كم هو مؤلم ألاّ يكون لك نقطة إرتكاز ثابتة وقوية تنطلق منها وتعود إليها متى شئت، كم هو شاق ألاّ يكون لك وطن وهوية. في الحقيقة لم أجد أفضل من الكتابة عن الأزمة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج من منظور الهوية والإنتماء في يوم مقالي الأسبوعي الذي وافق تماماً تاريخ نكبة فلسطين 15 مايو 1948م، اليوم الذي انسحبت فيه بريطانيا من فلسطين وأعلن مجلس الدولة المؤقت الإسرائيلي قيام دولة إسرائيل عشية إنتهاء الإنتداب البريطاني وإرسال الجيوش العربية والهزيمة المنظّمة.
أنا لست بصدد شرح القضية الفلسطينية المعروفة للقاصي والداني، والعودة إلى فلسطين حقيقة قرآنية لا يستطيع العُقلاء إنكارها، ولكني بصدد طرح أزمة حقيقية للهوية والإنتماء، التي تكاد أن تنحرف عن مسارها الصحيح وتصبح سلبية وضارة.
فقد عمل الأعداء حثيثاً على إنجاح خطتهم الثانية، ألا وهي إبقاء اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات المهجر في وضعٍ صعب جداً ومجهول بدون هوية أو جنسية، وحتى بدون أرض أو مأوى ثابت، وللأسف ساهمت بعض الدول العربية بإنجاح خطة الأعداء بعدم تجنيس وإستيعاب المهجرّين بحجة ألاّ ينسى الشعب الفلسطيني بلده الأم وهويته الرئيسية، فأتت الخطة أُكُلها، واستفحل المرض والجهل بين أفراد الجيل الأول من الشعب الفلسطيني المشرّد، وإنتهى بهم الحال للعمل بأدنى درجات الأجور في الدول العربية من أجل إعالة عوائلهم التي أذلتهم وأثقلت كاهلهم.
والشعب الفلسطيني معروف بكرامته العالية ونفسه الأبيّة، الشيء الذي أثّر إيجاباً في الجيل الثاني للنكبة، فاجتهد الجيل الأول على تنشئة جيل جديد مُـثـقّـف ومتعلم بأعلى الدرجات العلمية والذين وصلوا إلى أعلى المناصب في جامعات دول العالم المختلفة.
بالتأكيد هذا السيناريو لم يكن حال باقي الشعب الفلسطيني الذي بقيّ حتى جيله الثاني والثالث يعاني الأمرّين، الأمر الذي أدى به للبحث عن بلد جديد يستوعبه بتقديم طلبات هجرة إلى دول أوروبا وأمريكا ومناطق أخرى، ولكنهم لم ينجحوا جميعهم أنذاك بالهجرة، فالذين رُفضوا أخذوا ينتمون إلى فرق وأحزاب يمينيه ويسارية بُغية إيجاد هوية جديدة تتجلى فيها العزّة والأمان لتكون نقطة إنطلاق حياة كريمة.
غالبية الشعب الفلسطيني لم تكن الجنسية الثانية همّه الأكبر من أجل الجنسية ذاتها، هي كانت بمثابة حبل وصول إلى أدنى درجات الحياة المدنية من مأوى ومأكل وتعليم، فهم على رغم حصولهم على جنسية ثانية لم ينسلخوا عن فلسطينيتهم… أبداً، بل بقيت فلسطين في قلوبهم، وغدا حلمهم الأكبر العودة إليها في يوم من الأيام، ودليل ذلك إحياء الكثير منهم للمناسبات الفلسطينية مثل يوم الأرض وذكرى معركة الكرامة ويوم إعلان الدولة الفلسطينية في المنفى وغيرها من المناسبات الوطنية.
كان حريٌّ بالدول العربية توفير الجنسية الثانية والقاعدة الثابتة للفلسطينيين، ليتسنى لهم التركيز على أهدافهم الشريفة كبناء أجيال متعلمة والعودة إلى فلسطين، ولكنهم عاملوهم كغرباء جاؤوا ليسرقوا أوطانهم وينهبوا خيراتها، مع أنّ الفلسطينيين هم الذين بنوا بدمائهم الكثير من البلدان العربية.
وأجمل ما سمعته مؤخراً من شاب فلسطيني يعمل في الخليج وهو بأحسن حال، أنه يودّ تجهيز أوراقه للهجرة إلى كندا، فعندما سألته عن سبب هذه الهجرة قال: “حتى أحصل على الجنسية الكندية، وأتمكن من العودة لتملك أرض في فلسطين”، ما أجمل هذه الأمنية وكم هو هدف رائع.
كم أدمى قلبي ما رأيته من قريب على شاشة التلفاز، عندما مضت سنوات متتالية على اللاجئيين الفلسطينيين الذين غادروا العراق وهم بالعراء على الحدود يستجدون البلدان العربية بتوفير ملجأ ومأوى لهم، إلى أن وصل صوتهم إلى حكومة البرازيل التي تصرفت بإنسانية كاملة وحكمة بالغة، وأرسلت لهم من خلال قنوات الإغاثة العاملة في تلك المناطق أنهم جاهزون لإستقبالهم على أراضيهم اللاتينية، هل يُعقل ذلك… البرازيل وليست دول عربية؟! ولكني قلت في نفسي: “لا تحزن، لعل الله أراد بهم خيراً ألاّ يدخلوا الدول العربية”.
