عندما تختفي الحرية

|

حسين يونس

كان العلماء والمثقفون في السابق تحمل مؤلفاتهم الكثير من المعاني القيمة من خلال كلمات قليلة في عددها بليغة في معناها خلافاً لما نحن عليه اليوم، نجد المثقف العربي يكتب الكثير من الصفحات والمؤلفات، لكن معانيها قليلة وقيمتها تكاد تكون معدومة، لماذا يا ترى؟ أليس من المفترض أن يزيد العلم مع كل هذا الإنفتاح والإرث الكبيرين جداً من الموروثات الثقافية الضخمة من العرب وغير العرب؟ أليس من المنطق أن يزداد العلم مع وجود الإسطوانات المدمجة التي تحوي في داخلها مئات الكتب الإلكترونية؟ أليست الشبكة العنكبوتية تنقل لنا كل لحظة مليارات المعلومات المفيدة والتي لو كانت في الأولين لحققوا أضعاف أضعاف ما نقلوه لنا؟ إذاً أين الخلل؟ ما الفرق بيننا وبين السابقين؟

الفرق كبير وجلي لمن لا يعرف السبب، فلما كان الإسلام عزيزاً كان الحق مباحاً لا يُؤاخذ عليه صاحبه، فعندما يبدأ الكاتب بالتأليف، كان يستحضر كل الفوائد المرجوة من مهمته للتعبير عنها بكل صراحة وشفافية، وكان يُجزى عليها خيراً من أولياء الأمور والعامة، أما اليوم فجلّ هم الكاتب ينصب في تمويه المعنى المقصود إيصاله للقراء، مما يستنزف جهده ووقته في إخفاء المقصود في جُمل ضمنية حتى لا يُحاسب عليها في مخابرات الدولة المركزية، فهدفه الأول عند الشروع في الكتابة ألاَّ يُفهم أنه قد قصد ما ينوي الكتابة عنه فعلاً، فيضيع المعنى ولا يتنبَّه لضمنياته إلاَّ الفطن المتمرس في القراءة، وتكون الكتابة كثيرة الكلمات، ركيكة المعاني لضجة الكلمات حولها والتي قضت على بهاءها ورونقها.

أصبح المواطن العربي كمُدَجَنين الأندلس، والمُدَجَنين لفظ أطلق على المسلمين الذين بقوا في بلاد الأندلس التي أعاد الإسبان احتلاها وتدنيسها عام 897هـ الموافق1492م، وهو لفظ أتى قياساً بالدجاج نتيجة حياة الذل والإضطهاد الوحشي التي عاشوها تحت ظل حكم نصارى الإسبان ورغبتهم المطلقة في الحياة، وأيضاً أطلق عليهم المؤرخون لفظ « الموريسكيون »، فقد أجبر الإسبان هؤلاء المسلمين على إعتناق النصرانية بتعميدهم وتحويل دينهم بمقتضى مرسوم ملكي كاثوليكي، وقاموا المساكين برفع شكوى إلى الحكومة الإسبانية يشرحون تضررهم من قانون تنصيرهم لأنهم تعرضوا للإكراه وأنهم يريدون أن يسمح لهم بالهجرة من هذه البلاد، فشكلت لهم محكمة بابوية أصدرت حكماً ضدهم بأنهم صاروا نصارى باختيارهم ولا يحق لهم الخروج من البلاد، ومن هرب فقد خرج عن دين النصرانية وصار مرتداً يجب قتله! ولتطبيق ذلك وضعوا قوات من الأمن تراقب الحدود مع شمال إفريقيا حتى لا يُسمح لهم بالهجرة والهرب خارج إسبانيا، وظلوا يعملون في رعي الخنازير والفلاحة وفي كسح الكنف وتنظيف الشوارع، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

هذا ما يحدث عندما تختفي الحرية ويصبح الوطن سجناً كبيراً، يعاني المواطن العربي نفس الإذلال الذي تعرض له المُدَجَنين في الأندلس، ولكن هذه المرة بشكل مختلف، فسياسة التدجين لم تنكفئ عن المسلمين أبداً، ويعود الخلل في ذلك إلى المنظومة السياسية التي خلعت المواطن العربي من كل القيم والمبادئ التي كان يستند عليها القدماء والسابقون، فأصبح العرب جاهزين للإنصهار في أي مجتمع وأي ثقافة حتى ولو كان ذلك على حساب دينهم وثقافتهم، والخلل الكبير الذي يعتري الجالية العربية في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية خير شاهد على ذلك، ولا أقول الجالية الإسلامية … بل الجالية العربية، إنسلاخ كامل عن الدين قلباً وقالباً – إلاَّ من رحم الله وبقي على العهد وجدَّ واجتهد، هذا ما يحدث عندما يتربى الفرد على أن يكون كأساً خاوياً مهدداً بملئه بالسائل مهما كان حراماً أو حلالاً، تماماً كمقبض الباب يُديره أي أحد وقتما يشاء.

