هوليوود ملاذنا الدائم

|

حسين يونس

ماذا تفعل عزيزي القارئ عندما تشعر بالضيق؟ إلى أين تذهب عندما يُخالجك شعور بالإرهاق والإشمئزاز من مجتمعك المحيط بك؟ هل تذهب للصلاة لجوءاً إلى الرحمن؟ أم تذهب للممارسة الرياضة البدنية لتصريف الإجهاد والتخلص من الكيمياء الزائدة في الدم؟ أم أنك تختلي بكتاب تقرأه؟ إن كنت عزيزي القارئ من هذه الفئة، فأنت على خير كبير ومن الحالات النادرة في المجتمع، فالغالبية العظمى من مجتمعنا العربي تذهب إلى المقاهي للتدخين والتحدث مع الأصحاب، أو إلى المطاعم للأكل واهمين أنَّ في ذلك ترويح عن النفس، وأنا أعتبر هذه الفئة غير نافعة وسأطلق عليها إسم « فئة الهزيمة »، أما من يلجأ إلى الصلاة أو ممارسة الرياضة البدنية أو حتى الفكرية كالقراءة مثلاً للترويح عن النفس، فهذه هي الفئة المتميزة دون أدنى شك وسأطلق عليها إسم « فئة النصر »، وهي ومع الأسف قليلة جداً ونسبتها لا تُذكر.

ولكن هنالك فئة متعلمة ظهرت مؤخراً، صاحبة فكر ومبدأ، ولكنها ليست لا من « فئة الهزيمة » ولا من « فئة النصر »، فئة تذهب إلى الشاشة الصغيرة في منزلها للترويح عن نفسها والهروب من الواقع المرفوض لتشاهد أفلام السينما الأمريكية هوليوود وتخيُّل ما يمكن تخيَّله أثناء المشاهدة، وأنا أطلقت عليها إسم « فئة الخيال » لأنها غارقة في الخيال والتمني المُفيدَين، فما حال هذه الفئة؟ ولماذا الأفلام الأجنبية بالتحديد؟

ظهرت « فئة الخيال » مع السهولة التي طرأت في الحصول على الأفلام الأجنبية عن طريق الشبكة العنكبوتية الإنترنت بشكل رقمي لا يحتاج لأشرطة فيديو أو غيرها، فضلاً عن متاجر الأفلام الرقمية التي أصبحت منتشرة في أرجاء المعمورة وبأرخص الأثمان، فمن ينتمي إلى هذه الفئة هو غالباً ما يكون صاحب قضية، لا تتفاجئ عزيزي القارئ … نعم « فئة الخيال » هم أصحاب قضية وفكر، وأغلبهم من الفئة المتعلمة والحاصلة على درجات جامعية عالية، ومُلخَّص قضيتهم أنهم يرفضون الواقع العربي المزري القابع في براثن الهزيمة، والعنصرية المتمثلة بالقَبَلِيَّة النَتِنَة، وشُحّ القدوات العربية القيادية منها وغير القيادية، إضافة إلى فوضى المجتمع المفتقرة إلى النظام، وعلى رأس ذلك كله … إنعدام الأخلاق والمسئولية، كلها أمور أدت إلى ظهور « فئة الخيال » والتي تطمح إلى تحسين الوضع العربي أو الهجرة بعيداً.

لماذا إذاً الأفلام الأجنبية؟ هم مدمنون على مشاهدة الأفلام الأجنبية، ونادراً ما يُشاهدون الأفلام العربية لأنه لا مغزى من مشاهدتها، فهي تذكرهم بالحال العربي المزري كما أنها لا تغذي خيالهم وطموحهم النهضوي، فهم يستسهلون مشاهدة الأفلام الأجنبية وتخيل حياتهم من خلالها لعجزهم عن تغيير واقعهم الأليم، فأجواء الأفلام الأجنبية جميلة ومُنمَّقة، والكل فيها يمتلك النقود والمنزل الواسع والمركب الهنيء والزوجة المثالية ووظيفة الأحلام، معاملة الأفراد لبعضهم البعض من أرقى ما يكون من تعاون وتآزر وتفكير جماعي، وكل مشكلة لها حل ولا شيء يقف أمام العقل والإرادة، كما أنَّ الأفلام الأجنبية تجذب المشاهدة بإثارتها وجودة صناعتها وإخراجها.

