البر المفقود

|

حسين يونس

ترددت كثيراً قبل نفض الغبار عن قضيةٍ شائكة وحساسة، من يتطرق إليها يُقذف مباشرة لأنها تُعتبر من المحرمات، ولكني إحتراماً لمبادئ الدين الحنيف واستجابةً لمعاناة أبناء العرب من المسلمين، كان لابد من وقفة صادقة صريحة لفهم معنى البِرّ في الإسلام، وهل التكليف لطرف واحد فقط، أم هو عملية متَبَادلة بين كِلتا أطراف المجتمع؟

عبادات كثيرة تُميز الدين الإسلامي الحنيف، ومن هذه العبادات العظيمة عبادةُ البِرُّ، وأهمها: بِرُّ الوالدين، فبرُّ الوالدين يميز المسلمين عن غيرهم. حيث يُعاني غير المسلمين من إنتشار العقوق في مجتمعاتهم، وعلاقاتهم الأسرية باردة بل تكاد أن تكون معدومة مقارنةً مع المجتمعات الإسلامية، ولكن أتسائل عن مدى فَهم المجتمعات الإسلامية لقضية البِرّ وأخص بذلك الوالدين أنفسهم في مجتمعاتنا العربية، حيث تكثر شكوى الوالدين عقوق أبنائهم، ومن يُتابع برامج الإفتاء على القنوات الفضائية يُدرك مدى إنتشار هذا الوباء، نسأل الله العلي القدير أن يُطهر مجتمعاتنا منه.

ولكن ألا تعتقدون معي أن هذا العقوق الذي ينتشر بكثرة في آخر الزمان مصداقاً لما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم له أسباب كثيرة ومن أهمها الوالدان أنفسهم؟ تأمل معي ماذا يقول نيوتن في قانونه الثالث: (لكل فعل رد فعل، مساوي له في المقدار ومعاكس له في الإتجاه)، بغض النظر إن كان رد الفعل هذا إيجابياً أم سلبياً، لكن بالتأكيد سيكون له رد. للأسف، نسمع دائماً عن بِرِّ الوالدين ونُطالب بتفعيله في الوقت الذي لا نسمع أبداً عن بِرِّ الأبناء، ذلك المصطلح المعدوم من قاموسنا. يُروى أنَّ رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الإبن وأنّبه على عقوقه لأبيه ونسيانه لحقوقه، فقال الإبن: (يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: بلى ، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: أن ينتقي أمه، ويحسن إسمه، ويعلمه الكتاب، قال الإبن: يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك، أما أمي فإنها عبدة كانت لمجوسي، وقد سماني جُعلاً – أي خنفساء – ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً، فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت إلي تشكو عقوق إبنك، وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك) تربية الأولاد في الإسلام ١/١٢٧-١٢٨.

ألم يَعِ الآباء الأفاضل أن عقوق أبنائهم لهم سببه الرئيسي عقوقهم المُسبَـق لأبنائهم؟ ماذا ينتظر الآباء الأجلاَّء من أبنائهم عندما لا يوفرون لهم التربية السليمة والرعاية الحقيقية؟ كيف يتسنى للأبناء أن يودوا آبائَهم وآبائُهم يُشعِرونهم دائماً أنهم قد فُرضوا عليهم بسبب سباق الإنجاب العربي الذي أثقل كاهل العوائل بأعداد كبيرة؟ كيف بهم والآباء متحمسون للإنجاب للمفاخرة بالعدد لا بالكيف، من الصعب أن يكون نتاج هذه الأعراف بِرٌّ للوالدين.

يَنشأ الطفل العربي في حرمان واسع بخلاف الطفل الغربي، إذ تجده يُشارك آبائه همومهم من الصِغَر، ويُفكر معهم في حل معضلاتهم الإجتماعية والمالية والصحية وغيرها من مشاكل الحياة المختلفة وهو برعم صغير لا يفقه قوانين الحياة، إضافة إلى ذلك لا تجد نظاماً عربياً واحداً يدعم طفولته ويجعل له كياناً كما يحدث في أمريكا والدول المتقدمة، تجد معظمهم – إلاَّ من رَحِم الله – يتوق إلى أن يُصبح شاباً يافعاً يعتمد على نفسه ليستقل بعيداً عن أهله.

