أفضل حدث في ٢٠٢٢

|

حسين يونس

كان يمكن أن أكتب لكم مقالاً كلاسيكياً حول أهم إنجازات عام ٢٠٢٢ وأكثر الأمور التي تعلمتها وأنصح الآخرين بها، لكن أحببت أن أكتب لكم مقالاً أكثر عمقاً لأهم ما أراه إنجازاً في هذا عام، فلو سألتموني ما هو أهم حدث؟ لقلت.. مونديال قطر (FIFA World Cup Qatar 2022).

على الرغم من عدم اهتمامي بها، إلاَّ أني لا أمانع أن أعيش لحظات الفرح من خلالها، فلست مولعاً بمتابعتها ومتابعة أحداثها ورموزها كما هو الحال مع الملايين من البشر، لكن من الجدير بالذكر أنَّ ثقافة اللعبة قد تغيَّرت خلال استضافتها لأول مرة على أرض عربية مسلمة، فأقل ما يُحسَب لمونديال قطر أنه حرَّك المياه الراكدة وأعاد الحياة لقضايا فطرية يخشى الناس من شتَّى الأعراق والأديان الخوض فيها خوفاً على أرزاقهم واستقرارهم.

خلال أسابيع المونديال انشغلت كل المنصات الإعلامية حول العالم بمناقشة موضوعات كثيرة غائبة، والأهم أنَّ تلك المنصات أصبحت تُناقش مبادئ الثقافة العربية والإسلامية ومدى نجاعتها مقارنة مع الثقافة الغربية وأنظمته التي تدَّعي مُناصرة الحرية والعدالة والمساواة، وأصبحت تطرح أسئلة مهمة ومَنسيَّة بكل جرأة. على سبيل المثال لا الحصر، كانت الجماهير الغربية التي جاءت إلى قطر مذهولة بحماسة الجماهير العربية، يتساءلون.. كيف تمكَّن العرب من الحصول على كل هذا القدر من الحماسة والمتعة من دون شرب الكحول؟!

قد يبدو سؤالاً سطحياً بالنسبة لنا، لكنه سؤال عميق بالنسبة لغير العرب وغير المسلمين الذين تستند ثقافة الاحتفال لديهم على تناول الكحول للحصول على أعلى درجات السعادة والفرح. فهل فعلاً يمكن الحصول على تلك السعادة من دون تناول الكحول؟ وإن كان هذا ممكناً.. ما الأمور الأخرى التي يمكن التي يفعلها العرب ويجهلها الغرب، يتساءل آخرون؟

تخيَّلوا أنَّ هذا كله حدث فقط في غضون الأسابيع الأربعة للمونديال بسبب إلتزام قطر الدولة الصغيرة بثقافتها العربية وشريعتها الإسلامية، والطريف في الموضوع أنَّ دولة مثل ألمانيا والتي جاهرت بعدائها لقطر بسبب نظافة المونديال وخلوه من أي تلوُّث مُناف للفطرة، وقَّعت منذ أسابيع قليلة اتفاقية لاستيراد الغاز المُسال من قطر وبالشروط التي أملتها قطر ولمدة ١٥ سنة لتعويض نقص الغاز الروسي.

كنت أشاهد كل هذه الأحداث تجري بسرعة وأتساءل.. ماذا لو اجتمعت الدول العربية والإسلامية بإعلامها وعتادها ومواردها لتقوم بمثل ما قامت به قطر؟ كيف سينظر لنا العالم وقتها؟ بل ما القيمة التي كانت ستكون لدولة عربية مثل قطر لو أنها تبنَّت الثقافة الغربية على أرضها خلال المونديال لإرضاء الرأي العام الغربي؟ ما الذي كان سيُميزها عن غيرها من دول العالم؟ لا شيء، فما قامت به قطر كان لم يتوقعه الغربيُّون، وكان غاية في الحنكة والذكاء أدَّى إلى تنظيم مونديال تاريخي بمعنى الكلمة سيذكره التاريخ إلى الأبد، لا يمكن تجاهله أو المرور عليه مرور الكرام.

من أهم الدروس الأخرى المُستقاة من الهجمات الغربية على قطر بسبب نجاحها في تنظيم المونديال، هو فكرة الرفض لكل ما هو جديد ومُختلِف، ففي الوقت الذي يدعو فيه الغرب إلى التطوُّر لمواكبة الحداثة وترويجهم للتعدُّدية وتقبُّل الاختلاف بين ثقافات العالم، قاموا بضرب كل تلك الشعارات بعرض الحائط وركلوها بأقدامهم عندما كان ذلك النجاح آتياً من ثقافة أخرى قد رصدوا لها أموالاً طائلة وجهوداً جبَّارة لطمسها.

