عظمة أنثى

|

حسين يونس

«بن فاونتين – Ben Fountain» محامي من ولاية تكساس الأمريكية، أدرك خلال مسيرته المهنية في عالم القانون أنه لا يحب عمله، وعلى الرغم من تفوقه في مجاله إلاَّ أنه عشق الكتابة وتمنى أن يكون كاتباً متفرغاً يوماً ما، وكان في كل ليلة بعد الإنتهاء من عمله يجلس لكتابة قصته الأولى، ولكنه دائماً ما كان منهكاً ويشعر بالتعب، فلم يستطع إكمال الكتابة على الإطلاق من شدة الإرهاق، فقرر أن يترك وظيفته ويتفرَّغ للكتابة. في ذلك الوقت لم يكن فاونتين أعزباً خالٍ من المسؤوليات، بل كان لديه عائلة مكوَّنة من زوجة وطفل رضيع، والحياة في الغرب لها من المسؤوليات ما الله به عليم، فليس سهلاً أن تحيا العائلة حياة كريمة من دون دخل مادي يغطي إحتياجاتها. كان فاونتين مازال في بداية التغيير الكبير الذي طرأ على حياته يشق طريقة في عالم الكتابة والتأليف، ويذكر أنَّ ثلاثين دار نشر رفضت كتاباته ولم توافق على نشرها، لم يكن طريق التغيير لديه مفروشاً بالورود والزهور، فقد استغرق فاونتين وقتاً طويلاً ليصل إلى ما وصل إليه اليوم في عالم الكتابة.

السؤال المهم، كيف تَمكَّن فاونتين من الصمود في مشروعه الجديد؟

الجواب … الأنثى! «شارون فاونتين – Sharon Fountain» زوجته التي كانت أيضاً محامية، والتي أحبت عملها كثيراً كما أحبت زوجها، آمنت به ودعمته وساندته إلى أن أصبح ما يريد. عندما جلس الزوجين ليعيدا ترتيب حياتهم قالت له: (أنت لا تحب عملك وأنا أحبه، فالأفضل أن تترك عملك للتفرغ للكتابة بينما سأبقى أنا أعمل لآتي بالمال)، فعملت على توفير شتى السبل لدعم زوجها، لدرجة أنها كانت تأخذ طفلهما إلى الحضانة في طريقها إلى العمل ليبدأ زوجها الكتابة في مطبخ المنزل من الساعة السابعة والنصف صباحاً إلى أن تعود من العمل.

من الجدير بالذكر أن شارون بقيت تُنفق على زوجها لما يقارب الثمانية عشر عاماً إلى أن استطاع النجاح في بيع إحدى رواياته التي نجحت نجاحاً باهراً، فقد كانت مؤمنة تماماً من أنَّ زوجها كان يُحدث تقدماً في مسيرته ككاتب في كل يوم. يقول فاونتين: (لم تتكلم زوجتي معي عن المال أو تعاتبني ولو لمرة واحدة، بل كانت في كل يوم تجلس إلى جواري، وأنا أتأمل في وجهها … وكانت تدمع عيناي من شدة إمتناني لها، فلم أشعر أبداً بأي ضغط مما تقوم به … لا سراً ولا حتى ضمناً).

نموذج فريد من نوعه في عالم العلاقات الزوجية، وما يزيده نجاحاً … تلك الأنثى العظيمة التي حصدت نجاحها قبل زوجها فمهَّدت له الطريق، فلو لم تكن هي ناجحة في عملها لما نجح زوجها الذي إعتمد عليها كلياً، فنجاح فاونتين كان منبثقاً من رحم نجاح شارون، والتي مازالت تتمتع بنجاحها كمحامية حتى يومنا هذا.

