إدارة التفاوض – الجزء الثالث

|

حسين يونس

لله الحمد والمنة قطعت شوطاً لا بأس به في قراءة إدارة التفاوض وفنونها، وفي كل مرة أتعرض فيها لهذا العلم الشيق، أكتشف مدى جهل الكثير من المديرين ورجال الأعمال وحتى كثير من العملاء الذين لا يعلمون حتى معنى التفاوض، وقد ذهبت إلى أبعد من ذلك عندما شاهدت برنامج “حكاية ثورة” الوثائقي، والذي يعرض حالياً على قناة الجزيرة الفضائية، والذي يتحدث عن القضية الفلسطينية منذ الإحتلال الصهيوني الغاشم لفلسطين وحتى آخر أحداث القضية، وما شد إنتباهي فعلاً في حلقة اليوم وأنا أكتب الجزء الثالث من إدارة التفاوض، الإعتراف الذي قام به عضو اللجنة العليا لإدارة المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية “ممدوح نوفل” الذي تحدث عن مدى جهل أعضاء اللجنة التفاوضية الفلسطينية في مدريد الإسبانية وأوسلو النرويجية، وكيف أنَّ الخمسة الأساسيين في التفاوض من الجانب الفلسطيني كانوا لا يفقهون شيئاً في علوم إدارة التفاوض ولا عن مدى الجريمة التي إرتكبوها بحق الشعب الفلسطيني لتنازلاتهم السهلة لصالح إسرائيل، والأكثر من هذا أنهم لم يقرءوا ما وقَّعوا عليه كما أنهم لم يفهموه أصلاً، وأنا أميل إلى هذا الرأي، لأنهم لو قرءوه وفهموه لكانت هذه الطامة كبرى يترتب عليها “الخيانة العظمى“.

ما علينا، فتلك أمة قد خلت، ولم يبقى منها الكثير، والجيل الجديد أفضل بكثير من سلفه، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبدلنا خيراً منهم، فقد أصبحت قيادات السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية عبارة عن دار عجزة لا يستطيعون لا القيام ولا الجلوس ولا قضاء حوائجهم من شدة ما كـبَّـلوا به أنفسهم بتوقيعات وتعهدات للجانب الإسرائيلي والأمريكي حتى أصبحوا مشلولين تماماً، وهذا وحده لا يؤهبهم للتفاوض، فالمتفاوض هو شخص حر يمتلك شيئاً حقيقياً – غير الهواء – للتفاوض عليه.

دعوني أستهل فقرة اليوم والتي سنبحث فيها تقنيات إدراة التفاوض التي أوجزها بالنقاط السبعة التالية:

  1. أطلب أكثر مما تتوقع الحصول عليه.
  2. أظهر الدهشة والذهول عند العرض الأول.
  3. لا تقول نعم للعرض الأول مهما يكن.
  4. لا تجعل تنازلك الأول كبيراً.
  5. لا تتنازل في التفاوض حتى تحصل على شيء بالمقابل.
  6. إستخدم تقنية ( شخص طيب / شخص شرير ).
  7. لا تبدأ و لا توافق على تقسيم الفرق المالي.

أبدأ اليوم بالنقطة الأولى من تقنيات إدارة التفاوض: ( أطلب أكثر مما تتوقع الحصول عليه )، والتي تعد واحدة من أهم تقنيات قوة التفاوض الرئيسية، ومن ثم سأتطرق للبقية في الأسابيع القادمة بإذن الله تعالى، وأقول في شرح النقطة الأولى، أنك لابد من أن تطلب دائماً من الطرف الآخر في جلسة التفاوض الأولية أكثر مما تتوقع الحصول عليه، لأن الأمور المرجو تحصيلها لا تتسنى إلاَّ بذلك، فقد ذهب “هنري كسنجرHenry Kissinger” وزير الخارجية الأمريكي الأسبق إلى حد القول: ( الفاعلية على طاولة التفاوض تعتمد على المبالغة في مطالب كل طرف )، جملة تستحق التدبر، لماذا يجب علي أن أطلب أكثر مما أتوقع الحصول عليه؟ فكر معي في بعض الأسباب التالية:

