بدايةً، أود أن أستميح قرَّاء الشبكة الأعزَّاء العذر لتخلفي عن مقال الأسبوع المنصرم 13 ديسمبر 2008م بسبب سفري بعيداً عن مملكة التأليف و الكتابة و إنشغالي بإلتزامات العيد و العائلة، كان بمقدوري نشر مقال سريع يفي بغرض الموعد الأسبوعي، و لكن خشيت ألاَّ يفي بغرض الفائدة و الإحترافية، لذلك أبيت إلاَّ أن أرجئ مقال الجزء الثاني من إدارة التفاوض إلى اليوم على أن أنشر كلاماً رخيصاً يؤلف على عجل دون توخي أخلاقيات الكاتب المتميز، و أعد الجميع بتعويض ما فات من خلال تكثيف حجم الكتابة في الأسبوع الواحد بإذنه تعالى.
إستعرضنا في مقدمة إدارة التفاوض المصادر الثمانية للقوة التفاوضية و أهميتها في عملية التفاوض، كما تكلمنا في الجزء الأول من إدارة التفاوض عن كيفية إستخدام مصادر القوة الثمانية في الدورة الحياتية لعملية التفاوض، و اليوم سنتكلم عن الجزء الأهم في هذه الدورة … صفات المفاوض الناجح، و ما هي الأمور التي يجب أن يتمتع بها المفاوض الحذق. في كثيرٍ من الأحيان نجد المفاوضين لا يفلحون في عملية التفاوض حتى مع الدورات العديدة التي يتلقونها، ما السبب يا ترى؟ لماذا نجد بعض المفاوضين أنجح من غيرهم؟
الأسباب كثيرة و متشعبة، سأقوم بسردها كما عودتكم من خلال عناصر رئيسية مع تفصيل كل عنصر على حدا ليسهل الفهم و الإسترجاع المتناسب مع أجزاء العقل البشري المبني على أساس الإستيعاب الجزئي لا الكلي.
-
الموقف – Attitude: المفاوض الناجح لديه القدرة على تحصيل النتائج الإيجابية بواسطة مواقفه الإيجابية ( Positive Attitude ) تجاه الطرف الآخر و تفكيره الإيجابي لما يرى و يسمع، المفاوض الناجح دائماً ينظر إلى نصف الكأس الممتلئ و يتجاهل النصف الفارغ، لابد من إدراك أنَّ كل تفاوض ينتج عنه أحد الإحتمالات الأربعة التالية: ( خسارة – خسارة )، ( فوز – خسارة )، ( خسارة – فوز )، ( فوز – فوز )، المفاوض الناجح يضع نصب عينيه نتائج ( فوز – فوز ) عندما يدخل المفاوضات، و لا يرضى بالخسارة لا لنفسه و لا للطرف الآخر، ليس من الإحترافية و لا من أخلاقيات العمل و التفاوض أن يشعر الطرف الآخر أو العميل أنه تم خداعه أو التحايل عليه، كما أنَّ أحد الطرفين لن يشعر أنه قد حصل على صفقة جيدة أو أنَّ أحدهم قد حصل على أكثر مما يستحق، هذا لن يجدي لا على المدى القريب و لا البعيد.
-
الخبرة – Experiance: بكل تأكيد أنَّ الخبرة تلعب الدور الأهم في فن التفاوض، فالمفاوض الناجح هو المفاوض المحنك صاحب الخبرة ذو الطموح العالي و الفهم الحقيقي لمصادر القوة التفاوضية الثمانية مهما كان موضوع التفاوض، فعليه أن يتمتع بقدرة تحكم بنفسه تحت ضغط المفاوضات و يُبقي ذهنه نقـيَّـاً مهما إشتدت الوطأة عليه، و يُبقي عقله مُنفتحاً مع مرونة في التعامل، و يُدرك أنَّ التنازل في بعض الأحيان لكسب أمور أكثر أهمية ليس ضعفاً أو إنهزاماً، فهو لا يقوم بتنازلات كبيرة تفقده معنى التفاوض، وإن تنازل… فهو يتنازل عن الأمور الصغيرة التي لا تُذكر، و يُصورها للطرف الآخر على أنها تنازلات ضخمة لابد من تقديرها، فالتمرس و العمل الطويل يُكسب المفاوض خبرة في إستخدام مصادر القوة الثمانية، و لو خرجنا من النطاق النظري و إنتقلنا إلى النطاق العملي على أرض الواقع لوجدنا أنَّ إستخدام مصادر القوة التفاوضية الثمانية ليس بالأمر السهل، فهي تحتاج إلى خبرة عملية حقيقية ليتمكن المفاوض من إدارة التفاوض كما ينبغى وفق الأسس و المعايير المهنية العريقة و المُعتَبَرة.