يقول « مالكوم إكس » رحمه الله: ( إذا لم تكن تستند على شي، فأنت ستسقط من أي شيء – If you don’t stand for something you will fall for anything )، ولله الحمد أصبحنا نحن العرب المسلمون لا نستد على شيء أبداً، قل لي بالله عليك ماذا بقي لنا بعدما انسلخنا عن ديننا وثقافتنا خوفاً من إتهامنا بالإرهاب؟ لم يبقى لنا سوى التغني بالثقافات الكافرة حرصاً على الحياة، أصبحنا هامشاً لنصوص الكتاب … ولم نعد الكتاب نفسه الذي كان يُقرأ ويُستقى منه الخير والفائدة، أصبحنا نتسول على موائد ثقافات الشعوب الأخرى، ولسنا كذلك إلاَّ لأننا مُدَجَنون.

الذنب يطال الأفراد أيضاً، فهم متهمون بالتقصير مثل حكوماتهم، فرب الأسرة مازال قادراً على أن يحكم بيته وأسرته ولابد من تحمل المسؤولية، إن كنا عانينا نحن العرب من الإحتلال والتشريد، فقد عانى اليابنيون أكثر منا، وها هم يصنعون التاريخ بثقافتهم الخاصة.

عندما تختفي الحرية، تصبح الحياة آسنة متغيرة الطعم واللون، والعلم دخان لا يُفهم شكله وسرعان ما يختفي، ويُساء فهم الدين على غير ما أراده الله، ويصبح الرجال قلة والذكور كثر كقطعان الخرفان، ويُحجَّر الخير ليصبح كزخات المطر في عام القحط، وتختفي ألوان الله من الدنيا لتصبح صدئة كالحة، والمرء لا يملك من أمره سوى الهجرة، أو حياة المُدَجَنين، أو الرقود في المقابر رغبة بعدم بزوغ الفجر.

 

3 رأي حول “عندما تختفي الحرية”

  1. الحرية والعدل هما أسس تكوين المجتمع المسلم, وفي ظل الحرية والعدل يستطيع الانسان أن يبدع ويفكر ويجتهد ويمكن للمجتمعات أن تتقدم, لكن على الناس أن تتكاتف وتتعاون للحفاظ على حقهم في الحرية والعدل.

    رد
  2. الحرية قرينة الابداع. عندما تذهب القيود التي ذكرتها أخي الكريم فسوف يكون التركيز على ما هو مهم وذو قيمة عوضا عن “استنزاف الجهودوالوقت في إخفاء المقصود”.

    مثلا: Brain Storming Sessions يكون الهدف منها جمع اكبر عدد من الأفكار في بيئة آمنة ومن غير أي انتقاد. في بيئة كهذه, لن يتردد أحد في طرح آرائه أو آرائها ونتيجة, لن تحرم المؤسسة من سماع رأي قد يكون الحل الأمثل لما يريدون.

    كم مرة كنا نجلس في محاضرة, ويدور في ذهننا سؤال ما, ولكن نخشى أن نسأل حتى لا يقال أننا لا نفهم, ويرفع شخص آخر يده, ويسأل نفس السؤال الذي يدور في ذهنك, وتفرح أنت لأن البهدلة ستصيب السائل وليس أنت, ويجاوب البروفيسور: “سؤال رائع ووجيه وكنت أنتظر أحدكم أن يسأله”. وان لم يسأل أحد, يقول البروفيسور: “كنت أتمنى لو سأل أحدكم كذا وكذا” وهو سؤالك. كن حرا واعرض الأسئلة والآراء التي تريد. لابد من خلق بيئة آمنة حتى يتسنى الابداع ويتسنى للجهود أن تكرس فيما هو مهم وفيما يأتي بالنتائج القيمة.

    مثال آخر: انظر لاحتكار الشركات Monopoly وعندما لا يكون المشتري حر في اخياره, فعندها سيكون الانتهاز وستبدد الأوقات والجهود في نقاشات وخلافات حتى نأخذ حقوقنا من ظلم الشركةالمستبدة. ولكن اذا تعددت الشركات, فسيكون عندي كمشتري “حرية” الاختيار والتفاوض وستعم المصلحة على الجميع.

    أعلم أنني نظرت للموضوع من زاوية أخرى ولكن الحرية هي الحرية وستؤدي الى الابداع في أي مكان وفي أي زمان وفي أي موقف ما زال الحر عاقل رشيد.

    رد
  3. عندما يصبح مفهوم ” المسؤولية ” لدى رب الأسرة هو توفير المأكل والمشرب – فقط – لأسرته، فإن مفهوم ” المسؤولية ” يصبح بحاجة لإعادة تعريف الناس به!

    حملة بعنوان: ” خليك مسؤول “، وشعارها: حديث ” كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته “. والفئة المستهدفة فيها: الإنسان العربي، وهدفها: تبصير الإنسان العربي بمسؤوليته الحقيقية تجاه نفسه وأهله ومجتمعه ووطنه وأمته..
    ربما تكون فكرة عملية جيدة!

    فالظروف الحالية ليست بالسوء الذي يحرم الشخص من القيام بأدوار إيجابية في مجتمعه، المشكلة الحقيقية هي في وجود أفراد ذوي عزيمة هشة، وفكر سطحي، واهتمامات لا تتجاوز اشباع حاجات شخصية.. المشكلة الكبيرة هي في الأفراد، أكثر مما هي في السياسة..
    يقول ربنا عز وجل : [ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ]..

    رد

أضف تعليق