة.
أنا متأكد عزيزي القارئ من أنك قد شاهدت مثل تلك الحيل في أفلام هوليود البوليسية، مذنب يؤتى به إلى قسم الشرطة، ويقوم الشرطي الأول بإستجوابه بإنتظام وبكل خشونة وقساوة مع نظرات وضيعة وحاقدة، كما تتوالى التهديدات على المتهم بما سيلحقه من عقوبات إذا لم يُقر ويعترف، ومن ثم ينسحب الشرطي الأول من غرفة التحقيق بسبب هاتف جاءه، وبعدها وبثوان معدودة، يأتي الشرطي الثاني اللطيف وبكل رقة يعرض على المتهم سيجارة وكوب من القهوة، مع نظرات رحيمة يجالسه، ويصبح الحديث شيقاً وكأن المتهم صديق قديم للشرطي ويقول له: ” إسمع يا صديقي، ليس الأمر بهذا السوء الذي تراه، أنا أعلم القيود التي عليك، ولكنك تروق لي، لماذا لا تدعني أساعدك؟ “.
إنه إغراء حقيقي عندما تعتقد أن الـ ( الشخص الطيب ) يقف إلى جانبك، والحقيقة بطبيعة الحال عكس ذلك تماماً، وبعد ذلك يمضي الشرطي اللطيف قُدماً ليقترب أكثر من النقاط الصغيرة كما يُعرِّفها رجال المبيعات ( Minor Points Close ) ويقول: ” كل ما يريد زميلي الشرطي معرفته هو المكان الذي إبتعت منه السلاح؟ ” أو ” أين خبأت الجثة؟ “، يبدأ بنقاط صغيرة ومن ثم ينطلق إلى ما هو أكبر منها، طريقة رائعة … أليس كذلك؟
أنظر كيف تعمل هذه التقنية في عالم المبيعات، بائع مركبات يخاطب زبون محتمل لم يقرر الشراء بعد: ” سيدي، إذا إقتنيت هذه المركبة، ما سيكون لونها … الأزرق أم الرمادي؟ ” أو ” هل ستقتنيها بفرشها المعتاد أم أنك تفضل الجلد؟ “، مثال آخر مع بائع عقارات: ” سيدي، إذا إشتريت هذا المنزل، كيف ستقوم بترتيب الأثاث في غرفة المعيشة؟ ” أو ” أياً من غرف النوم ستكون للمولود الجديد؟ “، قرارات صغيرة تكبر وتصبح قرارات كبيرة.
من حولك يستخدمون تقنية ( شخص طيب / شخص شرير ) عليك بشكل يومي بحيث أنك لا تستطيع تصديق ذلك، أنظر إلى نفسك في أي وقت عندما تتعامل مع شخصين إثنين، تأمل معي المثال التالي، لنقل أنك مندوب شركة بوليصات تأمين صحي، وأخذت موعداً مع نائب رئيس قسم الموارد البشرية في شركة ما لعرض خطة التأمين الصحي التي تناسبهم، وعندما وصلت لغرفة الإجتماعات، تفاجأت بأن رئيس الشركة جالس مع نائبة ليستمع إلى عرضك وليس النائب فقط، أنت تعتقد أنَّ هذا مجرد إجتماع … أنت مخطئ عزيزي القارئ، هذه إدارة لمفاوضات حقيقية قادمة تتمثل في إثنان على واحد، ولكنك ورغم ذلك تبدأ في شرح عرضك ويظهر لك أنَّ كل شيء على ما يُرام، وتشعر بأنه لديك فرصة رائعة لإغلاق الصفقة، وبينما أنت على هذا الحال، يثور الرئيس فجأة ويُظهر استياءه من خطتك وعرضك المقدم، ويقول في النهاية لنائبه: ” أنا لا أعتقد أنَّ هؤلاء الناس جديون في عرضهم لنا، أنا آسف … يجب أن أغادر، لدي أعمال أخرى أقوم بها “، وبعدها يخرج من غرفة الإجتماعات كالعاصفة يُزمجر.