ولعل من الأمور القديمة المُستجدة التي تجعل الأبناء يعقون آبائهم سوء استخدام الآباء لقضية الغضب وتهديدهم لأبنائهم باستمرار، إذ أنهم يُجبرون أبنائهم على كثير من الأمور التي قد تصل إلى إغضاب الرب عز وجل بحجة الطاعة، وإن لم يفعلوا فسيحل عليهم الغضب إلى يوم الدين، مفارقة عجيبة تجعل الإبن المتفقه أكثر من والديه يحتار ما بين الجنة والنار .. إلى أين المصير؟ الغرب وصلوا إلى آعالي قمم الحضارة والإبن مازال في الوادي يُفكر ليل نهار كيف له أن يُرضي والديه الذين أصبحوا ينافسون الله سبحانه وتعالى في الطاعة – والعياذ بالله – يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف)) الجامع الصحيح للبخاري ٧٢٥٧.

عجيبة أمتي، أذكر أني تعرفت إلى شاب يعمل في دولة خليجية، وكان راتبه جيداً ولكنه كان دائماً في ملابس مُبتذله ويشكو قلة المال وكثرة الديون، فدفعني الفضول إلى سؤاله عن سبب قلة يده وهو يتقاضى راتباً لا بأس فيه، فقال لي والأسى يملأ قلبه: (أجبرني والديَّ أن أسدد قروضهم البنكية التي إقترفوها)، تحمَّـل وزر والديه الذين لم يُفلحوا في تحمل مسؤولياتهم ولم يُخططوا لمستقبلهم ولا مستقبل أبنائهم، ويبقى الإبن البار يُصلح ما أفسده الأولون إلى أن يوارى الثرى، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

البِرُّ المفقود، موضوع جال في خاطري وكان لابد من إثارته ليبدأ الأباء العقلاء بإعادة حساباتهم قبل أن يُفارقوا الدنيا، والله ليسئلوا عما فعلوه مع أبنائهم، يقول الله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} الصافات الآية ٢٤، وسيُسأل الأبناء عما فعلوه مع الآباء، فقضية البِرِّ قضية مُتبَادلة ولها طرفان وليس طرفٌ واحد، وفي الوقت ذاته أدعو الأبناء إلى التَعـقُّـل والتحلّي بالحكمة والصبر، فلا يهدم المسلم بيته ويعصي ربه بحجة طاعة والديه، وليتذكر الأبناء أنهم آباء الغد، فلينظروا إلى التاريخ وليتعلموا منه كي لا يزلّوا ويقعوا في وحل أخطاء السابقين، وليرسموا مستقبلاً واعداً ونماذج حسنة من صور بِرِّ الأبناء التي ستؤدي بدورها إلى بناء المدينة الفاضلة والمجتمع الصحي الخالي من الأوبئة النفسية.

 

5 رأي حول “البر المفقود”

  1. سبحان الله اقرا في مدونتك و أجد ان الكثيير مما تكتب فية نعيشة اليوم واقعا.
    نادرون من مثلك

    Marwan Baz from Yemen
    13,12,2022

    رد
  2. رداً على تعليق ريم حسن
    أشكر متابعتك للمواضيع الحساسة يا ريم،ففي مجتمعاتنا العربية لا تجدي من يجرأ على التحدث في مثل تلك الموضوعات والتي تتراكم مع الزمن حتى تصبح حائطاً عملاقاً من الأسى لا يمكن زحزحته أو إزالته حتى تتجاوزيه لإكمال طريقك إلى المجد.

    لابد من أن يكون الإبن أو البنت التي واجهت تربية سلبية من أهلها نقطة تحول إلى الخير … لابد من أن نكون نحن الأبناء نقطة التصحيح والتي سيجزينا الله عليها خيراً في الدنيا والآخرة وسيذكرنا التاريخ أننا كنا جيل الترميم لما هدمه الآباء.

    أوافقك الرأي يا ريم على أننا لا يجب أن ننتقم من أهلينا بسبب سوء التربية أو الإهمال أو تقصيرهم … لابد من أن يكون هدفنا دائماً الإصلاح … وإعطاء الفرصة الثانية والثالية حتى يتم الإصلاح.

    أنا أدعو لإستخدام هذا الأسلوب ليس فقط مع الوالدين … ولكن أيضاً مع الأصدقاء والمعارف، ليس من الحكمة أن نحكم بالإعدام على علاقاتنا مع الغير بغض النظر كانت العلاقة قريبة أو بعيدة … لأننا لن نتمكن من الإصلاح، أنا أدعو إلى لفت الإنتباه إلى الأخطاء الصادرة عنهم والتي من الممكن أن تؤدي إلى شر كبير تغرق معها الأهداف الكبيرة في الدنيا والآخرة.

    لكي مني جزيل الشكر والتوفيق إلى تربية حسنة ومستقبل زاهر.

    رد
  3. فعلاً في المفهوم لبس كبير.. والمسؤولية في البر متبادلة.. ومن الصعب لوم الأبناء على الأخطاء التي نتجت عن سوء تربية الأباء..