-
التخطيط – Planning: المفاوض الناجح يتجهز لمفاوضاته و يفهمها قبل الوقت المحدد و لا يجعل من نفسه ضحية للوقت، ضعف التخطيط يجعل المفاوض يتنازل عن أمور مهمة وكبيرة بالفعل مما يجعله يندم عليها فيما بعد، لابد من دراسة الأحداث الحقيقية للصفقة و فهمها قبل الشروع في التفاوض، و هذا يتطلب فهم ومراجعة ماضي التعاملات مع العميل، حتى تفهم الأحداث المهمة و تبني عليها خططك، لا تذهب إلى التفاوض و أنت لا تعلم الماضي الحقيقي للتعاملات بين شركتك و العميل.
-
العمل الجماعي – Team Working: العمل الجماعي مع فريق عمل متخصص قبل و بعد عملية التفاوض من الأمور المهمة بكل تأكيد، و هي تعتمد على حجم الصفقة و أهميتها التي من المفترض التفاوض عليها، فلابد من عقد جلسات عصف ذهني ( Brainstorming ) داخلية للخروج بأفضل أجندة للتفاوض، فلا ينبغي للمفاوض أن يخطط أو يذهب وحده للتفاوض، على الأقل لابد أن يكون هنالك شخصين آخرين معه، واحد لكتابة النقاط المهمة للإجتماع، و الآخر للإستماع و مراقبة الحوار التفاوضي، لأنه غالباً ما يفقد المفاوض الرئيسي التركيز على بعض النقاط المهمة و الأمور التي قد تطرأ على النقاش بسبب إنشغاله في تجهيز الردود، فيقوم المراقب بإبلاغ ملاحظاته للمفاوض في فترات الإستراحة، أو يكتبها مباشرة ويضعها أمامه على ورقة إن كان الأمر طارئاً لا يحتمل التأجيل.
-
الأولوية – Priority: المفاوض الناجح يبحث عن القوة في التفاوض و يبدأ من النقاط الأقوى، لأنه مُدرك لدورة حياة التفاوض من الألف إلى الياء، كما أنه مدرك لنقاط القوة و الضعف لدى الطرفين، فهو لا ينبغي له أن يركز على سفاسف الأمور التي لا تجدي نفعاً، لابد له من التركيز على الأمور الكبيرة و المهمة لكلا الطرفين، لابد له من ترتيب أولويات الحوار، و هذا يتطلب تجهيزات مسبقة مع العميل و دراستها مع مديريه و أعضاء فريقه في التفاوض حتى يكون التفاوض مثمراً و ذو نتيجة نافعة.
-
الإتصال – Communication: المفاوضات حالها حال إدارة المشروعات و العلوم الإدارية الأخرى، إذ أنَّ الكثير من المفاوضات قد تفشل بسبب سوء التواصل مع العميل، فلابد من إتقان فنون التواصل مع الطرف الآخر و على رأسها حسن الإنصات الذي يمكن المفاوض من القدرة على الفهم وتبادل الحوار، فلابد للمفاوض من أن يضع نفسه في مكان العميل حتى يتفهم موقفه و يقترح عليه حلولاً مُجديَّة إن كان بالمقدور، و هذا كله يتطلب إتقان فنون التواصل مع الإصغاء التام للطرف الآخر و التعبير بشكل محترف مما يجعله يوصل المعلومة إلى العميل دون أدنى مشقة.
-
لغة الجسد – Body Language: من فنون التواصل التي يجب على المفاوض الناجح إتقانها هي لغة الجسد، ففهم حركات و تصرفات و إيماءات الطرف الآخر ستمكنك من فهم حالة العميل، بالمقابل، لغة الجسد ستمكن الطرف الآخر من فهم مدى قبولك له و رغبتك في التفاوض معه، كما تمكنه من أن يفهم الموقع الذي ترى نفسك فيه، أهو موقع قوة أم ضعف، و اعلم عزيزي القارئ أن الدراسات قد أثبتت أنَّ لغة الجسد تُشكل 66% من حجم الإتصال مع العميل، كما يُشكل الإتصال الصوتي 27% منه، و الإتصال اللفظي 7%.
