بينما كان يحتسي القهوة في العمل، نظر من نافذة مكتبه وكانت شمس العصر البرتقالية تسطع في عينيه، هذه إشارة أنه قد أزف الرحيل، وكعادته بدأ الحزن يسري في قلبه، فهو لم يفقد حبيباً أو يخسر مالاً، ببساطة.. تذكَّر أنه حان وقت العودة إلى وحدته التي يُبددها خلال ساعات العمل، فالوحدة نافعة فقط عندما تكون اختيارية، وغير ذلك.. هي أداة قتل صامتة.
كان يتأخر في عمله طوعاً حتى يتفادى شعور الوحدة السيء..
– (لكن إلى متى سأبقى على هذه الحال؟) يسأل نفسه..
أليس لجسده وروحه حق للراحة في هذا الحياة الشاقة؟ جلس في مركبته ينظر من حوله كالطفل الصغير الذي خرج للتو من رحم أمه لا يدري أين السبيل؟
انطلقت المركبة وكأنه يعلم الوجهة، لكن كلما اقترب من مكان.. غيَّر رأيه وهو يقول في نفسه..
– (لا أدري إن كنت أريد أن أكون في هذا المكان أم لا؟ لعلي أذهب إلى مقهى أتناول وجبة خفيفة)
وعندما اقترب من مقهى.. شعر بأنه لا يريد أن يأكل أو يشرب، فهو ليس جائعاً ومرارة القهوة السوداء قد طغت على طعم لسانه الذي لم يتوقَّف عن تناولها طيلة ساعات العمل.
أين يذهب إذاً؟
– (لعلي أتصل بأحد الأصدقاء لنخرج سوياً)
ثم أبطأ القيادة وركن المركبة يُقلِّب الأسماء في جوَّاله علَّه يجد مَن يُبدد معه ساعات المساء حتى لا يقع فريسة الوحدة التي باتت تُكإبه.
فلان مشغول مع زوجته، وعلاَّن يقضي المساء مع عائلته، ازداد شعوره سوءاً وهو يشعر نفسه مُتطفِّلاً على أصدقائه المتزوجين..
– (كأني مُشرَّد بلا مأوى.. لكن بشهادة جامعية وعمل مرموق) قال في نفسه..
مرَّت ساعة كاملة وهو يتنقَّل في مركبته بين الطرقات والتعب قد أجهز عليه، فنظر إلى يمينه وهو بجانب مطعم، وإذ بسيدة راقية تربَّعت على عرش الجمال تدخل إليه وتجلس وحيدة وتستعد للطلب، فشعر شعوراً غريباً.. وكانت روحه ترتعد من الداخل، فقرر أخيراً أن يقضي ما تبقى من يومه في ذاك المكان، فركن مركبته وجلس في أقرب طاولة بجوار تلك السيدة ذات المظهر الحسن والرائحة طيبة.
ما أن جلس.. لم تُفارق عيناه مُحيَّاها، أرخى ربطة عنقه قليلاً من دون أن يخدش أناقته، كان حريصاً أن يبقى مُتأنقاً كما لو كان في اجتماع عمل مهم.
بينما كان يختلس النظر إليها بشكل لا يُظهره مُبتَذَلاً، رفع نظره إلى السماء يُخاطب الله في نفسه..
– (أتوسل إليك أن تكون هذه الحسناء نصفي المفقود..)
وما أن أعاد عينيه إليها حتى نظرت إليه السيدة بعفوية.. فارتسمت على وجهها ابتسامة ناعمة لم تتجاوز الثانيتين، وبعدها عادت للنظر في جوَّالها بينما كانت تنتظر قهوتها.
ابتهج ابتهاجاً شديداً وقلبه يخفق بسرعة من روعة النظرة، وعاد بنظره إلى السماء سريعاً وهو يقول..
– (الحمد لك يا رب)
شعر مباشرة بطاقة تسري في جسده وشيء من الحيوية تدبُّ في نفسه، فأشار إلى النادل كي يطلب وهو يفكر سريعاً..
– (هل أقدِّم نفسي لها أم مازال الوقت مُبكراً؟ لعلي أنتظر ابتسامة ثانية بعدها أبادر)
بدأ يتعرَّق من توتره وسرعة تفكيره، كأنه في منافسة على مُناقصة عمل مهمة لا يريد أن يخسرها. عقله يُفكِّر ويُحلِّل.. ما هي أفضل طريقة يمكنه تقديم نفسه إليها من دون أن يظهر بمظهر رخيص؟ فهو لا يُريد لطلبه أن يُفهم بشكل خاطئ.
بينما هو على هذه الحال، كانت روحه المُتعطِّشة لعلاقة شرعيَّة تَبثُّ اشارات غير اعتيادية لعقله الذي أخذ يبنى صوراً فورية لشكل العلاقة المُحتَمَلة، فأخذ يتخيَّل نفسه وهو يستيقظ في الصباح.. يٌعانقها، يتناول معها الفطور، يتناقشون في خطط اليوم والغداء والعشاء والاجازات والأماكن التي سيُحلِّقون إليها، المسارح والمتاحف التي سيزورونها والكتب التي سيقرؤونها والأفلام التي سيُشاهدونها، فازداد حرصه أكثر وأكثر أن يكون تقدُّمه إليها على أفضل ما يكون.