الغرب لا يريد أن يرى أفكاراً وإنجازات خارج سيطرته وخارج نطاق المبادئ التي جعلها مُقدَّسة خلال العقود الماضية حتى باتت قانوناً دولياً، لم يتوقع أحد أن تقوم هذه الدولة الصغيرة بتحريك كل تلك المياه الراكدة فيما يخص الشذوذ وحضارة العرب والمسلمين وتحرير فلسطين وحقوق الإنسان والحياة وسط الصحراء العربية القاحلة والكثير من القضايا التي يعشقها صانع الإعلام الغربي ويقتات على بيعها بين عموم الشعوب الغربية حتى باتوا ينفرون من كل ما هو عربي.. إلى أن جاؤوا إلى قطر ورأوا زيف ما كان يُقال لهم طيلة العقود الماضية.

هذه دعوة لاستقلال الأمم برأيها ومبادئها مهما كان المكان والزمان والحدَث الذي تخوضه، وهذا بالضبط ما كنت أدعو إليه في كندا حول أهمية الاندماج بدلاً من الانصهار، فتلك هي التعدُّدية الحقيقية ولا شيء غير ذلك.

من أجمل الأمور التي حدثت في مونديال قطر، رد الجماهير العربية على حملات تشويه القضية الفلسطينية وإظهارها قضية ثانوية لشعب خائن باع أرضه للصهاينة بمحض إرادته، فمونديال قطر شكَّل نقطة فاصلة ومهمة لإظهار حجم تعاطف الشعوب العربية المسلمة والتزامها بتحرير فلسطين، التزام كُتِبَ بالدم أضاع جهوداً كبيرة للذباب الإلكتروني وإعلامه الرخيص في تشويه القضية وإتلاف علاقات العرب فيما بينهم تجاه فلسطين وأهلها.

اللافت أيضاً هو حجم تعاطف الجماهير غير العربية مع قضية فلسطين العادلة لدرجة أدَّت إلى إحباط كان واضحاً في الإعلام الإسرائيلي والمنظمات الصهيونية التي بدت وكأنها لم تتوقع حدوث ما حدث، جمهور اليابان يرفض الظهور في مقابلات الإعلام الإسرائيلي، والجمهور الإنجليزي يمسك بميكروفون المذيع الإسرائيلي في وسط الدوحة ويصرخ (حرروا فلسطين – Free Palestine)، ناهيك عن التزام الفرق العربية التي تأهَّلت لمونديال قطر برفع أعلام القضية الفلسطينية في وسط الملعب وفي لحظات الفرح والنصر، وكأنها إشارة أننا سنفرح قريباً برفع هذه الأعلام على أرض فلسطين التاريخية مهما طال الإحتلال وتكالبت قوى الشر على إرعابنا وإسكاتنا وتحريف مبادئنا التي نؤمن بها.

مونديال قطر استطاع وبكل جدارة تجاوز كل التعتيم الاعلامي العربي المتواطئ مع آلة الاعلام الصهيونية للإجهاز على قضية فلسطين والقضاء عليها إلى الأبد، ولكن ما عساهم فاعلون بقول الله تعالى {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}؟ أين منه سيذهبون؟

المعادلة ببساطة:

  • (الشعوب) لا شيء من دون حق تحيا لأجله..
  • (الحكومات) لا شيء من دون تلك الشعوب..
  • (الأعداء) لا شيء من دون تلك الحكومات المتواطئة..

لتبقى الشعوب صاحبة الكلمة الفصل في هذه المعادلة المصيرية، وكما قال الحكيم، قد تستطيع أن تُجبر الحصان أن يصل إلى النهر، ولكنك لن تستطيع أن تُجبره على الشرب منه، وكذلك الشعوب.. تستطيع أن تأتيها بكل اتفاقات السلام المزعوم، ولكنك لن تستطيع إجبارها على التطبيع.. لن تستطيع.

كم أصبح لافتاً كرههم لكل شيء يمت بالعرب والمسلمين، حتى لباس العرب الأصيل يكرهونه ولا يطيقون رؤيته يتصدَّر الأخبار في أهم اللحظات التاريخية، لم يحتمل الغرب رؤية «ميسِّي» يُتوَّج بكأس العالم وهو يرتدي العباءة العربية (البشت)، الإعلام الغربي بإيعاز من سادتهم لن يتركونا وشأننا حتى نكره ذاتنا العربية وعقيدتنا الإسلامية ونتخلَّص منها، وحتى لو فعلنا ذلك وكفرنا.. لن يرضوا عنا.