-
الإعتراضات – Objections: لابد للمفاوض المتمكن من إدارة الموانع و الإعتراضات التي قد تظهر خلال عملية التفاوض و التي قد تؤثر سلباً على المجريات بحيث تفشل كل محاولات التفاوض، الإستسلام مباشرة دون فهم الأسباب يهدم فكرة التفاوض نفسها و يفقدها معناها، إذ جُعل التفاوض للنقاش و التباحث و الإكثار من الأسئلة التفصيلية، فلعل أحد الطرفين متمنع بهدف الحصول على ميزة ما و هو لا يريد أن يقولها صراحة حتى لا تُحسب عليه نقطة، فإذا تابعت معه النقاش و لو كان ذلك في جلسات متعددة، ستعلم منه ما الذي يريده حقاً، و لك أن تُقرر وقتها إن كان شيئاً مهماً لك بالفعل أم لا، لعله شيء بسيط لن يكلفك شيئاً، امنحه إياه و اكسب نقاط قوة لصالحك، المفاوض الناجح يعلم أنه كما يأخذ يُعطي، حسب الزمان و المكان و الظروف المتاحة، و أحياناً لابد له من أن يُبادر بالعطاء البسيط لكسب ثـقة الطرف الآخر و إثبات حسن النية و مدى الجديَّة في التفاوض، التفاوض عملية متبادلة بين الطرفين من ناحية التنازلات حسب تواجد نقاط القوة و الضعف لكلا الطرفين. غالباً ما يحدث في المفاوضات عوائق تمنع كلا الطرفين من الوصول إلى إتفاق، و هذا ما يجعل الدورة الحياتية لعملية التفاوض صعبة للغاية، لاحظ أنك تستخدم المصادر الثمانية للقوة التفاوضية بشكل رائع و تتفهم لغة جسد العميل، و مع ذلك مازال هنالك عوائق تمنع من الوصول إلى إتفاق لعقد صفقة، المفاوض الناجح هو الذي عندما يصل إلى مرحلة الإنغلاق و الإعتراض من قِبَل الطرف الآخر، يستمر في التفاوض و يصرّ على الوصول إلى إتفاق نهائي ذو معنى، فلابد من أن يستمر في محاورة العميل و يكافح من أجل فهم وجهة نظره، و لماذا هذه العوائق موجودة، هل لأنَّ العميل لديه سعر أفضل؟ أم أنه غير مقتنع بالمنتج؟ أم أنه يعتقد أن الصفقة غير مجدية و ليس فيها أي عوامل نجاح لصالحه أو ضرورة حقيقية؟ أم أنَّ الوقت غير مناسب؟ أم أنه لديه موقف ما سلبي تجاه المفاوض؟ من الممكن أن تستمر المفاوضات أياماً طويلة بهدف عقد الصفقة أو الوصول إلى حل بخصوص مشكلة ما، لكن الأمر يتطلب فهم الموانع و الإعتراضات التي تجعل العميل يمتنع عن الوصول إلى حل يرضي الطرفين، كما أنه من الطبيعي في بعض المواقف ألاَّ يصل الطرفان إلى إتفاق، و هذا يحدث حتى مع المفاوض الناجح.
-
البديهة – Intuition: المفاوض الناجح يمتلك سرعة بديهة متميزة و حاضرة دائماً في المواقف المهمة، بعض النقاط في التفاوض تستلزم حضور البديهة التي تُعين على إلتقاط النقاط المهمة بدلاً من السهو عنها أو إغفالها.
-
الثقافة – Culture: بالطبع كما هو الحال في إدارة المشروعات و العلوم الإدارية الأخرى، لابد للمفاوض الناجح من فهم ثقافة الطرف الآخر قبل الحكم على سلوكه و ردَّات فعله اللفظية و الجسدية، فهي تختلف من ثقافة إلى أخرى، فالقدرة على التواصل ستتحسن إن إستطاع المفاوض أن يتفهم ثقافة و عادات الطرف الآخر في التعامل مع: ( العمر، الجنس، الحالة الإجتماعية، الخصوصية، المصطلحات و التعابير، القبول و الخضوع … إلخ )، فكلما تفهمت ثقافة الطرف الآخر كلما تمكنت من التفاوض بشكل أفضل.
كلمة أخيرة، كل ما ذكرته اليوم سيصب في مصادر القوة التفاوضية الثمانية بكل تأكيد، و العلاقة بينها وطيدة بحيث لا يمكن للمفاوض أن يتجاهل أياً منها، و لنا وقفات أخرى في إدارة التفاوض في الأسابيع المقبلة إن شاء الله.
المراجع:
“John Michael Pierobon” author of: “Negotiation”.
السلام عليكم
شكراااا جزيلا على مقالاتك المفيدة حفظك الله
أنا طالبة دكتوراه وأحتاج إلى معلومات حول المسؤولية الاجتماعية في علاقة العمل، أتمنى أن تكتب حول هذا الموضوع حتى أكون فكرة حول هذا الموضوع
ودمت منارة للعلم بارك الله فيك وجزاك كل خير.