ذكرت في مقال الأسبوع الماضي (رضيت الحياة من دون محمد) كيف قامت والدتي بكل ما أوتيَت من قوة وعزيمة بتأسيس معمل لتصميم وحياكة الملابس النسائية، وهذا كله كان في غضون الأشهر الستة الأولى من قدومنا إلى الأردن إبان حرب الخليج الأولى عام ١٩٩٠م، فلم تكن وقتها تملك التمويل ولا العلاقات اللازمة لإنجاح مشروعها الجديد، ولكنها قبلت التحدي وتحمَّلت كل مخاطر المشروع، وكأنها صعدت قمة جبل لتقفز من حافته، وهي لا تعلم إن كانت المظلة ستفتح إن ألقت بنفسها. الشاهد أنها وهي أنثى أنقذت عائلة بأكلمها، وأصبحت الشريان الأساسي والوحيد لها، وقد منَّ الله عليها وأصبحت سيدة أعمال بكل ما تعني كلمة النجاح من معنى، فهي لم تترك باباً في مجالها إلاَّ وطرقته من تصميم الأزياء وإعطاء الدورات التدريبية والمشاركة في دورات تنافسية على مستوى المملكة الأردنية، والمنافسة على عطاءات زي طلبة المدارس، والحمدلله رب العالمين.

في عام ١٩٩٤م توفي والدي رحمه الله، وكانت تلك سنة قاسية علينا جميعاً، وفي نفس العام كنت على مفترق طرق بين أن أكمل دراستي الجامعية وبين أن أرضخ لأصوات المُرجفين من حولنا التي دعت والدتي لإبقائي في الأردن لتعلم أي صنعة متواضعة بدلاً من تحصيل الشهادة الجامعية، تلك الشهادة التي فتحت لي أبواب الأرض كلها أكثر مما فتحته لي جنسية العالم الأول، فشهادتي كانت جواز سفري الحقيقي حول العالم وليس جوازي الكندي. وبما أنَّ أمي كانت على قناعة تامة بأهمية الشهادة، وضعت كاتماً للصوت على أذنيها كي تُخرس أصوات المُثبطين، وعملت على مدار الساعة لتوفير أقساط الجامعة لي في أوكرانيا. وبما أنها كانت تُدير مشروعها بنفسها ولم تكن موظفة ولديها الكثير من الإلتزامات تجاه باقي أفراد العائلة، تعرض مشروعها إلى نكسة مادية في آخر سنتين من فترة دراستي التي استغرقت ست سنوات لتحصيل درجتي البكالوريوس والماجستير، فلم تستطع إكمال الإنفاق على دراستي الجامعية، وبينما كانت تعلو أصوات المُرجفين من جديد، ظهرت في حياتي أنثى جديدة لم تحتمل الموقف على الإطلاق، ومدت يد العون مباشرة وهنا بدأ فصل جديد في حياتي تجاه هذا المخلوق الجميل.