    هنا لدي ملاحظة، فقد لاحظت أن بعض الأبناء الذين تعرضوا لإهمال والديهم، قد نشأ لديهم كره لوالديهم، مما تسبب في ” تعمد ” رد الصاع صاعين للوالدين!! خصوصاً بعد الاستغناء عنهم والانفصال عن المعيشة معهم..

    ما أود قوله هو أنه رغم الإهمال والأذى الذي قد يتسبب به الوالدان لأبنائهم في الماضي، إلا أنه لا ينبغى أن يُتخذ حجة للإساءة إليهما عمداً في الحاضر!
    نعم قد تحدث بعض ردود الفعل الناتجة عن الغضب الدفين، لكن متى ما تذكر الإنسان حث القرآن والسنة على رضى الوالدين، فالواجب عليه أن يتصالح مع ماضيه ليهدأ حاضره.. فممارسات عقوق الوالدين الحالية هي نموذج يقتدى لأبناء ذلك العاق! وبالتالي تتوالى سلسلة العقوق، وتتوالى أجيال غاضبة مشحونة..

    أيضاً لدينا مشكلة في عصرنا هذا، حيث أن الأبناء باتوا أكثر وعياً من أبائهم بالأساليب التربوية بسبب انتشار الثقافة وبعض المحاولات الإعلامية الجيدة للتنبيه حول هذه المسائل التربوية، في حين أن الآباء تربوا في بيئة قاسية لا ترحم، وكثير منهم يظن – وفقاً للمفاهيم البالية – أن القسوة رحمة!! فهذا ما تربوا عليه.. وتغيير فكرهم الآن مستحيل خصوصاً أن كبير السن يصعب تغيير مسلماته.. ولو أن الابن الذي عانى من قسوة والديه يتذكر أن هذه القسوة ناتجة عن جهل الوالدين وعدم معرفتهم، لالتمس لهم العذر ولكان بهم أرحم وألطف.. ولوفر لأبنائه قدوة حسنة، فيصلح بذلك أبناءه وبقية نسله..
    أما رد عقوق الأبناء بعقوق للآباء فإنه يتسبب في توارث هذا البلاء!

    ووقفة عقلانية من أبناء حكماء، ستؤدي لتحسن كبير في مستوى أجيال المستقبل من الناحية النفسية والسلوكية..

    ويظل حق الوالدين كبير كبير فقد قرن الإحسان بهما بطاعة الله، وهذا أمر يجب أن لا ننساه أبداً أبداً.. فالإحسان إليهما واجب واجب مهما أساؤا، إذ أن تعمد معاقبة الوالدين أمر مستنكر خصوصاً إن كانا قد تقدما في السن وضعفت قواهم الجسمية والعقلية وزادت حاجتهم لأبنائهم..

    لكن الطاعة العمياء والتي يترتب عليها فعل ما يغضب الله هي الخطأ الذي ينبغي التنبه له كما أشرت أخي الفاضل، والتنبه لهذا الخطأ وإيقافه لا يعني مطلقاً التطاول على الإباء والإساءة لهم، إنما يعني التنبه وإيقاف الخطأ ” بإحسان ” ..

    معذرة على الإطالة.. لكن هذا الأمر بات متكرراً بشكل كبير خصوصاً في طبقة المثقفين الذين حصلوا على فرص تعليم وثقافة أفضل من تلك التي حظي بها والديهم..

    رد
  4. الطاعة المطلقة تكون لله ورسوله فقط. الله يجزي والدي كل خير الذي ربى فينا حرية التفكير والتعبير منذ نعومة أظافرنا حتى ولو خالفت رأيه فيفتح بابا للنقاش فاما أن يقنعنا أو نقنعه أو نتفق على أن لنا اراء مختلفة في هذا النقاش ولم يفسد ذلك أبدا للود قضية.

    رد
  5. الاخ الكاتب الفاضل…
    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته…
    موضوع اكثر من رائع تم التطرق اليه من قبل فرد و هو مشكلة و للأسف لدى امه باكملها
    للاسف مفهوم البر لدى الاباء اصبح مفهوما يتماشى مع رغباتهم و نزواتهم
    يرى الاباء و لكن بطريقتهم الخاصه ان على ابنائهم رد الجميل و العرفان على تعبهم لسنين طوال حتى و لو عنى ذلك الغاء حياة الابن و القضاء على حياته المهنية و الزوجية و كم من حالات افلاس و حالات طلاق سببها الاهل ظلما و كأن سمة الاهل هذه الايام هي احتكار خير الابن منذ نعومة اظفاره و حتى مماته مستدلين و متبجحين بحديث المصطفى عليه افضل الصلاة و السلام ” انت و مالك لأبيك”
    يا حبذا لو كان أباؤنا كأباء المسلمين الحقه

    رد

اترك رداً على حسين يونس إلغاء الرد