فئات المجتمع

تحدثت إلى الكثير ممن ينتمون إلى هذه الفئة، وتجاذبنا أطراف الحديث حول روعة الأفلام الأجنبية، ولكن عندما تسألهم لماذا هم يشاهدون هذه الأفلام بكثرة، تجدهم لا يعترفون بالحقيقة أبداً، فهم يُرجعون السبب دائماً إلى المتعة والفائدة المرجوة من المشاهدة كطرق التفكير والحوار والتعامل مع الغير، كما أنَّ هذا الفيلم في بدايته كان رواية في كتاب. نعم من الممكن أن يكون هنالك فائدة ومتعة من المشاهدة ولكن ليس هذا هو السبب الرئيسي، ولعل بعضهم يعترف بهروبه من واقع مجتمعه، ولكن الأغلبية ترفض الإعتراف، أنا لست ضد مشاهدة الأفلام الأجنبية، من الممكن مشاهدة فلم أو إثنين في الإسبوع الواحد، ولكن المشكلة أنَّ المشاهدة تتعدى الفلم الواحد يومياً، مما يؤثر سلباً على شخصية المشاهد على المدى البعيد، فأنا أرى أنَّ هذه الأفلام ما هي إلاَّ عبارة عن حقنة تخدير لتستمر الحياة، وأصحاب « فئة الخيال » يُدركون تماماً أنهم كالذي يشرب من ما البحر، لا تزيده إلاَّ ظمأً، فهم لا يستطيعون الهجرة للإستقرار في الغرب من جهة، وإن تحقق ذلك، فلا يمكنهم البقاء إلى الأبد بسبب إختلاف الثقافات والعادات والتقاليد –  إن كانت مُعتبرة – ولا يستطيعون تغيير الوقع العربي من جهة أخرى لأنهم لم يرتقوا إلى مستوى « فئة النصر » بتبني مشروعات نهضوية عملية، فهم بين السماء والأرض.

في الحقيقة عزيزي القارئ أشد ما أخشاه علينا أن يكبر أولادنا وهم يشاهدوننا ونحن في هذا الإدمان لتلك الأفلام، نُكثر التنظير والكلام عمَّا يجب فعله … ولكننا لا نفعل أبداً، فأصحاب « فئة الخيال » ينقصهم العمل، وأنا هنا أتكلم بصيغة الجمع لأني واحد منهم! ولا أريد أن يكبر أولادي وهم يروني في هذا الإبتلاء، أنفق 3 ساعات يومياً على مشاهدة الأفلام الأجنبية، في الحقيقة أنا أرى أنَّ هذا فيه خدش لشخصية الرجل، فمشاهدة التلفاز يومياً لمدة تتراوح ما بين الساعتين والثلاث كفيلة بتثبيط العقل وإضعافه والحد من تفكيره وعطائه … أسأل الله العلي القدير أن يتوب عليَّ وعلى جميع المسلمين، إنه سميع غفور.

أختم مقالة اليوم بتجربة عملية للعقل، لعلها تلقى قبولاً عندما يتم استشعار فائدتها، التجربة هي كالآتي: إجلس في غرفة هادئة لمدة ساعة أو إثنتين … نفس مدة مشاهدة الفيلم، وراقب ما سيطرأ على عقلك من أفكار، ستجد نفسك قادراً على حلّ الكثير من قضاياك العالقة دون أن تشعر، بينما راقب عقلك خلال مشاهدة الفيلم وبعد الإنتهاء منه، ستجد أنك كاره لواقعك أكثر من قبل المشاهدة، كما ستشعر بالخمول والكسل يملأ جسدك وعقلك، ستجد فرق هاتين الساعتين بكل تأكيد. أرجو ممن قام بهذا التمرين، أن يعود ليعلِّق عليه ويشاطرنا تجربته.

 

6 رأي حول “هوليوود ملاذنا الدائم”

  1. رداً على تعليق رامي اللولح

    مرحباً بك عزيزي رامي صديقاً جديداً.

    في الحقيقة لو أعدت قراءة المقالة من جديد بعمق أكبر … ستجد أنك تتفق معي ولا تخالفني.

    أخي الكريم أنا لم أهاجم صناعة الأفلام، ولكني إنتقدت من يقضي وقته كله على شاشة التلفاز وخصوصاً على الأفلام الأجنبية ليهيم على وجهه دون توسط في ذلك ولا إعتدال.