هذا بالتأكيد سيهز من كيانك إذا لم تكن مُفاوضاً حقيقياً، وبعد ذلك يقول لك نائبه: ” يا إلهي، أحياناً كثيرة يتصرف الرئيس على هذا النحو، ولكني أنا فعلاً معجب بخطتك وعرضك اللذين قدمتهم لنا، كما أعتقد أننا يمكننا أن نعمل سوية إذا إستطعت أن تكون مرناً بعض الشيء فيما يخص العرض المالي، دعنا نضعه مع بعضنا البعض، دعني أرى ما يمكنني فعله لمساعدتك مع الرئيس؟ “، إذا لم تستطع إدراك ما يفعلونه معك، ستجد نفسك ترد بهذه الطريقة: ” باعتقادك، ما الذي سيجعل رئيسك يوافق؟ “، بعدها لن يمر عليك وقت طويل حتى تجد نائب الرئيس نفسه يفاوضك مباشرة، لأنه من البداية ليس في صفك، إسأل نفسك لمن يعمل نائب الرئيس؟ من الذي يدفع له راتبه؟ ليس أنت بكل تأكيد، وقد إستخدموا عليك تقنية ( شخص طيب / شخص شرير ) فكن يقظاً.
يستخدم المفاوضون المحنكون مناورات مضادة مختلفة للرد على تقنية ( شخص طيب / شخص شرير ) ومنها:
-
أدرك مناورة الطرف الآخر: على الرغم من أنه يوجد طرق كثيرة مختلفة للتعامل مع المشكلات، إلاَّ أنَّ هذه من أفضل المناورات إذا لم تكن الوحيدة التي يجب تعلمها، ( شخص طيب / شخص شرير ) من المعروف أنها تُربك الناس ليقعوا في الفخ، فعندما تلاحظ أنَّ الطرف الآخر يستخدمها عليك، كل ما عليك فعله هو أن تبتسم وتقول: ” أوه … دعك من هذا، أنت لن تلعب معي ( شخص طيب / شخص شرير )؟ هيا إجلس ودعنا نعمل سوية على إنهاء ما بدأناه “، هذا الأسلوب عادة ما يسبب إحراجاً للطرف الآخر ويجعله يتراجع عن موقفه.
-
كن أنت الشخص الطيب، وشركتك الشخص السيء: قل لهم أنك ترغب كثيراً بتلبية رغباتهم، ولكن يوجد أناس في مكتبك الرئيسي قلقون بتطبيق عروض الشركة حسب المعايير المعتمدة. يمكنك دائماً إظهار شخص سيء وهمي من طرفك يفوق سوءه الجالس أمامك في المفاوضات.
-
تخطى من أمامك لمن هو أعلى: إذا كنت تتعامل مع المشتري، يمكنك أن تتصل بمديره لتخبره أنَّ فريقه يلعبون معك ( شخص طيب / شخص شرير )، وأخبره أنك لا تعتقد أنه يوافق على مثل هذه التصرفات. ولكن يجب عليك دائماً أن تكون حذراً في مثل هذا التجاوز، فمن الممكن أن تنقلب الإستراتيجية عليك وتشتعل النار قبل أوانها بسبب الشعور السيء الذي من الممكن أن ينشب في نفس الطرف الآخر.
-
كلام الشخص السيء يحل المشكلة: في بعض الأحيان مجرد نطق الشخص الشيء يحل المشكلة، خصوصاً إذا كان بغيضاً، لأنه غالباً ما يتعب منه فريقه ويطلبون منه التوقف.
-
الإثنان سيئان: يمكنك أن ترد بشكل مضاد على الـ ( شخص طيب / شخص سيء ) بالقول للشخص الطيب: ” إسمع، أنا أتفهم تماماً ما تحاولان القيام به معي، ومن الآن فصاعداً، أي شيء يقوله لي – الشخص السيء – سأعتبرك أنك أنت الذي قلته “. الآن أنت لديك شخصين سيئين للتعامل معهم مما يساعد على إبطال المناورة. في بعض الأحيان عندما تتخيلهم في عقلك أنهم الإثنان سيئان سيسهل عليك التعامل معهم من دون أن توجه تهمه لأيٍّ منهم.
-
احتكر دور الشخص السيء: إذا ظهر الطرف الآخر مع محام مثلاً ليمثل بكل تأكيد دور الشخص السيء، إقفز مباشرة واحتكر دوره وقل له: ” أنا متأكد من أنك هنا لتلعب دور الشخص السيء، ولكن دعنا لا نسلك ذلك المَنحَى، أنا توَّاق لإيجاد حل لهذا الموقف مثلك تماماً، إذاً لماذا لا ننهج جميعنا مبدأ فوز – فوز، أليس ذلك عادلاً؟ “. هكذا تكون قد سيِّرت الرياح في عكس سفنهم.
