فن التفاوض النبوي

|

حسين يونس

فكرت مليَّاً في كتابة مقال يشرح التفاوض من ناحية عملية مستنداً إلى أحداث واقعية، وقلبت التاريخ العربي والأعجمي وعثرت على الكثير من المواقف القديمة والحديثة التي يمكن من خلالها إستنباط وإستشفاف مهارات تفوق ما نقرأه في كتب اليوم، وفي الحقيقية، لم أجد أفضل من البدء في المواقف التفاوضية الموجودة في السيرة العطرة لرسولنا الشريف محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم والتي تحمل في طيَّاتها عِبَر أخلاقية عظيمة ومهارات إدارية عالية ممزوجة بواقعية الموقف دون مبالغة، كما جسَّد رسول الله من خلال تفاوضاته دروساً سجلها التاريخ على أنها كانت فعلاً في صالح الإسلام والمسلمين، وإلى أبعد من ذلك، فعندما نقرأ سيرة الرسول الكريم من يوم بعثته إلى وفاته نجد أنه كان مفاوضاً مُحنكاً بالفعل، فقد كان صلى الله عليه وسلم يفاوض في كل ما يحتمل التفاوض، وكان يُقدِّر وضعه وقوته قبل أن يُصدر أي قرار يترتب عليه نتائج مهمة.

لو نظرنا في تفاوض الرسول الكريم في « صلح الحديبية » عندما تحرك من المدينة المنورة إلى مكة معتمراً واعترضه كفار مكة، الجميع يعلم هذه الواقعة ولا مجال لسرد القصة هنا، ولكن سأسلط الضوء على الجزء الأهم في تفاوض الحديبية، فعندما جاء « سهيل بن عمرو » للتفاوض وعقد الصلح مع المسلمين، إتفق مع رسول الله على الشروط التالية:

  1. رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من عامه وعدم دخول مكة، وإذا كان العام القادم دخلها المسلمون بسلاح الراكب، فأقاموا بها ثلاثاً.
  2. وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس.
  3. من أحب أن يدخل في عقد مع محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد مع قريش وعهدهم دخل فيه.
  4. من أتى محمداً من قريش من غير إذن وليه رده إليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يرد إليه.

موقف رأى فيه المسلمون أنه إذلال لهم وهزيمة رغم قدرتهم على القتال، وكان على رأسهم الفاروق رضي الله عنه، ولكن الرسول الكريم كان يعلم أين الحكمة، كما علم نتائج الحروب والغزوات المستمرة، التي قد لا تأتي بثمار الدعوة المرجوة بنشرها ودخول أكبر عدد من الناس في الإسلام، فالأوقات العصيبة المشحونة تهيج العواطف والعصبيات لِتُهيمن على صوت العقل الذي يهدي بدوره إلى الحق. إذا راجعت شروط الحديبية، تجد أنَّ رسول الله قد أنجز ما أراد دون سفك للدماء، وحتى إن تأخر ما أراده عاماً كاملاً، إلاَّ أنه أنجزه بالفعل، فرسولنا عندما تفاوض على شروط الحديبية لم يتنازل عن هدف التفاوض الإستراتيجي بأداء مناسك العمرة، بل تنازل عن رتوش وصغائر دون أن يُغير الثوابت، فلم يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مشكلة في كتابة « بسمك اللهم » بدلاً من « بسم الله الرحمن الرحيم »، كما أنه لم يجد أي مشكلة في كتابة « محمد بن عبدالله » بدلاً من « محمد رسول الله »، لأن الثوابت باقية، فهو لم يكتب مثلاً بسم آلهة قريش، كما أنَّ هذا التغيير في الخطاب لم يُخسر المسلمين الهدف التفاوضي الأساسي كما ذكرت آنفاً … أداء مناسك العمرة بأمن وسلام وحراسة كاملة، أضف إلى أنَّ المسلمين كانوا بحاجة إلى هدنة مدتها عشرة أعوام بدون حروب للتفرغ للدعوة بأمان ونشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية، وقد أجمع علماء المسلمين على أنَّ هذه الفترة كانت الفترة الذهبية للدعوة.

التفاوض النبوي في صلح الحديبية أفصح عن دبلوماسية عالية جداً تمتع بها رسولنا الكريم، وحتى لمن يقول أنه كان نبياً يتصرف بأمر الله ولم يكن بشراً عادياً، أقول أنظر إلى تلك التجربة نفسها على أنها درس رائع لك وتعلم من أحداثها كيف تفاوض من حولك، كم مرة في اليوم الواحد أو الأسبوع الواحد نصطدم بمثل تلك الحالات مع عملاءنا ومديرينا؟ ألا نسعى دائماً أن نحصل على كلمة ( نعم ) ولكننا في النهاية نحصل على كلمة ( لا )؟ أليس عملائنا دائماً يفضلون حل رابح لهم وخاسر لنا؟ ما ضرَّ قريش السماح للنبي والمسلمين بأداء مناسك العمرة في عام الحديبية؟ لماذا أصروا على أن يتم إرجاء العمرة للعام المُقبل؟ أليس من أجل الشعور بالنصر؟ ألم ترغب قريش بألاَّ يُقال أنها إنصاعت لمحمد؟ كذلك عملاؤنا لا يحبون أن يشعروا أنهم قد انصاعوا لنا؟ أليس من أهم قوانين التفاوض أن تترك المائدة والطرف الآخر يشعر بأنه قد ربح؟ لقد حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء وجه قريش بهذا الصلح وضمن أموراً كثيرة لم يستوعبها المسلمون في بادئ الأمر.