  1. لماذا يجب عليك أن تطلب من البائع خصومات أكثر من التي تتوقع أن تحصل عليها؟
  2. لماذا يجب عليك أن تطلب من مديرك أن يمنحك جناحاً ملكياً في الفندق الذي تنزل فيه في رحلات العمل، مع أنك تعتقد أنك ستكون محظوظاً لو حصلت على مكتب خاص لك في عملك؟
  3. إذا كنت في مقابلة عمل، لماذا يجب عليك أن تطلب راتباً أكبر مع ميزات إضافية أكثر من التي تعتقد أنه بمقدورهم أن يوفروها؟
  4. إذا كنت غير راضٍ عن وجبة الطعام في المطعم، لماذا يجب عليك أن تطلب من مدير المطعم أن يلغي كل الفاتورة، رغم أنك تعلم أنهم سيلغون من الفاتورة الجزء الذي لم يحظى بالرضى؟

وعلى صعيد المال والأعمال، إن كنت رجل مبيعات إسأل نفسك التالي:

  1. إذا كنت مقتنعاً أنَّ العميل يرغب في توزيع العطاءات على أكثر من مقاول، لماذا يجب عليك أن تسأله بأن يمنحك كل العطاءات؟
  2. لماذا تقدم للعميل قائمة بالأسعار الكاملة لمنتجاتك، رغم أنك تعلم أنها أغلى مما يدفعه العميل؟
  3. لماذا يجب عليك أن تطلب من العميل الإستثمار في منتجاتك الباهظة وأنت متأكد من أنه لا يملك ميزانية مالية لذلك وليس من الممكن له أبداً إنفاق تلك المبالغ؟
  4. لماذا يجب عليك الإفتراض أنَّ العميل يرغب في تمديد فترة ضمان الخدمات رغم علمك أنه لم يسبق له أن فعل ذلك من قبل؟

إذا أمعنت النظر في الأسئلة السابقة، من المحتمل أن تنتهي ببعض الأسباب المقنعة وراء ذلك، وستتمكن من طلب أكثر مما تتوقع في المفاوضات القادمة، والجواب البديهي أنك بطلبك أكثر مما يتوقع الجميع يجعل لك مجالاً واسعاً في التفاوض، فإذا كنت تبيع، يمكنك دائماً النزول ولا يكنك أبداً الصعود، وإذا كنت تشتري، فيمكنك دائماً الصعود ولا يمكنك أبداً النزول، ولابد من فهم هذه النظرية بحيث أنه يمكنك أن تطير وتبالغ في المطالب، ولكن يتوجب عليك طلب الحد الأقصى لما هو معقول في موقفك، فأنت لا تريد أن تكون أضحوكة للطرف الآخر أو سبباً في إلغاء المفاوضات قبل شروعها.

لكن ما الذي يجعلك فعلاً تطلب أكثر مما تتوقع في المفاوضات؟ تعال معي لنرى الدوافع الحقيقية وراء هذه التقنية، هنالك مبدأ تفاوضي يقول: ( كلما قلت معرفتك بالطرف الآخر، كلما توجب عليك زيادة مطالبك في بدايات التفاوض ) وذلك لسببين:

  1. إذا بدأت التفاوض مع عميل، من الممكن أن تكون إفتراضاتك في غير محلها إذا كنت لا تعرفه ولا تعرف إحتياجاته جيداً، قد يكون على إستعداد لدفع أكثر مما تعتقد، وبالمقابل إذا كنت أنت العميل، فلعل البائع على إستعداد لأخذ أقل بكثير مما تظن.
  2. إذا كانت علاقتك بالعميل جديدة، سوف تكون قادراً على تقديم تنازلات أكبر والظهور بمظهر المتعاون، هذا المظهر الذي يحبه العميل كثيراً، لذلك كلما إستطعت معرفة إحتياجات العميل، كلما إستعطت تعديل موقفك التفاوضي، وعلى العكس من ذلك، إذا كان الطرف الآخر لا يعرفك، فمن الممكن أن تكون مطالبه الأولية أكثر إفراطاً وإجحافاً في حقك.

تذكر أنه إذا كانت مطالبك تفوق الحد الأقصى من المعقول، لابد لك من إظهار بعض الليونة، لأنه إذا كان موقفك الأولي للتفاوض مفرطاً وكان توجهك في التفاوض ( إما أن تقبل أو ترفض – Take it or Leave it )، فتأكد تماماً أنَّ المفاوضات لن تبدأ، سيكون جواب الطرف الآخر بكل بساطة ( إذاً ليس لدينا ما نتحدث عنه )، والمسألة بسيطة جداً، من الممكن تدارك البدايات المفرطة والمُبَالغ فيها بإظهار بعض الليونة.