    أما بالنسبة لكونك تتمنى أن تكون مخرجاً سنيمائياً، فهذا شيء طيب وهدفاً إيجابياً وليس بالساهل إنجازه، وبذلك ستكون قد إخترت مشروعاً لحياتك وهذا يعني أنك من ضمن فئة النصر وليس فئة الخيال، فئة الخيال هم الفئة التي تُكثر من الكلام ولا الفعل، ليس لهم مشروعات في حياتهم ولا أهداف، وبالمناسبة، فئة النصر لا تعني أن تكون رجل دين أو جهبذ فقهي … أبداً، كل ما عليك فعله هو أن تنتقل من مرحلة الكلام والتنظير إلى مرحلة الجهد والفعل، إمتلك مشروعاً في حياتك تنفع به نفسك وأمتك وبذلك أنت بدأت الطريق لتحقيق النصر سواء على الصعيد المهني أو الإجتماعي أو أي صعيد أخرى.

    كل التوفيق.

    رد
  2. نسيت أن أذكر أن الأعرابي قال (لا أزيد على ذلك شيئاً) لأني أردت بذلك أنه ليس من المشروط التفرغ في الحياة للدين بالكامل وان كان هذا هو الأكمل.

    رد
  3. أخي حسين أشكرك على الطرح. أنا من العاشقين للشاشة الكبيرة وفي الواقع أحد أحلامي كان أن أصبح مخرجاً سينيمائياً. سوف أحاول تحقيق هذا الحلم ولو تجاوزت الخمسين ان أراد الله. أنا لا أتفق أن يكون تقسيم المجتمع بالشكل الهرمي الذي ذكرت. من الممكن أن يكون كل فرد هو عبارة عن خط عمودي يقسم الهرم بالشكل الذي يميل اليه أكثر. فقد يكون أحدنا من أهل النصر وفي نفس الوقت من هاوي السينما العالمية أو من هواة التأليف والشعر مثلاً (ما المانع)أو قد يكون من أهل الهزيمة والخيال معاً. رسول الله (ص) يعلمنا ذلك عندما جاءه الأعرابي وقال له أرأيت ان شهدت أنه لا اله الا الله وصليت الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وحججت البيت أن أدخل الجنة فقال له صلى الله عليه وسلم نعم ثم قال (أفلح) ان صدق. من الممكن أن يكون هذا الأعرابي سيد تجارة قومه (مهنية عالية) أو قائد قومه (قياده) أو شاعر عصره (ابداع) فهو وقع من وجهة نظري في مكان بين النصر والابداع في هرمك وهذا قد ينطبق عليك وعلي وعلى الآخرين ان شاء الله.

    رد
  4. رداً على تعليق أفلاطونية : السلام عليكم أختي الفاضلة وأهلاً بك.

    في الحقيقة الجلوس على الإنترنت مسألة يجب تفصيلها ولا يمكن أخذها بالعموم، فلو كانت الخمس ساعات في مجملها تم إنفاقها على البحث والقراءة، بالتأكيد هذه ساعات تم استثمارها، أما لو تم إنفاقها على المحادثات والدردشات والتسجيلات المرئية، فهذه شقيقة التلفاز.

    أنا لست ضد التلفاز أو الفيديو، هنالك الكثير من البرامج المفيدة، فعلى سبيل المثال أنا من عشاق البرامج الوثائقية، ولكن لابد من الإعتدال في المشاهدة، لأن التلفاز نفسه كأداة يؤثر على الدماغ سلباً ويزيد من شهية الطعام مما يزيد الوزن، بينما القراءة تحرق الزوائد في الجسم وتنمي خلايا العقل وتبعث على النشاط بعد تمرسها.

    أهلاً بك مجدداً أختي الكريمة.

    رد
  5. ماذا تقول عن من يجمع بين هذه الفئات الثلاث؟ إذا كان الجلوس على التلفزيون مدة ثلاث ساعات يومياً يثبت العقل فكيف يكون العقل مع الجلوس لمدة خمس ساعات إلى الإنترنت !

    رد
  6. لقد كتبت عدة تعليقات في هذه الخانة ولكني سرعان ما أمسحها وأعاود من جديد. وجدت نفسي واقفا موقف المدافع ولكن حسين لم يترك لي مجال فقد أخذ في عين الاعتبار جميع الأسباب حتى الفئة التي أستطيع أن أسعى جاهدا لأكون منها. حتى التجربة فانني لم أستطع أن أنفذها لأكثر من دقائق معدودة وسرعان ما توجهت الى الانترنت للتصفح. وصراحة, لم يطرأ على ذهني سوى العمل ومشاكله. حاولت أن أجبر نفسي على التفكير في أمور مهمة ولكن الهدف من ذلك كان لكي أعود هنا وأكتب عنها. ولكني أفكر الآن, لو كنت أشاهد فلما خلال دقائق فترة التفكير (التجربة) لما حصل أي تفكير أصلا ولما حصلت فائدة اعمال العقل التي أشعر بها الآن.

    رد

أضف تعليق