دعوني ألخص نقاط التفاوض الرائعة في الحديبية حسب ما قرأت وفهمت:

  1. ركز على جوهر التفاوض وأهدافه الإستراتيجية واترك سفائف الأمور وصغائرها.
  2. إحكِم ردة فعلك ولا تتعصب لرأيك حتى وإن كان الحق معك، فلا تكن شديد التسامح ولا مُفرط التشدد.
  3. إصغ إلى وجهة نظر الطرف الآخر واحترمها بدلاً من المخاصمة.
  4. أنظر إلى المسألة المتفاوض عليها من الأعلى، واجعل الطرف الآخر يشعر أنك شريك له ولست نداً.
  5. بدلاً من الصياح وتبادل الإتهامات، اجعل الطرف الآخر يفهم أنَّ هنالك مشكلة مشتركة لابد من التعاون في حلها للوصول إلى ( نعم ) أو ( رابح / رابح ) والتعنت لن يوصل إلى شيء.
  6. دع الطرف الآخر يشعر أنك لا تفرض عليه شيئاً هو لا يريده، وأنَّ الأمر في صالحه أيضاً.
  7. أترك الفرصة للطرف الآخر لتحقيق أغراضه بأسلوبك أنت.
  8. لا تجعل الحل يصدر منك لأن الطرف الآخر سيرفضه بإعتباره نصر لك، إجعله وكأنه صادر منه واحفظ ماء وجهه واتركه يشعر بأنه إنتصر.

ختاماً أنصحك عزيزي القارئ بإعادة قراءة أحداث صلح الحديبية من جديد، لأنك ستنظر لها بعمق وفائدة أكثر.

 

7 رأي حول “فن التفاوض النبوي”

  1. عزيزي الاستاذ ، عمل جميل جدا ومميز ، هل يمكنك أن ترسل لي المراجع التي أطلعت عليها. و جزاك الله خير

    رد
  2. اسمحولي انا تلميذة السنة الاولى باكالوريا و عند قولك الرسول صلى الله عليه وسلم كان مفاوضا محنكاً يعني ان هناك عدة امثلة غير صلح الحديبية فهلا افدتني بها لانني في حاجة ماسة اليها و ان كان بمقدورك

    رد
    • الأمثلة كثيرة، مثل مفاوضاته المستمرة مع الكفار يوم فتح مكة والمفاوضات التي كانت حول إبقاء الأصنام أو التخلص منها، أيضاً عندما كانت تأتيه الوفود تفاوضه على الإسلام، فكان يقبل ويرفض وفقاً لما يؤمن به ولما فيه مصلحة الدعوة الإسلامية، ناهيك عن المفاوضات السياسية حول تأمين الجيوش ومن يكون أميراً عليها والكثير الكثير. لكن يتوجب عليك الإبحار في بطون كتب السيرة النبوية حتى تحصلي على المعلومات كاملة.

      رد
  3. موضوع رائع وهل يمكن أن يكون لنا قدوة غير الرسول محمد صلى الله علية وسلم نستند إليه فى مهاراتة ورزانة عقلة وتصرفاتة وحسن إدراكة لما يحيط به من ظروف وأحوال ومتغيرات . لقد بينت لنا جانباً من شخصية محمد القائد ( صلى الله علية وسلم ) الذى يدرك موقفة ومكتسباتة وإمكانياتة وما تبلور عن ذلك من شخصية المفاوض البارع الذى يحصل على ما يريد ويحقق أهدافه بطريقة تجعل أشد أعدائة يشهدون له بمقدرتة الخارقة على التنفيذ والأجمل على إحتواء أعدائة بالرغم من إحساسهم بنشوة النصر ( عليه الصلاة والسلام )

    رد
    • أصبت أخي علي، ويجب علينا أن نبدأ في فهم المهارات النبوية على نحو جديد للإستفادة منها، لابد من الخروج من رتابة التاريخ وبرودة سردة ليصبح واقعاً عملياً اليوم.

      وهذا رد على كل من طعن في الإسلام وجموده وأنه غير صالح إلاَّ لعهد الصحابة … وهذا الكلام غير صحيح على الإطلاق.

      كل التوفيق

      رد
  4. رداً على تعليق لؤي علي

    وفي جعبة العرب والمسلمين الكثير الكثير، ولكن مع الأسف أنَّ طرق تدريس في الوطن العربي والمناهج المُتبعة لا تعلمك إلا الإستهلاك والخمول، والبيوت المسلمة التي لا تملك أي رؤيا أو خطة لتحسين وضعها ووضع مجتمعها، فهي لا تكترث أبدأً لما يمكن أن يقوم به أولادها، ولا يعيرون أي إنتباه للقدرات التي من الممكن أن يتمتع بها الطفل أو المراهق، فتذهب الحهود سُداً في الإتجاه الخاطئ وإنا لله وإنا إليه راجعون.

    الإسلام مدرسة، والرسول المُعلم، وكما يُقال في المثل الحكيم: (عندما يكون التلميذ جاهزاً يظهر الأستاذ)، وأمتنا الآن تستعيد عافيتها وبوادر الخير بدأت في الظهور، والأستاذ موجود، فلابد من إستخدام لغة جديدة في إيصال كلام المُعلم إلى الجيل الجديد حتى يفهم الطالب الحديث المقصود والمراد.

    رد
  5. على رسولنا أفضل الصلاة وأتم التسليم. الرائع أن هناك امورا كثيرة تؤخذ على أنها جديدة وهي بالواقع قد طبقت من قبل رسولنا الكريم وصحابته الكرام ولكنها لم تدون بالطريقة العلمية مثلا كما في مقالات الأخ حسين التفاوضية. أنا أسعد عندما أرى مثل هذه القواعد توصل بمواقف السيرة التي هي مليئة بمثل هذه الجواهر.

    رد

أضف تعليق