هذه المناورة عزيزي القارئ مفيدة جداً حتى عندما يكون الطرفان مدركين تماماً لما يحدث، هذه المناورة التي إستخدمها رئيسا الولايات المتحدة ” جيمي كارتر ” و ” رونالد ريغان ” مع ” مصطفى الخميني ” لتحرير الرهائن الأمريكيين في إيران، فقد كان كارتر قد خسر الإنتخابات الرئاسية أمام ريغان وأراد بحماسة شديدة حل مشكلة الرهائن قبل مغادرة البيت الأبيض، فلعب مع ريغان ( شخص طيب / شخص شرير )، قام كارتر بالإتصال بالخميني وقال له: ” لو كنت في مكانك، لحللت هذه المسألة الآن قبل مغادرتي البيت الأبيض ووصول الإدارة الجديدة لها، أنت لا تعلم كم هم سيِّئون، فالرئيس الجديد ممثل أفلام رعاة البقر، ونائبه رئيس لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، أنت لا تعلم ما يمكن أن يُقدموا عليه هؤلاء المجانين “، بالمقابل، قام ريغان الرئيس الجديد بالإتصال بالخميني وقال له: ” إسمع، إذا كنت في مكانك سأنهي هذه المسألة مع كارتر، فهو شخص لطيف ويمكنك أن تتوصل معه إلى حل وسط، أما أنا … فأنت لا تعلم ما يمكنني الإقدام عليه لحل هذه المسالة عندما أصل إلى البيت الأبيض “، وفي النهاية ماذا حدث؟ … تم الإفراج عن الرهائن يوم تنصيب الرئيس ريغان.
بكل تأكيد كان الإيرانيون يعلمون بشأن حيلة ( شخص طيب / شخص شرير )، ولكنهم لم يريدوا أن يتركوا أي فرصة لريغان لينساق خلف تهديداته، من الواضح فعلاً أنَّ هذه التقنية تعمل بشكل جيد حتى عندما يدرك الطرفان ما الذي يجري فعلاً.
بعيداً قليلاً عن المقالة، ألا ترى عزيزي القارئ أنَّ ما قام به كارتر وريغان معاً قمة في التفاني في خدمة بلدهم؟ لم يحاول كارتر تجاهل ما حدث لأنه قد خسر رئاسة البيت الأبيض، كما أنَّ ريغان لم يحاول أنَّ ينتظر فترة رئاسته حتى يقوم هو بالتفاوض وحده لكسب الإنجاز دون غيره … موقف أكثر من رائع.
تذكر النقاط الرئيسية التالية لتقنية ( شخص طيب / شخص شرير ):
-
يستخدم الناس تقنية ( شخص طيب / شخص شرير ) عليك أكثر بكثير مما قد تعتقده، إنتبه لذلك كلما كنت تتفاوض مع إثنين أو أكثر من شخص.
-
إنها وسيلة فعالة جداً أن تضع العبء على كاهل الطرف الآخر للضغط عليه دون خلق مواجهة أو عداوة.
-
كن ضد هذه الحيلة بفهمها، فهذا التكتيك ظاهر جداً، فعندما توقع بالطرف الآخر بإظهار فهمك وإدراكك لما يقوم به … يتراجع فوراً.
-
لا تكترث كثيراً لإدراك الطرف الآخر لما تفعله، حتى لو كان يعلم ما تفعله تبقى هذه التقنية تكتيكاً قوياً وفعَّالاً. في الحقيقة عندما تتفاوض مع شخص يفهم كل هذه المناورات والتكتيكات، يصبح التفاوض ممتعاً أكثر كلعبة الشطرنج عندما تنافس شخصاً يوازيك بالقوة بدلاً من منافسة شخص ضعيف تستطيع التغلب عليه بسهولة.
ولنا وقفات أخرى مع تقنيات إدارة التفاوض في الأسابيع المقبلة بإذن الله.
المراجع:
“Roger Dawson” author of: “Secrets of Power Negotiation”.
أكثر من رائعه مواضيعك بجد يسعدني التواجد…
@سلطانه, أهلاً وسهلاً بك أختي سلطانة وسعيد جداً بمرورك وإعجابك بمحتوى المدونة.
لك مني كل الشكر والتقدير والفائدة الدائمة، كل التوفيق،