أُهيَّلة يونس « أم الوليد » شقيقتي ووليَّة نعمتي، ترتيبها الثالثة في الأسرة، ولغةً أُهيَّلة مشتقة من الأهْلِيَّةِ، أي مَا يُؤَهِّلُ الإنسان للقيام بعمل ما، فهي تعني الكفاءة والجدارة، وصدقت العرب يوم قالت (لكل إنسان نصيبٌ مِن إسمه)، فكل من عرف أم الوليد شهد لها بذلك. فعندما سمعت عن العجز المالي الذي عصف بوالدتي، لم تحتمل فكرة عودتي إلى الأردن خاوي الوفاض من دون شهادة، وغيرتها عليَّ جعلتها تلحق بي قبل سحب أوراقي من الجامعة، ولا أنسى ذلك الإتصال الذي جاءني من أمريكا في وقت متأخر بعد منتصف الليل لتخبرني أن أبقى في أوكرانيا لإنهاء الدراسة، وأنها ستقوم بتوفير كل ما يلزمني لذلك، وهذا ما كان، ففضل الله ليس له حدود، فهو الذي منَّ عليَّ بمثل هذه النماذج الأنثوية العظيمة. أذكر أني بكيت كثيراً على الهاتف، ولم أتمالك نفسي، ربما شفقة على نفسي، أو حزناً على أمي التي أنهكتها مسؤولياتنا، وربما قهراً على أم الوليد التي كانت تعمل وقتها في شركة تأمين لتزيد من دخل أسرتها وتساعد زوجها، فالوضع لم يكن يحتمل كل هذا، والتجربة أثبتت أنَّ الزوج الصالح يُعين المرأة على زيادة صلاحها، فعلى الرغم من أنَّ مقال اليوم مُخصص للأنثى، إلاَّ أنه من الإجحاف عدم ذكر فضل زوجها أبو الوليد «باهر برقاوي» الذي أخذ سماعة الهاتف وقال لي ما لن أنساه ما حييت: (لا تحزن … فنحن أهلك، وأنا أخوك الكبير، وقد رأيتك تكبر أمامي منذ أن كنت في الثامنة من عمرك، واليوم نزرع فيك الخير، كي تزرعه في غيرك يوماً ما)، ومنذ أن أتمَّ الله أمر دراستي وتخرَّجت، أصبحت أقبَّل يد أم الوليد كلما تقابلنا، فمَن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والحمدلله الذي تتم بنعمته الصالحات.

أم الحسين وأم الوليد … إناث غيَّرنَّ حياتي، عملنَّ على تحدي الصِعَاب فكان لهن الفضل الأول والأخير في صُنع الفكر والقلم الذي تقرؤون اليوم، فأفضل الخير أن تُمَّد يد العون في الوقت الصحيح وقبل فوات الأوان، فلا ينبغي للأزمات أن تهدم البيوت، بل يجب أن تقوي أركانها وتزيد من متانتها وتلم شمل أهلها.

عندما أنهت أُهيَّلة الثانوية العامة في ثمانينيات القرن الماضي، حصلت على مجموع يُخوِّلها دخول كلية الطب التي تُحب، لكن والدي – رحمه الله – لم يكن يرغب بتغريب إناثه بعيداً، فلم تحظى بتلك الدراسة الجامعية، وبقي طموحها يرافقها طيلة حياتها ولم يتركها لحظة، والحلم الجميل الذي آمنت به ومازالت تحمله في وجدانها، جعلها تصل قريباً مما تريد، حتى وجدت نفسها وأثمرت خيراً على أهل بيتها. فهي اليوم – بفضل الله – تعمل في فريق الترجمة الطبي في مستشفى فيلادلفيا للأطفال في الولايات المتحدة، المُصنَّف الأول على العالم في مجاله، فعلى الرغم من أنها لم تدخل غرفة العمليات كطبيبة، لكن دخلتها كمترجمة لأدق المصطلحات الطبيَّة، ترافق كبار الجرَّاحين في أروقة المستشفى لتكون حلقة الوصل بينهم وبين أهالي المرضى الذين جاؤوا لعلاج فلذات أكبادهم مما إستعصى من الأمراض.

ليس الهدف عزيزي القارئ من سرد هذه القصص الواقعية حشو المقال أو إثارة العواطف … أبداً، ولكني على قناعة تامة من أنَّ الإستشهاد بأمثلة حقيقية مُعاصرة سيُسهل إيصال الفكرة ويشحذ همم إناثنا العرب، فأنا لا أحدثكم عن أمم قد خلت كالأنبياء والصحابة والتابعين، إنما أحدثكم عن بشر مثلنا يعيشون معنا تحديات زماننا، والهدف الأهم من هذا الإستشهاد، أن تعلم الأنثى العربية أنه بإمكانها أن تكون محور الحياة وعامود البيت، وأنها ليست كائناً ثانوياً لا يمكن الإعتماد عليه، فهي وتد أساسي لا يمكن الإستغناء عنه، والحاجة إليها اليوم باتت أضعاف الماضي بكثير.

أضف تعليق