من الأمور التي تجعلك فعلاً تبالغ في مطالبك الأولية، هو أنك لا تعلم قَدَر اليوم الذي تنوي التفاوض فيه، لعل الله قد كتب لك رزقاً سهلاً تحصل عليه من بداية المفاوضات دون أدنى معاناة، وأيضاً كلما بدأت بسعر أعلى كلما زاد إدراك العميل لقيمة ما هو مُـقـدِم على شراءه، فالنفس البشرية تحب كل ما هو ثمين، تدبر حولك كم من الأمور اليومية الكثيرة التي نشتريها ونضحي لأجلها بمزيد من المال بسبب إسم المنتج المعروف، مع العلم أنَّ السلعة يمكن أن تكون ركيكة نوعاً ما … ومع ذلك نشتريها لاسمها فقط، لذلك أجمل ما قال “وارن بافتWarren Buffet” رجل الأعمال والمستثمر المشهور، أنه من الأمور التي ساعدته على جمع ثروته هو الإقتصاد في الإنفاق، إذ أنه لم يتتبع إسم المنتج – الماركة – يوماً، بل كان يرتضي لنفسه كل ما هو مناسب ومريح وسعره مقبول.

من ناحية أخرى، قارن موقفك إذا أقبلت على مقابلة وظيفية وطلبت أكثر مما تستحق، سيرسخ الإنطباع الأول في ذهن المدير أنك تستحق هذا الراتب، وكذلك إن أردت بيع سيارتك وطلبت أكثر من سعرها في السوق، فسيرسخ في ذهن المشتري أنه من الممكن للمركبة فعلاً أن تستحق هذا المال، إذاً لابد من فهم النفس البشرية جيداً والتي تحب كل ما هو ثمين، هذا الفهم يمكِّن رجل المبيعات من نيل مراده بأقل جهد.

أيضاً لاحظ نقطة غاية في الأهمية، أنك كلما بالغت في المطالب الأولية للتفاوض، كلما بذلك تمكنت أكثر من إدارة ( الإعتراضات – Objections ) أو ( طُرُق مسدودة –  Deadlocks ) الذي قد يطرأ على التفاوض بشكل عفوي وطبيعي، وهذه الموانع تكلمنا عنها في الجزء الثاني من إدارة التفاوض، والذي أود عزيزي القارئ إضافته اليوم وأرجو منك أن تتذكره دائماً، هو أنَّ طرفا التفاوض يخلقان هذه الموانع وهذا الجمود في التفاوض من دون قصد، وهذا يعود سببه إلى أنك لم تمتلك الشجاعة الكافية من أن تطلب أكثر مما تتوقع الحصول عليه، فأصبحت في مأزق لا تحسد عليه، إذ لم يصبح لديك ما تفاوض عليه أو تتنازل عنه، دائماً أطلب أكثر مما تستحق واجعل لنفسك مجالاً للتفاوض، وتذكر دائماً أنَّ أسوأ شيء يمكن أن يحدث بعد إستخدام هذه التقنية هو أن تنال ما تستحقه فعلاً.

وأخيراً، أختم هذه التقنية بنقطة نفسية مهمة، فمن الأسباب التي تجعلك تطلب أكثر مما تتوقع الحصول عليه، هو خلقك لمناخ يشعر فيه الطرف الآخر أنه انتصر عندما بدأت أنت بالتنازل، لأنك إذا ذهبت إلى العميل بأفضل سعر، فلن تترك له أي مجال يشعر من خلاله أنه إنتصر أو حصل على شيء ثمين.

دعونا نلخص النقاط الرئيسية لتقنية ( طلب أكثر مما تتوقع الحصول عليه في إدارة المفاوضات ):

  1. من المحتمل أن تحصل فعلاً على ما طلبته من أول مرة.
  2. تعطيك مجال أكبر في التفاوض.
  3. ترفع من قيمة المنتج في تصور العميل.
  4. تمنع إستمرار الإعتراضات أو طُرُق مسدودة.
  5. تضفي جواً من النصر لدى الطرف الآخر.

ولنا وقفات أخرى في تقنيات إدارة التفاوض في الأسابيع المقبلة بإذن الله.

المراجع:

رأي واحد حول “إدارة التفاوض – الجزء الثالث”

  1. من واقع تجاربي أؤيدك فيماذكرت ولكن احذر من اضاعة الفرصة وتذكر اذا أردت ان تطاع فاطلب المستطاع

    رد

أضف تعليق