نقطة أخرى مهمة لا يمكن المضي قدماً من دون ذكرها، وهي القومية العربية التي نعتز بها نحن كعرب، وهذا الأمر ذكرته صريحاً وبشكل علمي في كتابي (أرض الميعاد – روايتي عن عالم لا نفهمه)، فهذه العروبة ترتفع قيمتها عندما تكون تحت المظلة الإسلامية، وقد ثبت لنا أنَّ فرح فوز الفرق العربية في مبارياتها التاريخية في مونديال قطر لم يكن فرحاً عربياً فقط.. بل كان فرحاً إسلامياً، وإلاَّ.. ماذا تُسمِّي ابتهاج الإعلام التركي وسياسيين أتراك كبار بفوز السعودية على الأرجنتين وتونس على فرنسا والمغرب على إسبانيا؟ بل ماذا تُسمِّي ابتهال الجماهير الأندونيسية إلى الله في تجمعات مهيبة تشاهد انتصارات الفرق العربية من خلال شاشات ضخمة وتُكبِّر وتُصلي على النبي كيف تفوز تلك الفرق الإسلامية؟ ماذا تقول في زيارة المصارع الداغستاني العالمي «حبيب نور محمدوف» إلى الدوحة لمساندة فريق المغرب في مباراته ضد فرنسا؟ هل جاء لأنَّ المغرب بلد عربي أم بلد إسلامي؟

باختصار، مونديال قطر سمح لنا نحن العرب المسلمين أن نكون أنفسنا، أن نكون على سجيتنا، ألاَّ نتحول كي نكون مخلوقات أخرى غير التي نريد، لم أستطع تجاوز ٢٠٢٢ من دون أن أكتب لكم هذه الكلمات المهمة لمرحلة قادمة صعبة على الأسوياء، صعبة جداً لدرجة لا يمكن وصفها.. لن تخلو من تغيير كبير وعميق.

كن جاهزاً لمناقشة ابنك إن جاءك في يوم ليس ببعيد ليقول لك.. كيف سأجد لنفسي مكاناً في مجتمع يسخر من عقيدة باتت مرفوضة وبائدة، أشهد أنَّ ولائي للجهة التي أعمل فيها والتي تكفَّلت برزقي ولا أحد غيرها.

كن مستعداً عندما تذهب ابنتك لحضور زفاف زميلتها في العمل والتي قررت الاقتران بزميلة أخرى، ستقول لك وقتها.. ما الذي تريده مني؟ أتريدني أن أقف ضد الحضارة الإنسانية المتطورة؟ أتريدني أن أفقد عملي؟ أتريد تدميري؟

تمالك نفسك إن وجدت ابنك من لحمك ودمك، يحزم حقيبته للسفر إلى تل أبيب لحضور دورة تدريبية أو مؤتمر علمي بأمر من الجهة التي يعمل فيها، وإن حاولت منعه سيقول لك وقتها.. أتريدني أن أكون منبوذاً في عملي وينتهي بي الحال في غياهب السجون؟ ما الذي سأستفيده منك ومن فلسطين؟

يمكنني سرد الكثير والكثير من التنبؤات المُرعبة والمُحبطة لما هو آت، لكن المقام هنا لا يسمح بالإسهاب أكثر من ذلك، ومَن يتابعني يعلم أني لست صاحب فكر مُتشائم، إنما صاحب فكر واقعي.. وبشدة، ولا يمكن الاختباء خلف كلمات إيجابية رخيصة، فقد شاب الشعر وبلغنا من العمر عتيا، فإن لم يكن لنا دور في توعية المجتمع بدلاً من تخديره، فلا خير فينا ولا في أقلامنا.

تذكَّروا أنه من الحكمة استدراك السلبيات لمواجهتها بدلاً من تجاهلها، لأنه وقتها سيكون الفشل أمر حتمي، ومن هنا نُدرك حكمة الإسلام في سرد أشراط الساعة حتى نتجهَّز ونكون قادرين على المواجهة، وهذه هي قمة الإيجابية.

أسأل الله العلي القدير أن يكتب لنا الخير في عامنا الجديد، وأن يُعطينا خير الأيام القادمة وأن يكفينا شرَّها، وأن يحفظ علينا نعمة التوحيد والفطرة السليمة حتى ننجو في الدنيا والآخرة.

رأي واحد حول “أفضل حدث في ٢٠٢٢”

  1. شكرا استاذ حسين لمجهوداتك في توعية القراء هعلا نحن نعيش في عالم متوحش يضرب بكل القيم الانسانية عرض الحائط و ليس الدينية فقط,
    ان لم نواجه المراحل القادمة بالتمسك بديننا و التصدي للثقافة الغربية فهناك سيكون فشلنا الذريع.

    ان مرت مخططاتهم لن تقموم لنا قائمة

    رد

أضف تعليق