– (سأستطيع أن أُنفِّس لها عن تعبي من العمل ومعاناتي مع مديري الأحمق) قال في نفسه..
كان في تلك اللحظة على أتم الاستعداد أن يعرض عليها الزواج من شدة هيامه بها، كان مُكتفياً بما أمام عينيه كي يُقدِم على هذه الخطوة المصيرية.
كان يَرمق ملامحها الفاتنة ويقول في نفسه..
– (لم أرى في حياتي شعر أنثى بهذا الجمال.. ما هذا الوجه الذي أبدع الخالق في صُنعه؟! يا لها من سيدة..)
نظر إليها وهي تحتسي القهوة والفنجان في يدها..
– (سبحان مَن خلق هذه اليد الناعمة والأصابع الرقيقة)
كان مستمراً في استكشاف تفاصيلها وهو يقول..
– (لا أذكر متى كانت آخر مرة نظرت فيها إلى أظافر طبيعية لسيدة مُحترمة؟)
كان يعشق كل ما هو طبيعي، يحترم بشدة الأنثى التي تصون طبيعتها في زمن بات كل شيء فيه زائفاً.
كانت السيدة في تلك اللحظات تجري مكالمات هاتفية وهي ترتشف قهوتها، فتبتسم قليلاً مع مَن على الهاتف وتصمت قليلاً وهي تُزيح شعرها من على جبينها يُمنَة ويُسرى.
شعر أنه قد يُفارق الحياة إن لم يتقدَّم إليها وينتهز فرصة الرزق الذي وضعه الله أمامه..
– (فإما الآن.. أو سأبقى تعيساً إلى الأبد) قال في نفسه وحماسته تزداد.
قرر أن يُبادر ويستخدم حيلة ليتقدَّم إليها، حيلة يستخدمها الرجال عندما لا يريدون أن يظهروا بمظهر رخيص مُبتَذَل، وبينما كان يُهمُّ للقيام من مكانه، وجدها قد قامت.. ليس لتغادر، ولكن لتستقبل رجلاً بصحبة طفل لم يتجاوز السابعة، فاقترب ذلك القادم منها وجلس بجانبها بعدما قبَّلها، ثم عانقت الولد الصغير وأجلسته بجانبها وأخذت تسأله عن تمرينه اليوم كيف كان؟ فنعتها الطفل بأمي ونعت الرجل الذي قبَّلها بأبي.
كانت هذه الكلمات كافيه لتقضي عليه وعلى حلمه تماماً، هبط في مكانه الذي همَّ ليقوم منه وكأنَّ مَلَك الموت قد قبض روحه، شعر باختناق، وبنما كان وجهه يشحب رويداً رويداً.. تلاقت عيناهما مرة أخرى فبادرته بابتسامة ثانية.. ابتسامة يختلف البشر في ترجمتها ما بين مجاملة أو مبادرة.
في تلك اللحظة، وكأنه أشفق على نفسه المُحتَرقة من وحدتها، فأراد أن يتحلَّى بشيء من الكبرياء ورباطة جأش، فقال وهو ينظر إلى السيدة الجميلة وعائلتها..
– (دائماً ما أقع فريسة الحاجة النفسية.. ولا أُفلح في فهم إشارات القَدَر، هذا الرزق ليس لي.. مازال رزقي في مكان ما ينتظرني، تعبت من البحث عنه والانتظار.. لكني سأستمر.. لأني إن لم أستمر.. فلا معنى لهذه الحياة)
جلس في مركبته وقرر العودة إلى وحدته البائسة، كان يستمع إلى نشرة الأخبار من المذياع، دول عربية تُسامح الأعداء على كل الدماء الماضية.. بل والقادمة، شيك على بياض لسفك المزيد من الدماء، شعر أنه يتألم.. روحه تحترق، بدأت دموعه تذرف كالطفل الصغير وهو يقول..
– (ليت لي في هذه الحياة مَن يُهوِّن علي هذه الأخبار السامة، صدق مَن قال: مسكين مَن ليس له زوجة..)
وصل منزله وكان الوقت قد تأخَّر، صعد إلى بيته وفتح الباب بهدوء، قرر أن يخلد مباشرة إلى النوم لينتهي من هذا اليوم المؤلم، يُريد لعقله أن يفصل ويستريح.
بينما كان يتمدد على الفراش، وإذ بصوت مبحوح يأته من جانبه مباشرة..
– (يوجد بعض البيتزا في الثلاجة إن كنت جائعاً.. لا تنسى مصروف البيت غداً.. تصبح على خير).
هل كان ذلك صوت زوجته، أم أنني أغفلت تفصلية ما؟
نعم