هكذا هي أزمة الهوية والإنتماء موجعة أكثر من حرق الأجساد، كنت دائماً أتساءل على الصعيد المهني، كيف يسهل على الأجانب التنقل بين الشركات في البلدان المختلفة بكل سهولة ويسر؟ فنحن الفلسطينييون نفكر ألف مرة قبل الرحيل من فرصة عمل في بلد ما إلى فرصة عمل في بلد آخر، لأننا نقوم بشحن أغراضنا وعفشنا بالكامل في كل مرة من مكان إلى مكان، ونتكبد الخسائر البدنية والمالية الكبيرة بهذا الترحال بغية الإرتقاء بحالٍ أفضل، لأننا ببساطة نبدأ حياتنا من جديد… من الصفر! فأين الإنجاز في حياتنا بسبب الوقت المهدور؟
ولكني وجدت أن الأجانب لهم بيوت دائمة في بلدانهم، وهم لا يحتاجون إلى الترحال مع أغراضهم الثقيلة، بل هم يشترطون على الشركة المُتعاقد معها توفير سكن مؤثث بالكامل، فيسهل عليهم الترحال والتنقل بكل خفّة ويسر، وكان هذا أحد أسباب نجاحهم وزيادة ثقتهم بأنفسهم، السبب وجود وطن ينتمون إليه ويعودون إليه عندما تشتد بهم الأزمات أو يرغبوا بتغيير عملهم.
فأهمية الوطن والهوية للإنسان هي كأهمية العقيدة والدين، فحب الوطن من المباحات التي لا تتعارض مع الإسلام في شيء، فقد كانت مكة من أحب بقاع الأرض إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج منها قال: (( أما والله لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي وأكرمه على الله ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت )) مجمع الزوائد للهيثمي 3/286.
كم هي رائعة كلمة وطن، وكم هو رائع أن يكون لك بيت ثابت مستقر تعود إليه متى شئت، مأوى تجد فيه قومك الذين يهتمون لشؤونك ويرعون مصالحك، فهل سيأتي اليوم الذي يكون لنا فيه وطن المأوى؟
رداً على تعليق Wafa’a : أحسنت أختي وفاء ومرحباً بك.
بالطبع من لا يشكر الناس لا يشكر الله، وهذا يتطلب منا ترجمة الشكر والعرفان إلى عمل وإنجاز في الأماكن التي آوتنا، ولكن كما تفضلتي … لا بديل للوطن ولا مثيل له أبداً، فهو الرحم الذي أنجبنا لنبقى فيه، وهو المكان الوحيد الذي يسامحنا ويغفر لنا إن أخطأنا في حقه ولا يجبرنا على الرحيل والهجرة عنه.
رداً على تعليق ناديه : أحيِّك أختي الكريمة على هذه الوطنية المنقطة النظير في زمن الغربة والإنسلاخ عن الأصل وكن كل ما هو خير، ومرحباً بك صديقة جديدة.
أختي الكريمة، هذه المؤتمرات هي للتأكيد على تسليم فلسطين … وليست لإسترجاع فلسطين، وحكوماتنا المصونة نجحت في أن تجعل من المواطن العربي تائه … لا هو مع القادة ولا هو مع التابعين … فقط حجر عثرة دون أي قيمة، وظيفته أن يلعن الزمان الذي ولد فيه، وهمه لقمة عيشه فقط، وبذلك نسي فلسطين وكل ما يتعلق بالقضايا العربية المهمة، وهذا بالضبط ما أراده الإستعمار.
لكن الخير قادم بإذن الله بأمثالك وأمثال الشرفاء، ونصر الله قريب ولكن لابد من العلم والعمل حتى نبلغ القمة.
سلام الله عليك ايها الكاتب،
اشكرك على انتقاء هذه النخبه من المواضيع الواقعيه ايها الكاتب ..نعم الكرامه هي الارض والروح وهي الوطن من ليس له كرامه لا يمتلك هذه الارض ولا جذور ..كيف ننقذ شعوبنا في المخيمات من الغوص في متاهات الانتظار الى متى !!واين شعوبنا العربيه التي تظهر التحدي بالمؤتمرات المزعومه وبدون وحده ..كيف الرجوع .؟؟؟ظ واين حق العوده واين الهويه واين الوطن ؟؟ لا يمتلكون هذا ولا ذاك .اين الاصرار والعلم والامل ..لاجواب لهذا لا توجد وحده بيننا حقيقه لا نلوم الاخرين قبل ان نلوم انفسنا ونجمع الشتات …فلسطين المهجر .اينما ذهبو في بلادنا العربيه يحاصرون بجدار عازل لعين كسموم الافعى وبلا هويه فهمهما طال البعاد ومهما حملنا هويه بلد اخر لن ننعم بالامان لاننا ليس لنا ارض سلام والارض تتبع الجذور ..جميل ان نستقر في نلاد اخرى لانه ليس لنا اختيار ولكن بالعلم والوحده والامل نحقق ماربنا وبالقلم والكلمه نقترب من الرجوع باذن الله…فالمعاناه صعبه وكما قيل ..
اننا لا نصنع المعاناه…ولكن المعاناه تصنعنا
فقدما والى الامام ايها الكاتب ولا بد ان القيد ينكسر وترجع فلسطين ما دام عندنا ثقتنا العميقه بانفسنا وبالله سبحانه ونعالى
علينا أن نعرف هويتنا التي تعيشنا وليس فقط ما نحمله في جيوبنا فالغريب ليس غريب الارض والوطن فقط بل هناك غرباء في أوطانه وهم أكثر خطرا على أنفسهم أيضا فالوطن يعيش فينا وكل بلاد الله هي مستقر لنا .. فلنعيش الاستقرا والبناء في كل مكان قدر لنا العيش فيه دون أن ننسى هويتنا وقوميتنا العربية ونقدر ونحترم من أوجدوا لنا الامان في بلاد الله…